الرقم الذي أعلنته الوزارة التركية، والذي يتجاوز بحده ونسبته كُل القضايا التي رفعها أي حاكم بحق مواطنيه والقوى المناهضة لها، يبدو وأنه في تصاعد مُستمر. فالرقم الذي أعلنه كحصيلة للعام الماضي 2020، بلغ 9770 قضية، وهو أعلى من الأرقام التي سُجلت في الأعوام التي سبقته، خصوصاً مع تزايد حالة النقمة الاجتماعية والسياسية على سياسات الرئيس التركي وحكومته، بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية في البلاد.
المعلقون الأتراك على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، ذكروا إن القانون الذي أصدره الرئيس رجب طيب أردوغان خلال العام 2018 تحول إلى أداة في يد الرئيس وحزب العدالة والتنمية الحاكم والأجهزة الأمنية والقضائية المُقربة منهما، لابتزاز الأفراد والشخصيات السياسية المُعارضة لهم، لخلق هالة حول الرئيس وسلوكياته وتوجهاته السياسية. فالمادة 299 من القانون الجنائي التركي، التي تفرض عقوبة السجن التي قد تصل لأربعة سنوات، لكل من يُدان بتهمة “إهانة الرئيس أو مجلس الوزراء”. والمادة 301 من نفس القانون، تُعزز من صلاحية المادة السابقة.
الجهات التركية المُدعية، والمُقربة من الرئيس أردوغان، لم توفر أية فئة عُمرية أو جندرية تركيا من سيل ادعائها، التي تقارب 50 دعوة يومية بشكل وسطي؛ يكون قرابة ثلثهم من النساء، بينما تتراوح أعداد المراهقين والقاصرين منهم بين 8-10 بالمائة، بشكل يومي، أغلبهم نتيجة وشايات كيدية من محيطهم الاجتماعي.
على أن أكثر طبقة تتعرض لمثل هذه الادعاءات هي طبقة السياسيين في تركيا، إذ حُكم على أكثر من عشرين برلمانياً تركياً خلال العامين الماضيين بهذه التهمة، بينهم زعيم حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد لحقوق الأكراد في تركيا، المُعتقل منذ العام 2016 في هذا الملف، ودون محاكمة شفافة. كذلك فإن زعيم المعارضة التركية، ورئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليشدار أوغلو مُهدد بالخضوع للمحاكمة تحت بنود ذلك القانون نفسه.
الباحث والمُعلق السياسي التركي فيصل سيراجي شرح في حديث مع سكاي نيوز عربية الآليات التي تستعملها السلطة الحاكمة في هذا القانون “في زمن الفضاءات المفتوحة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة، حيث أن حُرية التعبير تسمح لكل مواطن بالكتابة والقول والإدلاء بالرأي في كل موقف حياتي، وفي وقت ثمة من يحتكر كل سُلطات البلاد بين يديه، ثمة من يُلاحق ملايين المواطنين، يفسر ويعد لهم كلماتهم، ويخول نفسه تفسير كل مقولاته، وتالياً إحالتهم إلى القضاء والمحاكمة، بتهمه هوائية هي (إهانة الرئيس). وحيث أن هذا الرئيس نفسه يهتك يومياً مقامات وسلوكيات ملايين المواطنين والمؤسسات والأحزاب والسياسيين في البلاد، هو والمقربون منه، دون أية خشية من أية متابعة أو معاقبة قضائية، فالمشهد يدل على توجه البلاد لأن يكون سُلطة شمولية تقليدية، لا يُسمح فيه بالكلام، إلا المديح”.
المعلقون الأتراك سخروا من “الجيش القضائي” والوظيفي الذي تستخدمه السلطة الحاكمة في هذا المجال، والذين يحصلون على رواتب ثابتة وأموال تشغيلية للقيام بهذه المهمة. وبالنظر في أكثر من 45 ألف مسألة قضائية في مختلف أنحاء البلاد، فثمة حاجة لقرابة 50 ألف موظف عمومي، بين مُدعٍ عام ومحامين وقضاة وحراسات أمنية ونقل للمساجين والتحفظ عليهم. هؤلاء الذين يكلفون الخزينة العامة قرابة نصف مليار دولار سنوياً، حيث كتب الكثير منهم بتهكم كوميدي أن تكلفة دفاع الرئيس عن مكانته الرمزية المُفترضة تكلف الدولة نصف مليار دولار، يُمكن أن يُبنى بها سنوياً 20 ألف مُستشفى ومدرسة ومصنع وحديقة عامة، تحفظ كرامة ملايين المواطنين الأتراك.
الأرقام التي تُعلنها وزارة العدل التركية تذهب للقول إن ثُلث المُدعى عليهم ينالون حُكماً بالبراءة عادة، لكنهم لا يحصلون على تعويضات مالية أو معنوية تعوضهم عما طالهم خلال شهور من المحاكمات، مقابل العقوبات القاسية التي تُنفذ بحق المُدانين، حيث تطالب الجهات المُدعية عادة بتعويض يُقارب 100 ألف دولار أميركي.
المحامون والحقوقيون الأتراك وجهوا انتقادات واسعة للتمييز الذي تكرس فيه القوانين التركية التفريق بين مكانة الرئيس والحكومة الرمزية والسياسية، وبين مكانة باقي المواطنين، وطالبوا بقوانين موحدة يخضع لها الجميع، تكون قادرة على حفظ الكرامة الذاتية والعامة لكل المواطنين بحُكم سماتهم “المواطنية”، وليس التميز بينهم على تلك الأسس، بما في ذلك بناء أقسام خاصة في السجون ومراكز الاعتقال التركية، خاصة بالمُدانين بتهمة “إهانة الرئيس”، وكأنها جريمة كُبرى تستحق عقوبة خاصة واستثنائية، مثلما كان يجري في الدول الشمولية.