في الأثناء، يتوقع المراقبون للمشهد الأفغاني إمكانية سقوط العاصمة الأفغانية كابل نفسها بعد فترة وجيزة من الانسحاب الأميركي، الأمر الذي يُصعب المهمة التُركية هناك، التي غالباً لن تستطيع الحفاظ على ما لم تتمكن القوات الأميركية الحفاظ عليه، وبعد عشرين سنة من النشاط الميداني هناك.
وكانت الأنباء المتواردة من أفغانستان تقول إنه ما لا يقل عن 10 مقاطعات من 7 أقاليم مختلفة قد سقطت بأيادي مقاتلي الحركة خلال الأيام الماضية، وبذا تكون 60 مقاطعة في مختلف نواحي البلاد قد صارت تحت سيطرتهم، وأن منطقة تُقدر بحوالي 22 في المئة من المساحات الكثيفة سكانياً، وما يتجاوز ثلثي مساحة البلاد العمومية قد صارت تحت سيطرة الحركة، وأن مناطق سيطرتها أصبحت خالية من مختلف مؤسسات الدولة الرسمية، بما في ذلك القطاعات التعليمية والشرطية.
الأهم في تلك الأنباء هو الإشارة إلى أن الكثير من المقاطعات الساقطة إنما هي مراكز الأقاليم، أي أنها تشكل مراكز حضرية وأماكن تمركز رئيسية للقوات الحكومية، مثل مقاطعات “بغلان” و”نهرين” و”بول خمري” و”خماب”.
الأنباء الأصعب بالنسبة للمهمة التركية تأتت من شمال شرقي أفغانستان، إذ صرح مسؤولون محليون بأن مقاطعة كوشنده في إقليم بلخ الشمالي ومقاطعة “ميناء شير خان” التي تشكل مركزاً لمنطقة “قندز” الشمالية قد صار تحت سيطرة الحركة، وتالياً فإن الحدود الأفغانية مع كُل من طاجاكستان وأوزبكستان قد صارتا خارج سيطرة الحكومة المركزية، والمسألة لم تعد مُجرد صراع داخلي، بل تتجاوزه لتكون صراعاً إقليمياً على مستقبل هذا البلد الاستراتيجي.
الباحث والكاتب التُركي سنان أونجو شرح، في حديث مع سكاي نيوز عربية، أشكال الاستقطاب والتصارع الإقليمي حول أفغانستان، والتي ستمنع تركيا البعيدة جغرافياً وثقافياً واقتصادياً عن أفغانستان من مزاحمة الآخرين، وهي لا تستند إلا على الدعم الأميركي “على الأقل ثمة 3 متنافسين (أقوياء للغاية)، سيتمكنون في المحصلة من تقاسم النفوذ هناك. إيران وروسيا وباكستان هي مراكز الاستقطاب التاريخية لأفغانستان، وتعمل راهناً على هيكلة استراتيجية مناسبة لمرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي”.
وأوضح قائلا: “إيران عبر إغراء الصين بالتعاون معها في سبيل طريق الحرير الآسيوي الاقتصادي العابر للأراضي الأفغانية. أما باكستان فعبر تواصل وتداخل مع قوى الإسلام السياسي والقبلي المحلية، بما فيها تنظيم طالبان. وروسيا بدورها تضبط إيقاع علاقاتها التاريخية مع القوميات الأفغانية غير المركزية في الشمال، لتؤهلها لخلق مساحة نفوذ مناطقية على الأقل”.
وكانت قمة زعماء حلف الناتو الأخيرة في العاصمة البلجيكية بروكسل قد شهدت توافقاً مع بين تركيا والولايات المُتحدة خلال الاجتماع الذي ضم رئيسي البلدين على أن تتولى القوات التُركية مهام أمن مطار كابل المدني، بالإضافة إلى مهام تدريبية يُمكن أن يقوم بها الجيش التركي لصالح نظيره الافغاني في القاعدة العسكرية التركية في قطر. وتواصلت منذ ذلك الحين الاجتماعات الثنائية بين مسؤولي البلدين، حيث طلبت تُركيا دعماً لوجستياً وسياسياً وعسكرياً من قِبل الولايات المُتحدة للقيام بمهامها.
الرفض الأولي لبقاء القوات التُركية داخل أفغانستان صدر عن المُتحدث باسم حركة طالبان، الذي قال إن حركته أثناء مفاوضاتها مع الولايات المُتحدة رفضت مُقترحاً ببقاء القوات التُركية في مطار كابول المدني الدولي، مذكراً بأن الانسحاب التركية أولوية بالنسبة لحركته بالضبط مثل انسحاب القوات الأميركية.
المعلومات العسكرية المتداولة تقول إن الولايات المُتحدة قد سحبت أكثر من نصف قواتها من أفغانستان، وأن تركيا ما تزال تحتفظ بقرابة 500 جندي، وهُم أكبر قوة أجنبية في البلاد ستبقى هناك في حال الانسحاب الأميركي. حيث أن ذلك العدد حتى لو تضاعف 4 أمثاله، مثلما تقول المعلومات عن مرحلة تعزيز تركيا لوجودها في أفغانستان، فإنها لن تستطيع مواجهة أية اندفاعة لقوات حركة طالبان، فيما لو اقتربوا من العاصمة كابل أو مطارها.
المركز الآسيوي للدراسات الجيوسياسية كان قد نشر تقريراً تفصيلياً عن مكامن قوة وضعف الوجود التركي في أفغانستان، التقرير الذي كتبه كبير الباحثين في المركز شيمار كوتاي أشار لمعضلتي الوقت والقوى السياسية داخل أفغانستان “ثمة زمن قياسي لانتهاء الانسحاب الأميركي من أفغانستان، الذي صار يُعد بالأيام وليس الأسابيع.
وهذا الضغط الزمني القصير للغاية يُعد مُعضلة لوجستية بالنسبة لتركيا، فهي لا تستطيع مرّكزة وتثبيت وجود قواتها عسكرياً بطريقة مناسبة. كذلك فإنه يمنع تركيا من الخوض والاندماج في الأنسجة السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية الأفغانية، لخلق تكتلات موازية لما لحركة طالبان”.
المسؤولون الأميركيون، بمن فيهم مستشار الأمن القومي، منحوا تُركيا مجموعة من الوعود بدعم مهمتها في أفغانستان، لكنهم لم يمنحوها أية ضمانات بحماية ذلك الوجود وضبط نزعات دول الجوار الافغاني للضغط على حركة طالبان ومنع اندفاعها نحو إعادة السيطرة على كامل البلاد، وهو امتناع بحكم الواقعية الأميركية، التي تعرف طبيعة التوازنات السياسية هناك، بما في ذلك سطوة وأدوات قوة الحركة المُتطرفة.