ويرى مراقبون أن هذه الاشتباكات رغم أنها ليست جديدة بحكم تكررها بشكل شبه منتظم، منذ استقلال الدولتين إثر انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، لكن توقيتها هذه المرة ربما يحمل دلالات تجعلها أبعد من مجرد مناوشات حدودية معتادة، وأنها قد تندرج في سياق تصاعد الشد والجذب بين القوى الدولية المتصارعة على الأزمة الأوكرانية.

صراعات حدود ووجود

يعتقد محللون أن الحرب الأوكرانية بما تنطوي عليه من تعقيدات وتداخل سرديات التاريخ المتضادة بالحاضر، قد فتحت أبواب تصاعد نزاعات الحدود المزمنة التي تتحول أحيانا لصراعات وجود تهدد دولا وكيانات سياسية بأكملها، ولا سيما في الحدائق الخلفية لروسيا والتي كانت ضمن الفضاء السوفييتي كالقوقاز وآسيا الوسطى.

خلفيات الصراع

يقول الخبير في شؤون جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة والأستاذ بكلية الاستشراق بمدرسة موسكو العليا للاقتصاد، رامي القليوبي، في حوار مع “سكاي نيوز عربية”، “جذور هذه الصراعات تعود للحقبة السوفييتية حين كان رسم الحدود الإدارية للأقاليم يتم دون مراعاة التشكيلة الإثنية والعرقية لها، وخير مثال هو الجيب الأرميني ناغورنو كاراباخ في أذربيجان، وإقليم ترانسنيستريا ذو الغالبية الروسية في مولدوفا، ومنطقة دونباس وشبه جزيرة القرم بأوكرانيا، لكنها كانت صراعات كامنة في ظل وجود سلطة مركزية قوية في موسكو، وإثر تفكك الاتحاد السوفييتي في 1991 بدأت الحروب الأهلية والأزمات تنفجر على وقع ذلك، لدرجة أن روسيا نفسها شهدت تفجر نزعة انفصالية حادة في جمهورية الشيشان”.

ماذا يقول القانون الدولي؟

يشرح الباحث أن “القانون الدولي يتضمن قنبلة موقوتة في معالجته لمثل هذه القضايا الحساسة، فهو  يشدد على حق الشعوب في تقرير مصيرها، من جهة أولى، لكنه يضمن وحدة الدول من جهة ثانية، وهكذا تضيع البوصلة وتبقى صراعات من هذا القبيل متقدة فيما راح ضحيتها مئات الآلاف، رغم كمونها حينا وتفجرها حينا، وربما يكون الحل العملي هو تجميد تلك النزاعات، ريثما تتبلور مثلا صيغ حلول وسط سلمية وعقلانية لها”.

رجل الإطفاء الروسي

وعن الدور الروسي لوقف هذه الصراعات ومعالجتها، يقول الخبير في الشؤون الروسية: “روسيا غير قادرة الآن على لعب دور رجل الإطفاء بفاعلية لإخماد هذه الحرائق في محيطها، بسبب انشغالها بالعملية العسكرية بأوكرانيا، وهو ما زاد من ثقة اللاعبين الإقليمين في حدائقها الخلفية ورفع سقف طموحاتهم، وليس مستبعدا هنا أن لوبيات غربية في دول الاتحاد السوفييتي السابق تسعى لخلق حزام من عدم الاستقرار حول روسيا”.

ما قصة الخلاف القرغيزي الطاجيكي؟

يوضح القليوبي أن “الخلاف بين قرغيزستان وطاجيكستان هو في جوهره حول الحدود الممتدة على نحو ألف كيلومتر، تم ترسيم 70 بالمئة منها والاتفاق عليها، لكن النسبة المتبقية وهي كبيرة تبلغ 30 في المئة لم تخضع للترسيم والتراضي، وهي محط خلاف مستمر يتسبب بتكرار مثل هذه الاشتباكات العسكرية بين الطرفين”.

أزمات بالجملة

يقول الخبير العسكري والاستراتيجي مهند العزاوي، في حوار مع موقع “سكاي نيوز عربية”، “فاقمت الحرب الروسية في أوكرانيا ولا شك الأزمات المركبة والمزمنة حول العالم حتى تلك الخامدة منها، فغالبية الجمهوريات المنفصلة عن الاتحاد السوفييتي السابق، تعاني من مشاكل حدودية عويصة واضطراب حاد في العلاقات السياسية وانعكاساتها الأمنية والاقتصادية”.

ضعف الدور الأممي

ويسهب الخبير العسكري في شرح دوافع احتدام الصراعات في منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى، قائلا: “واضح أن المشروع البري بين روسيا واذربيجان وإيران والهند، قد منح باكو ما يمكن وصفه بضوء أخضر موارب لاستخدام القوة لحل نزاعها مع أرمينيا حول إقليم ناغورنو كاراباخ، أما الخلاف بين طاجيكستان وقرغيزيستان فهو مزمن، حيث تتكرر الصراعات الحدودية بينهما بشكل شبه دوري، خاصة مع غياب آلية دقيقة وفعالة لإدارة قضية المياه العابرة للحدود ليس بين قيرغيزستان وطاجيكستان وحسب بل في منطقة آسيا الوسطي بشكل عام، وخاصة مع أوزبكستان التي تتقاسم مع الدولتين وادي فرغانة الخصيب الذي يشكل سلة الغذاء لهذه الدول الثلاث”.

وأضاف: “لم تعد عقيدة الربط والهيمنة للدول الكبرى مؤثرة في ظل انفراط عقد التفاهم الدولي وارتفاع مؤشرات الصراع بينها، مما أتاح للدول المرتبطة باتفاقيات وتحالفات المرونة الكافية للمناورة بعقد اتفاقيات جانبية، كما هي الحال مع الهند مثلا التي تعد حليف تقليدي للولايات المتحدة الأميركية، ولكنها لاعب فاعل في الساحة الآسيوية مشارك في محافل ومنظمات ليست بالضرورة متناغمة مع رغبات أميركا ومصالحها”.

ويستدرك العزاوي :”لكن غالبا هذه الجولة الجديدة من النزاع المتكرر بين بشكيك ودوشنبه كسابقاتها، وهي لا ترتبط مباشرة باضطراب علاقات القوى الدولية الكبرى الحاد على وقع أزمات مثل أوكرانيا وتايوان”.

عقدة ترسيم الحدود

بدورها تقول الباحثة الروسية في العلاقات الدولية، لانا بدفان، في حوار مع “سكاي نيوز عربية”، “المشاكل الحدودية المتكررة بين مختلف الدول التي كانت سابقا ضمن الاتحاد السوفييتي السابق، هي بالدرجة الأولى بسبب عدم ترسيم الحدود بين تلك الدول بشكل واضح ومنصف، وعدم تبلور دور أممي كما هو مطلوب لمعالجة ولجم هذه الصراعات الحدودية المزمنة على شكل بعثات مراقبة دولية مثلا، حتى أنه يلتبس الأمر بحيث يكاد لا يعلم من هو البادىء بإثارة هذه المناوشات الحدودية التي تتحول لحروب دموية، كما حصل في عام 2020 ما بين أرمينيا وآذربيجان”.

ولدى التساؤل عن الدور الروسي، ترد بدفان أن موسكو”تسعى بالطبع لتطويق أي تصاعد لهذه المناوشات التي حدثت بين الجيشين القرغيزي والطاجيكي، عبر اتصالاتها المباشرة على أعلى المستويات مع زعيمي البلدين، خاصة وأنهما يشاركان الآن في قمة منظمة شنغهاي المنعقدة في أوزبكستان”.

أزمة حدودية على هامش قمة شنغهاي

المفارقة وفق محللين أن هذه الاشتباكات الحدودية تمت فيما يحضر الرئيس القرغيزي، صادر جاباروف، ونظيره الطاجيكي، إمام علي رحمان، قمة إقليمية للأمن والتعاون في أوزبكستان .

تتكرر الاشتباكات عبر الحدود “سيئة الترسيم” بين الجمهوريتين السابقتين بالاتحاد السوفييتي، لكنها عادة ما تهدأ سريعا، رغم أنها كادت تؤدي العام الماضي إلى حرب شاملة.

يستضيف البلدان قواعد عسكرية روسية وتربطهما علاقات وثيقة مع موسكو التي دعت هذا الأسبوع إلى وقف الأعمال القتالية.

skynewsarabia.com