وبلغة الأرقام، كشفت الدراسة أنه يوجد اليوم حوالي 800 ألف مهاجر يعيشون في ألمانيا ويملكون شركاتهم الخاصة، مما خلق 2.3 مليون وظيفة.
ويقابل هذا التطور عند المهاجرين انخفاض عدد رواد الأعمال الألمانيين بمقدار 300 ألف اليوم، عما كان عليه في عام 2005، وفقًا للدراسة نفسها.
فلماذا يلجأ المهاجرون إلى إنشاء مقاولاتهم الخاصة؟ هل الدولة تقدم مساعدات في هذا الشأن؟ أم أنه الحل الوحيد لمحاربة البطالة؟
وفي تصريح لأرماندو غارسيا شميدت، كبير مديري المشاريع في مؤسسة “بيرتلسمان”، لصحيفة “زود دويتشه تسايتونج” اليومية، أكد بدوره أن جزءًا من سبب هذا التطور هو أن الألمان يخافون المخاطرة، فيما الأجانب يميلون إلى إنشاء أعمالهم الحرة بسبب أنهم يجدون صعوبة في دخول سوق العمل، وغالبًا ما يواجهون بعض العنصرية أو لأن بعض المهاجرين قد ينحدرون من ثقافة تشجع على ريادة الأعمال.
ويضيف أن هذا كان هو الحال في كثير من الأحيان مع المهاجرين واللاجئين الذين وصلوا إلى البلاد منذ عام 2015، إذ كافح العديد من المهنيين السوريين والعراقيين للاعتراف بشهاداتهم الجامعية، فيما لم يستطع الكثيرون إثبات أنهم في الواقع أطباء أو مهندسون نظرا لضياع شهاداتهم أثناء الرحلة نحو أوروبا.
منار.. قصة نجاح وتحدي
تعتبر منار صلاح الدين الخطيب إحدى النماذج التي وصلت إلى ألمانيا كلاجئة سورية تحمل أحلاما وتطلعات، قبل أن تصطدم بواقع مرير، دفعها لتغيير مسار حياتها والسير نحو إنشاء مقاولة خاصة بها.
ووصلت منار وأسرتها الصغيرة المكونة من زوجها وابنها إلى ألمانيا عام 2015، أمضوا ستة شهر في مخيمات اللاجئين وبعدها انتقلوا إلى مسكنهم الخاص، لتبدأ رحلة تعلم اللغة والبحث عن عمل وتحضير وثائق الإقامة.
تقول منار في تصريح لموقع “سكاي نيوز عربية”: “بمجرد انتقالنا إلى بيتنا الخاص، بدأت مسيرة تعلم اللغة الألمانية عبر أخذ دروس في معهد خاص، لكن الوضع كان صعبا في البداية، لأن طفلي كان رضيعا لا يتعدى عمره سنتين، و زوجي يعمل، ما اضطرني لمتابعة الدروس عبر الإنترنت”.
تحديات تعلم اللغة الألمانية
استطاعت منار أن تجتاز المستوى الأول والثاني في اللغة الألمانية بتفوق، وخاضت تدريبين متتاليين، ثم بدأت البحث عن عمل.
وتتابع في هذا الشأن: “لم أعتد الجلوس في المنزل دون عمل ودخل مادي، بعثت بسيرتي الذاتية لكل الشركات المهتمة بمجال تخصصي، إذ عملت في سوريا مهندسة زراعة، تخصص علوم تغذية، لكن بحكم أن لغتي ضعيفة وتجربتي المهنية لا تتعدى السنة، قوبلت طلبات عملي بالرفض”.
لم تيأس منار من البحث عن طرق لتسهل ولوجها إلى سوق الشغل، فعمدت إلى فكرة إتمام دراستها والحصول على الماجيستر من الجامعة الألمانية، لكن اكتشفت أن أول شرط لقبولها هو توفرها على مستوى جد متقدم في اللغة.
وتضيف: “كانت تكلفة تعلمي اللغة الألمانية في معهد خاص جد مكلفة بالنسبة لي، كما أن الوصول إلى المعهد يتطلب ساعتين ذهابا وإيابا عبر الحافلة، وبالتالي قررت التعلم وحدي. كان قرارا بالنسبة للكثيرين مجنونا نظرا لصعوبة المستوى المطلوب. أمضيت ثلاثة أشهر ونصف أتعلم اللغة واهتم بطفلي بعد عودته من الروضة، إلى أن حل يوم الاختبار في الجامعة. اجتزت الاختبارين الكتابي والشفهي بامتياز وحصلت على المستوى المطلوب، غير أنني لم أشعر بالسعادة، لأني حينها أدركت أن الخطوة المقبلة مبهمة، لا أملك مستقبلا مهنيا ولا أستطيع الحصول على تدريب”.
صعوبة في ولوج سوق الشغل
كانت منار قد أمضت أربع سنوات من إقامتها في ألمانيا في تعلم اللغة دون الحصول على أمل في الحصول على عمل، استنزفت طاقتها في التنقل بين مؤسسات الدولة طلبا لمساعدة في الحصول على وظيفة.
وتردف قائلة: “كنت أتساءل يوميا عن سبب غياب فرصة إثبات ذاتي مهنيا في هذا البلد، خصوصا أنه كان أمامي زوجي الذي استطاع منذ الوهلة الأولى أن يحصل على عمل محترم وبعدها انتقل إلى آخر دون صعوبات تذكر، وبقدر سعادتي بهذا الأمر بقدر إحساسي بالفشل”.
صدفة خير من ألف ميعاد
وبعد كل هذه المحاولات الفاشلة، وفي جلسة شاي مع صديقة ماليزية، اكتشفت منار أن الحل يتمثل في إنشاء مقاولة خاصة بها، تعتمد على عمل يدوي تنتجه هي نفسها.
وذكرت: “في طريق العودة إلى البيت، تذكرت فيديوهات ليوتبورز مغربية تعلم من خلالها كيفية صنع الصابون، وبمجردي دخولي البيت فتحت الإنترنت وشاهدت كل فيديوهات الشرح بتركيز كبير، ورغم أنني لم أفهم معنى الكلمات التقنية، دونتها وعملت بحوثا بالإنجليزية، تعرفت على كلفة المواد، وأثمنة الصابون في ألمانيا. قدم لي زوجي الذي ساندني منذ البداية وحمسني للفكرة مبلغا ماليا كان كافيا لأعلن بداية المشوار”.
استعانت منار بمداركها في العلوم الكيميائية التي اكتسبتها في مسارها الدراسي في سوريا وتعرفت على فوائد الزيوت المكونة للصابون، الحرارة اللازمة والأوزان، ثم صنعت أول صابون لها من داخل مطبخ بيتها، وقدمته هدية للأهل والأصحاب الذين اعتبروه صابونا ناجحا.
وأضافت: “بعد هذه الخطوة، اشتريت موادا أكثر وأنتجت الصابون بكمية أكبر، اقتناه مني الأصدقاء والمعارف فقط، ثم قررت بعدها إنشاء شركة حتى أستطيع البيع بشكل قانوني وأخضع بدوري لنظام الضرائب، لم يكن الأمر سهلا، لأنني لحد الساعة أغوص في بحر من الوثائق. كما قام أحد معارفي المبرمجين بمساعدتي على تقديم وبيع منتوجاتي في موقعي الإلكتروني الخاص على الإنترنت إلى جانب صفحة الإنستغرام، وفي شهر أغسطس من العام الماضي، بدأت المغامرة”.
أول ثمار النجاح
وباقتراح من صاحبة محل ألمانية، تعرفت على صابون منار عبر الإنستغرام، قدمت صابونها ذي الأشكال والألوان المميزة داخل المحل، الأمر الذي يسر وصولها إلى زبائن جدد، أعجبوا بالمنتوج واقتنوا الصابون بأثمنة تتراوح ما بين 7.5 يورو و13 يورو، ثم تمت دعوتها للبيع في أسواق رأس السنة.
وتوضح المقاولة السورية أنها “كانت تجربة فريدة من نوعها، بعت منتوج الصابون داخل كوخ خشبي جميل بين الأضواء والألوان، عرفت ماذا يحب الألمان وماذا يكرهون، الكل انبهر بأشكاله التي تشبه الحلوى الشهية والشموع الدامعة، نجاحي في هذا السوق شجعني على التسجيل في أسواق أخرى لسنة 2020”.
لم تتوقع منار أن أحلامها الكبيرة لسنة 2020 ونجاحها سيتأثر بسبب وباء كورونا. ألغيت الأسواق وأقفلت المحلات، وتوقفت حركة البيع والشراء، وفقدت منار الأمل في النجاح من جديد إلى أن أجرت حوارا صحفيا حول فكرة صابونها وسر أشكاله البهية”.
وفي هذا السياق تقول: “لم أتصور أن الحوار الصحفي سيساهم في بيع 200 قطعة صابون طبيعي عبر موقعي الإلكتروني، ولا أن حوارا تلفزيا مع قناة ألمانية سيزيد من شهرتي، أصبحت أعرف ببائعة صابون كورونا، زارني أعضاء من حزب المستشارة أنجيلا ميركل ورئيس بلدية المنطقة حيث أقيم، وصار لي زبائن أوفياء وآخرون جدد”.
منار عبر دراستها للسوق الألماني، اكتشفت أن المستهلك يركز كثيرا على محتويات المنتوجات أكثر من شكلها، عكس المستهلك الأميركي الذي يهتم بالشكل أكثر، فعملت على تطوير الشكل والمضمون لتسوق منتوجها على نطاق أوسع.
وتوضح من جانب آخر: “لم أترب في بيئة تشجع على الأعمال الحرة، فوالدي موظفان في الدولة، لكن الحاجة جعلتني أكتشف أنني لم أكن سعيدة كمهندسة في الزراعة بقدر سعادتي اليوم كبائعة صابون. أتمنى أن تتطور شركتي، وأفتح فروعا تتعدى حدود ألمانيا وأشغل يدا عاملة معي في القريب العاجل لأنني بدأت أتعب من العمل وحدي”.
وتختم حديثها قائلة ” اليوم وبعد ثماني سنوات اكتشفت أن الزراعة التي لم أحب يوما خدمت مشروع حياتي، وأن التدريبات التي قمت بها هنا في ألمانيا ستبني لي علاقات يسرت عملي، كما أن تلك الساعات التي كنت أمضيها في التنقل بين المؤسسات والشركات أبحث عن عمل، ربحت منها التعرف على مؤسسات الدولة ومن يجب أن اخاطب من أجل ملف المشروع. كل تجربة مررت منها في حياتي كانت نفقا كبيرا، آخره نور مشروعي”.