إشارات أردوغان العرقية تدل على أن المسألة بالنسبة للرئيس التركي لا تتعلق في المقام الأول بمؤازرة أي حقوق سياسية لدولة أذربيجان، ولا حتى بمحاولة تكوين توازن سياسي وأمني وعسكري في منطقة القوقاز، بل تنحدر لأن تكون مجرد تأييد عرقي قومي، تبذلها تركيا في سبيل دولة ينتمي سكانها إلى نفس العرق والقومية، بغض النظر عن أحقية وعدالة هذه القضية التي يدخلون حرباً في سبيلها.
القومية الطورانية
في أواخر القرن التاسع عشر، وبينما كانت الإمبراطورية العثمانية تعيش عصر انهيارها المتسارع، بالذات بعد الهزائم التي منيت بها في منطقة البلقان، في مواجهة روسيا وبلغاريا وصربيا واليونان، وحيث كان العرب والأرمن والأكراد يعبرون بمزيد من الشجاعة عما يلحق بهم من مظلومية تجاه هيمنة العنصر التركي على الإمبراطورية العثمانية بكل مفاصلها، بالذات العسكرية والسياسية والاقتصادية، في ذلك الوقت تصاعدت موجات من القومية التركية الفاشية، التي عُرفت وقتئذ بـ”القومية الطورانية“.
كان الشبان الأتراك وقتها يرون بأن مواجهة انهيار الإمبراطورية العثمانية عسكرياً، وصعود المطالب القومية العربية والكردية والأرمنية يمكن حلها بإيجاد إمبراطورية بديلة، تمتد من أواسط آسيا، على الحدود من الصين، حتى بحر قزوين والقوقاز وتركيا الحالية، يكون تمجيد العرق القومي التركي أساس بنائها. سُميت تلك القومية بالطورانية نسبة لهضبة تقع جنوب بحر قزوين، قريبة من أذربيجان الحالية، كان القوميون الأتراك يرون فيها صلة الوصل بين جغرافيات العرق التركي، بين أواسط آسيا والقوقاز والأناضول، أي مركز حلمهم الإمبراطوري/العرقي.
تلاشت تلك النزعة القومية التركي بالتقادم بعد نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، لما حوته من مزاعم مخالفة لحقائق التاريخ، ولمضامينها الفاشية والعنصرية، التي اعتمدت على العرق والدماء وتحطيم الشعوب غير التركية، تلك النزعة التي اعتبرها الباحثون فيما بعد واحدة من المُثل التي استندت عليها النازية الألمانية العرقية. لكن يبدو أن الرئيس التركي أردوغان يسعى راهناً لأن يُحيّ أشكالاً محدثة منها، لأنه يرى في أرمينيا، كجغرافيا وكديموغرافيا، حاجزاً بين التواصل الجغرافي لأبناء العرق التركي.
تأجيج المشاعر القومية
كتبت “آيلا جين ياكلي” مقالة تحليلية مطولة عن هذا الشأن، في دورية (Eurasianet)، أشارت فيه إلى دور القوى الدولية المتساهل مع سياسات أردوغان القومية، والتي أوصلته إلى هذا المستوى من النزعات للتأجيج القومي: “حينما تلاشت الجهود التي تدعمها دولة بحجم الولايات المتحدة، لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين -أرمينيا وأذربيجان- قبل عقد من الزمن، وحتى الآن، فإنها تشجع قيام شخص مثل أردوغان لتأجيج المشاعر القومية لحشد التأييد بين الناخبين الذين تضرروا بشدة من التباطؤ الاقتصادي العميق في بلاده، وللحفاظ على تحالفه مع حزب قومي متطرف يعارض المصالحة مع أرمينيا، هو حزب الحركة الوطنية بقيادة دولت بهجلي، حليف أردوغان السياسي”.
دورية لوس أنجلس تايمز نشرت تقريراً مفصلاً أعدته “لورا كينغ”، شرحت فيه تفاصل مرافقة تركيا لأذربيجان في عدائها لدولة أرمينيا والأرمن، دون أن يكون ثمة أي خلاف سياسي أو جغرافي بين تركيا وأرمينيا، خلا الهواجس والتصعيد القومي، ضد بلد تعتبره تركيا فاصلاً جغرافياً بينها وبين حلفائها من الدول ذات الأغلبية العرقية التركية.
تورد الكاتبة الأحداث التفصيلية السابقة التي أدت لاندلاع هذه الحرب: “أجرت تركيا مناورات عسكرية واسعة النطاق مع أذربيجان في شهري يوليو وأغسطس، ووقفت جهارًا إلى جانب حليفها في نزاع ناغورني كاراباخ، فقط لأن الاثنين يشتركان في عداوة مشتركة مع أرمينيا، التي تلطخت علاقاتها مع تركيا بالإبادة الجماعية للأرمن التي أودت بحياة مئات الآلاف من الأشخاص ابتداءً من عام 1915 في ظل الإمبراطورية العثمانية، التي كانت مقدمة لجمهورية تركيا الحديثة. تنكر الحكومة التركية حدوث تلك الإبادة الجماعية، وهي تفعل أشياء منها راهناً”.
في مقالة مطولة في صحيفة الفايننشال تايمز، يورد ديفيد غاردنر التمدد المبالغ فيه لأردوغان في مناطق جيوسياسية خارج أي مسبب حقيقي، ودون أي لتلك التدخلات من مبررات سياسية واقعة، غير النزعات القومية المطلقة: “إن تحدي تركيا لروسيا في شمال أفريقيا أو بلاد الشام ليس تمامًا مثل المواجهة في القوقاز. في حين أن هذه قد تكون أراض عثمانية سابقة، إلا أنها سياسياً منطقة سوفييتية سابقة. في ظل حكم أردوغان، تم محو الحدود المفاهيمية بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية. كلاهما تم إطلاقه من قبل القومية المشحونة بينما يحاول تدعيم قاعدته المتقلصة. إن لجوئه إلى القوة الصلبة في الخارج، وتهميش أجيال من الدبلوماسيين المخضرمين، يعطي الانطباع بأن تركيا أصبحت مارقة”.
لكن الكاتب يستدرك بأن ذلك لن يطول، لأنه لا يتناسب مع المعايير المنطقية للعلاقات الدولية، فتركيا أردوغان حسب الكاتب تستطيع أن تبني لنفسها أحلاماً قومية بعيدة المدى، لكنها لا تستطيع أن تنفذها، وأنها فقط استفادت من بعض اشكال غض النظر الأميركية طوال السنوات الثلاث الماضية: “من المؤكد أن هناك من يؤيد وجهة النظر هذه في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. إذا فشل الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إعادة انتخابه في نوفمبر، فسيخسر أردوغان الدرع الذي وفرته إدارته. يأتي كل هذا في وقت يكون فيه أردوغان ضعيفاً سياسياً. يمكن أن تنتعش مغامرته في ظل ضعف الاقتصاد والعملة”.