ورغم وجود حوالي 30 دولة تصف أعمال القتل التي دارت بين الأرمن والترك أثناء الحرب العالمية الأولى بأنها “الإبادة الجماعية” للأرمن، من بينها ألمانيا، فرنسا، روسيا، الفاتيكان، سوريا، إلا أن خطوة بايدن لها أهميتها لثقل الدور الأميركي، إضافة إلى أنه الوحيد بين الرؤساء الأميركيين الذي اتخذ هذا القرار، فيما كان رؤساء سابقون يتخذون هذا الملف الأرمني ورقة دعاية وقت الانتخابات.
كما أنه من اللافت أن كل من الحزبين الكبيرين في أميركا اتفقوا- رغم كثرة خلافاتهم عقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة– على اعتبار ما حدث للأرمن “إبادة”، فمنذ أيام بعث 38 نائبا بالكونجرس، من الديمقراطيين والجمهوريين، برسالة إلى بايدن جاء فيها: “نقف مع الجالية الأرمنية في الولايات المتحدة وحول العالم لتخليد ذكرى الضحايا، ونقف بحزم ضد أي محاولات للادعاء بأن هذا الجهد المنظم والمقصود لتدمير الشعب الأرمني يمكن وصفه بأي شيء سوى بأنه إبادة جماعية“.
ومنذ تولى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مناصب الحكم، ما بين رئيس وزراء ورئيس جمهورية، في 2002 وحتى الآن، لا يمل من تبشير الأتراك بإحياء “الميراث العثماني”، وإعادة تركيا إلى “حدود” الإمبراطورية البائدة، وبعد حوالي 20 سنة من تدخلاته الميليشاوية في سوريا وليبيا وأذربيجان ومصر وغيرهم لتحقيق هذا الهدف، إذا بتركيا تجاهد حتى لا تتحول إلى دولة منبوذة ومعزولة.
هزَّة لتركيا في الداخل والخارج
وفي حديثه لـ”سكاي نيوز عربية”، يقول الناشط الأرمني كارنيغ أصفهاتي، إن كل رئيس أميركي، استخدم ورقة “الإبادة الأرمنية” في فترة الدعاية الانتخابية، وتمريرها ضمن وعوده العديدة، كما حصل مع باراك أوباما بينما تنصل عن تنفيذه، لكن، اليوم، يبدو أن هناك اتجاه جاد تلك المرة من إدارة بايدن لقطع هذه الخطوة “المتأخرة”، حسب تعبيره.
ويرى أصفهاتي أن تداعيات الاعتراف بالإبادة الأرمنية من قبل الولايات المتحدة ستكون مؤثرة على الداخل التركي بصورة كبيرة، وتحديدا على أردوغان الذي ينبذ سياسات الدول المؤيدة لتورط العثمانيين في هذه “الجريمة التاريخية“.
ويضيف: “سوف يتسبب الاعتراف الأميركي بإبادة الأرمن على يد العثمانيين بتفاقم الأزمات بين أنقرة وواشنطن، خاصة وأن العلاقة بينهما تقع تحت وطأة خلافات وتناقضات عديدة إثر تباين المصالح في عدة ملفات كما هو الحال في سوريا وليبيا“.
أما عن الدعاية التركية التي تؤكد عدم وقوع الإبادة، فيصفها أصفهاتي بأنها ليس بجديدة؛ إذ إنها تصر على “الإنكار وتغيير التاريخ أو بالأحرى تزويره”، وخاصة فيما وصفه بـ”التغيير الديموغرافي” في المناطق التي يعيش فيها المسيحيون من قوميات عدة شرق الأناضول، لافتا إلى أن الأشوريين كذلك تعرضوا للمذابح بإشراف وزير الداخلية العثماني طلعت باشا، ووزير الحرب إسماعيل إنفر باشا، وقائد التخطيط الديمغرافي محمد نظيم.
وتقول تركيا إن عمليات القتل التي تمت بين عامي 1915 و1917 كانت متبادلة بين الأرمن والعثمانيين في إطار “نزاع أهلي” خلال الحرب العالمية، وترفض الرقم الذي يعلنه الأرمن أن قتلاهم وصلوا إلى مليون ونصف شخص.
عقوبات محتملة على تركيا
ومن جانبه، يوضح جوان سوز، الكاتب المختص بالشأن التركي وشؤون الأقليات في الشرق الأوسط، لـ”سكاي نيوز عربية” أن الرئيس الأميركي دونالد ريغان، سبق وأن استخدم مصطلح “الإبادة الجماعية” عام 1981، وهو ما أثار حنق وغضب تركيا، وقتذاك، ولذلك، فمن المرجح أن يتسبب اعتراف بايدن، في خطابه بخصوص الذكرى السنوية للمجازر التي وقعت بحق الأرمن في توتر للعلاقات المأزومة بطبيعة الحال بين أردوغان ونظيره الأميركي“.
وبشكل أكثر تحديدا توقع جوان سوز أن هذه القضية “تتسبب في قمع شديد لعدد من الأحزاب وأعضاء المجتمع المدني والسياسي بتركيا، ومن بينهم حزب الشعوب الديمقراطي الذي هو أول حزب تركي يعترف بالإبادة للأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، حيث يعاقب القانون التركي كل من يتعاطى هذا التوصيف“.
يتفق والرأي ذاته، الباحث في العلاقات الدولية، محمد ربيع الديهي، والذي يلفت إلى أن خطر “تأزمة” العلاقات بين واشنطن وأنقرة، خاصة وأن أردوغان “يدرك صعوبة الاصطفاف مع روسيا كحليف استراتيجي عوضا عن واشنطن“.
ويضيف الديهي لـ”سكاي نيوز عربية”: “يدرك الرئيس الأميركي دور تركيا الوظيفي في استراتيجية في حلف الناتو، لذلك يعمل على المواءمة بين رفضه للنظام التركي وحصره داخل حدود التبادل النفعي والبراغماتي باعتبار أنقرة حليفا للولايات المتحدة، وربما اتضح ذلك من خلال عدم إجراء بايدن أي اتصال باردوغان إلا بعد قرار الولايات المتحدة إقصاء تركيا رسميا من مشروع تطوير المقاتلة أف – 35“.
ويذهب الباحث لأبعد من ذلك؛ حيث يتوقع أن اعتبار واشنطن ما حدث للأرمن “إبادة جماعية” قد يتسبب في فرض عقوبات أميركية على أردوغان فيما يخص سجله الحقوقي الذي يحفل بانتهاكات جمة، وكذلك دعم المعارضة التركية، كما صرح بايدن في وقت سابق، للوصول إلى السلطة عبر الانتخابات وصناديق الاقتراع، وهي الأمور التي تحدث بينما النظام التركي يسعى للتهدئة من خطابه العدائي للخارج، وخفض مستويات التوتر“.