وقبل ذلك بيوم واحد، كانت حكومة فايز السراج في غرب ليبيا وقعت عقدا أمنيا شكلياً مع تركيا، ظاهره تبادل الخبرات في المجال العسكري، وجوهره تغطية التدخل العسكري التركي الكامل في ليبيا، وجلب المرتزقة السوريين للسيطرة على البلد العربي. 

وكان السلوك التركي في ليبيا، وقتئذ، إيذاناً بسلسلة من التدخلات العسكرية التركية في المحيط الإقليمي طيلة العام الجاري. وامتدت أيادي أنقرة إلى الساحات السورية واليونانية والأذرية/الأرمينية والصومالية، سواء عبر الجيش النظامي التركي، أو عبر مدّ فريق ما من هذه البلدان بالأسلحة التركية أو دعمه بآلاف المرتزقة السوريين.

وأطاح التدخل التركي في ليبيا بوقف إطلاق النار الذي كانت الأطراف الليبية قد وقعته قبل ذلك بشهور، والذي كان يُمهد لبدأ جولة طويلة من المباحثات الثنائية الليبية برعاية أممية، لكن الوجود التركي حول ليبيا إلى ساحة للصراع الإقليمي.

وحول التدخل التركي في ليبيا الكثير من المناطق غربي البلاد إلى ساحات لهيمنة ميليشيات المرتزقة والمتطرفين، مما حطم الكثير من أشكال الحياة المدنية والثقافية والسياسية في تلك المناطق.

وبعد سلسلة كاملة من المحاولات التركية المستميتة للهيمنة العسكرية والسياسية على ليبيا طيلة هذا العام، جربت فيه تحويل صراعات الأطراف الليبية إلى حرب مفتوحة دون أي أفق، وأفشلت أكثر من توافق ومؤتمر دولي، في موسكو وبرلين وباريس، لم يتمكن التدخل العسكري التركي من تحقيق شيء يُذكر، ما عدا الحفاظ على حكومة فايز السراج شبه المحاصرة في مدينة طرابلس ومحيطها الأصغر.

وعاد الليبيون إلى طاولة المفاوضات الأممية، ليقروا نفس شروط الحل التي كانت قبل سنة كاملة من التدخل التركي، والتي تنص أولاً على إخراج كافة المليشيات والجيوش من ليبيا، قاصدين بالذات الجيش التركي ومرتزقته السوريين.

ومع بداية العام الحالي أيضاً، ولما وقعت كل من اليونان وقبرص وإسرائيل اتفاقاً نهائياً بشأن مشروع “إيست-ميد” لنقل الغاز الطبيعي من دول الشرق الأوسط عبر خط بحري إلى أوروبا، أحست تركيا بالضغط على نفوذها الاقتصادي/السياسي.

وحسب هذا المشروع الذي تبلغ تكلفته أكثر من 6 مليار دولار، فإن تركيا خسرت احتكارها التقليدي كممر جغرافي وحيد لنقل صادرات الغاز الآسيوي إلى دول المنظومة الأوروبية. ذلك الاحتكار الذي كانت تركيا تجني منه مكاسب سياسية واقتصادية في الوقت ذاته، لأن تأمين تدفق تلك الواردات كان جزءا من الأمن القومي الأوروبي. 

فضلا عن ذلك، كان مشروع “إيست-ميد” توافقاً مبدئياً لشكل الحدود البحرية بين دول شرق المتوسط، باستثناء تركيا، التي صارت تعتقد بأن الوضع الجغرافي لحدودها الطبيعية سيحرمها حسب القانون الدولي من كل الثروات المتوقعة لغاز شرق المتوسط.

ومع تأسيس “منتدى غاز شرق المتوسط” للتعاون في عمليات الاستخراج والتصدير في أوائل هذا العام، والذي ضم كل دول شرق المتوسط، مصر واليونان وإسرائيل وقبرص وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية، وحاز على دعم دولي حينما انضمت إليه فرنسا ودعمته الولايات المتحدة سياسياً، زاد “الحنق” التركي، وصارت أنقرة تشعر بمزيد من العزلة، فدفعت في الأول من شهر فبراير  بسفنها الحربية إلى المياه الإقليمية اليونانية، لتساند سفن التنقيب التركية، التي كانت تجري عملياتها داخل الجرف القاري اليوناني.

وتصاعدت اشكال “المناكفة” التركية في المنطقة البحرية اليونانية والقبرصية من شرق المتوسط، حتى بلغت حد المناوشات العسكرية بين الطرفين التركي واليوناني في أوائل شهر أغسطس، وذلك بعدما أعلنت تركيا في 21 يوليو سعيها للبحث عن النفط والغاز قبالة جزيرة رودوس اليونانية، وكادت تلك المناوشات أن تتحول إلى حرب شاملة، لولا مجموعة من المؤثرات الضاغطة على أنقرة.

وأظهر الموقف الأوروبي دعما لليونان في مواجهة التحريض العسكري التركي، وذلك بقيادة فرنسية خاصة، بينما لاقى الموقف الأوروبي مساندة أميركية تامة.

وقام المسؤولون الأميركيون بجولات مكوكية إلى أثينا، مع إشارات أولية لإمكانية بيع أسلحة متطورة إلى اليونان، مقابل حظرها عن تركيا وفرض عقوبات عسكرية عليها. وفوق الأمرين، أظهرت اليونان استعداداً دائماً لمواجهة تركيا، ونشرت فرقاً من جيشها على الجُزر القريبة من الحدود.

واعتباراً من شهر سبتمبر، تراجعت حملة الضغوط التركية، وأعادت سفن التنقيب إلى ميناء أضنة، لكن دون إعلان واضح عن التزامها بمضامين القوانين الدولية المنظمة للحدود البحرية بين الدول. الأمر الذي يُبقي الملف مفتوحاً بين الطرفين، على الأقل ليستخدمه الرئيس رجب طيب أردوغان في حملاته الخطابية الشعبوية.

وفي 2020، أكمل نظام أردوغان تدخله العسكري المباشر الرابع في المناطق الشمالية من سوريا، حيث احتل الجيش التركي بمساندة من فصائل المرتزقة السوريين الشريط الحدودي الممتد بين بلدتي رأس العين وتل أبيض السوريتين، وذلك بعد أن خاض 3 معارك سابقة داخل الأراضي السورية، في كُل من عفرين وإدلب وجرابلس.

لكن توقف عمليات الاجتياح التركية المباشرة لم يحل دون تدخلات تركية يومية في الملف السوري، سواء عسكرياً من خلال رعاية التنظيمات المُتطرفة في مناطق احتلالها، أو سياسياً من خلال رعاية التنظيمات السياسية السورية التابعة لتركيا.

تدخلات أخرى

وخلال هذا العام أيضاً، شهدت منطقتان إقليميتان تدخلاً عسكرياً تركياً مباشرة.

فما أن أعلنت 8 دول إقليمية تشكيل مجلس “الدول المطلة على البحر الأحمر والخليج”، هي المملكة العربية السعودية ومصر والأردن والسودان والصومال الفيدرالي وجيبوتي والسودان واليمن”، حتى صارت تركيا منذ أوائل العام عن تبحث عن فرص التمدد في الأراضي الصومالية، عبر تغطية من “الاتفاقيات الأمنية والمساعدات الإنسانية”، لكن عملياً لخلق موطئ قدم داخل الصومال، لخلق نفوذ إقليمي داخلها.

وهناك أيضا التدخل الآخر في الحرب الأذرية الأرمنية. فالرئيس الأذري إلهام علييف أعلن الحرب على أرمينيا بدعم عسكري تركي معلن، سواء عبر تسليح جيش أذربيجان بأنواع حديثة من الأسلحة، لاسيما الطائرات المسيرة، أو عبر دفع آلاف المرتزقة السوريين، ليكونوا في الصفوف الأمامي للفرق المهاجمة.

استمرار نهج التدخل

ولم تكن التدخلات الخارجية العسكرية شيئاً غريباً على السياسية الخارجية لإدارة الرئيس رجب طيب أردوغان، خصوصاً خلال الأعوام الخمسة الأخيرة. لكن العام 2020 شهد تحولاً جذرياً في تلك الاستراتيجية التركية، التي تخلت هذا العام عن جميع الفروض والتزامات القانون الدولي التي تمنع أي دولة من تجاوز حدودها الجغرافية واحتلال وتجاز سيادة دولة أخرى.

ففي بعض الملفات، كانت تركيا تتحجج بعقد توافقات مع “السلطات الشرعية”، كما في ليبيا وأذربيجان والصومال.

أما في الحالات التي لم تتوفر لتركيا سلطات شرعية –شكلية- فإنها كانت تتدخل بدعوى حماية حقوق أمنها القومي، كما في سوريا وشرق المتوسط. تلك الحجة التي كانت تستخدمها تركيا لفرض أجندتها العسكرية والسياسية على محيطها القريب.

وهكذا، صارت تركيا في حلٍ من رزمة القوانين والمعاهدات التي تنظم أشكال الحياة في ظلال حالات الحروب والاحتلال. فتركيا في مختلف حملات تدخلاتها الخارجية خلال هذا العام، اُتهمت بتنفيذ أعمالٍ مريعة من التطهير العرقي ونشر الكراهية وتهجير السكان المحليين بغية إجراء تغيرات سكانية.

skynewsarabia.com