من أبرز القضايا الخلافية والحساسة التي أثارها بوتن، كان تركيزه على نقد ما وصفها النزعة المركزية الغربية، واتهم الغرب بأنه يقسم العالم إلى “عالم متحضر” و”بقية العالم” وإلى “عالم أول” و”عوالم أخرى”.
ورأى متابعون في هذه الاتهامات بين موسكو وواشنطن، مؤشرا على اتساع رقعة النزاع الذي لم يعد تقليديا فحسب، على النفوذ والمجالات الحيوية والمصالح، بل أضحى أقرب لشكل من أشكال حرب الحضارات والقيم والأفكار.
وفي وجهة النظر المقابلة، ثمة من يتهم روسيا بتقويض أسس النظام الدولي القائم، وسط تشجيع حركات اليمين المتطرف التي لا تخفي إعجابها بموسكو، لا سيما في القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان.
استحضار لغة الحرب الباردة
يقول الخبير الاستراتيجي وأستاذ العلاقات الدولية وفض النزاعات، حسن المومني، في حديث لموقع “سكاي نيوز عربية”، “في سياق تفاعلات العلاقات الدولية وحينما تشتد الصراعات بين القوى الكبرى، تتبلور بداهة وتحتد الاستقطابات العالمية، وهكذا فما يقوله بوتن الآن شبيه بما كان سائدا إبان الحرب الباردة، حينما كان يتم تقسيم العالم ما بين عالم أول وثان وثالث”.
رسالة بوتن
يضيف المومني “بوتن بذلك يبعث برسالة للعالم مفادها أن الغرب يتملكه الشعور بالفوقية على بقية العالم، تلك البقية التي لها الحق في أن يكون لها كلمة ودور وازن في النظام الدولي”.
وتابع “لا ننسى هنا أن روسيا دولة تريد إعادة أمجادها، والصين كذلك دولة صاعدة في هذا المنحى، وطبيعي أن مثل هذه الدول تسعى لتغيير النظام العالمي السائد بما يتلاءم مع مصالحها وضمان شراكتها الرئيسية في تسيير دفة العالم وإدارة شؤونه”.
يضيف الباحث أنه “في هذا الإطار، يوجه بوتن نداء لبقية العالم يدق عبره ناقوس الخطر من أن الفوقية الغربية ستسود ومعها ستتكرس أشكال التمييز والتفاوت ما بين عالمين؛ أحدهما متطور والآخر متخلف”.
ويرى الباحث هذا الخطاب من جانب بوتن بمثابة محاولة منه لتحذير دول وشعوب عديدة حول العالم، وتنبيهها إلى ما وصفه بحالة استعمارية غربية.
ويحذر بوتن مما يقول إنها أقلية غربية تشعر بالفوقية مقابل أغلبية عالمية من المفترض أن يكون لها الحق في إنشاء نظام عالمي جديد عادل ومتوازن.
العزف على أوتار حساسة
بدوره، يقول الباحث والخبير في الشؤون الأوروبية والدولية، ماهر الحمداني، في حديث لـ”سكاي نيوز عربية”، إن بوتن لعب بإحتراف على أوتار وقضايا شديدة الحساسية بالعالم، وخصوصا في أميركا وأوروبا، ومن أبرزها قضية الأسرة والمثلية الجنسية، حيث يرى كثيرون أن ثمة حملة غربية منظمة لتقويض أسس النظام الاجتماعي الطبيعي حول العالم، والذي تعد الأسرة نواته ولبنته، عبر تشجيع المثلية والجنس الثالث وهو موضوع يثار بقوة داخل المجتمعات الغربية، خاصة مع موجة صعود تيارات اليمين المتطرف فيها، وذاك ما حصل مثلا في إيطاليا وقبلها في السويد وفرنسا.
ويضيف الحمداني أن بقية دول العالم التي تعاني التفاوتات وحظا ضئيلا من الثروة، تجد نفسها أمام مغازلة بوتن عبر هذا الكلام على نحو وصفه بالذكي، في رواية تحمل الغرب مسؤولية الأزمات التي توالت في العالم، نظرا إلى دور الدول الاستعمارية في استنزاف ثروات الدول التي خضعت لها، خلال القرن الماضي.
تحذير غربي
يحذر زعماء غربيون من تنامي نزعات اليمين المتطرف المعجبة بروسيا، في عدد من دول غرب أوروبا، وهي حركات قومية تناوئ المهاجرين واللاجئين في الأغلب، وتدافع عما يوصف بـ”الانكفاء والانعزالية” مثل الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
وقبل أشهر جرى اتهام مرشحة الرئاسة الفرنسية السابقة، مارين لوبان، وهي محسوبة على اليمين المتطرف، بإبداء مواقف مداهنة للروس، موازاة مع مهاجمة الجالية المسلمة.
في غضون ذلك، يقدم المدافعون عن قيم الغرب والديمقراطية أو من يوصفون بالليبراليين، أنفسهم بمثابة حاضنة للتعدد والاختلاف.
وفي بداية ولايته، أكد الرئيس الأميركي، جو بايدن، التصدي لما اعتبره خطرا قادما من “بكين وموسكو” على حد سواء، متهما البلدين بالضلوع في ممارسات “غير ديموقراطية” وتشجيعها في الخارج.
ويقول منتقدو موسكو، إن مجريات الحرب الدائرة في أوكرانيا، وكيفية التعامل مع معارضيها في الداخل الروسي، سواء وسط النخبة أو في الإعلام، كشف أن موسكو تضيق ذرعا بـ”الرأي المخالف”، في حين تمتاز المنظومة الغربية بـ”قدر أكبر” من رحابة الصدر حيال وجهة النظر المخالفة.
وينبه غربيون، إلى أن انتصار منظومتهم يصب في مصلحة انتشار قيم الديمقراطية والحرية، بينما يعتبرون أي تمدد روسي بمثابة تهديد لحقوق الإنسان ونزوع نحو السلطوية.