ففيما تذهب المؤشرات الميدانية والسياسية نحو تراجع موسكو عن توسيع الجبهة الحربية في أوكرانيا وفك الطوق عن عاصمتها كييف، لصالح التركيز على مناطق شرق وجنوب البلاد، خرج الرئيس الشيشاني بتصريحات مفاجئة فيما يتعلق بالعاصمة الأوكرانية، حيث أعلن في مقطع فيديو أن القوات الروسية ستهاجم مدينة ماريوبول الساحلية المحاصرة، وكذلك العاصمة الأوكرانية كييف وغيرها من المدن.
وأضاف رمضان قديروف في التسجيل المصور بث عبر قناته على تيليغرام “سيكون هناك هجوم ليس على ماريوبول فحسب، ولكن أيضا على أماكن ومدن وقرى أخرى في أوكرانيا”.
وتابع: “سنحرر لوغانسك ودونيتسك بالكامل في المقام الأول، ثم نستولي على كييف وجميع المدن الأخرى”.
وهو ما أعتبره مراقبون تصريحا هدفه التلويح بإن موسكو وإن فكت الطوق لحد كبير عن كييف وانسحبت ولو جزئيا من حولها، لتركز مجهودها الحربي على مناطق جنوب وشرق أوكرانيا، لكن بمقدورها متى ما جوبهت بشدة في تلك المناطق، واستدعت التطورات الميدانية والسياسية ذلك، تفعيل خطة محاولة السيطرة على العاصمة الأوكرانية من جديد.
ويذهب محللون إلى أن ابراز دور الرئيس الشيشاني في هذه الحرب، يندرج في سياق اظهار أن مختلف جمهوريات الاتحاد الروسي مشاركة في الحرب الأوكرانية، وأنها حرب “وطنية” تجمع كافة مواطني الاتحاد الروسي على اختلاف أديانهم وقومياتهم وطوائفهم، ويمكن وفقهم حتى قراءة بروز دور وفيديوهات قديروف كمحاولة لإظهاره كند ومنافس للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنيسكي الذي اشتهر ببثه مقاطع فيديو له من داخل كييف.
علاوة على أن حضور قديروف الكثيف في هذه الحرب، يهدف للإشارة إلى أن الروس والشيشان قد طووا نهائيا صفحة الحرب الداخلية التي جرت بين الطرفين في منتصف التسعينات.
وتعليقا على المغزى من تصريحات قديروف حول اشعال جبهة كييف مجددا، وخلفيات بروز دور الزعيم الشيشاني، يقول رامي القليوبي، الأستاذ في كلية الاستشراق بالمدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، في حديث مع سكاي نيوز عربية: “رسميا قديروف ليس ناطقا باسم الحكومة والجيش الروسيين، ولهذا على خلفية ما يصدر عنه من تصريحات في الآونة الأخيرة، وجه الناطق باسم الكرملين بيسكوف إلى الاسترشاد بما تقوله وزارة الدفاع الروسية، لكن مع ذلك فالرئيس الشيشاني هو من أكثر الشخصيات في روسيا ولاء للكرملين وللرئيس الروسي شخصيا، وهو يصنف نفسه دوما بأنه جندي بوتن وهو بذلك يستشعر اتجاه رياح الكرملين”.
في يناير الماضي مثلا، وقبل بدء الحرب دعا قديروف لضم أوكرانيا واعادة تنظيم وضعها الداخلي، يضيف القليوبي: “وهو ما تسبب بإحراج الكرملين وعلى إثره أكد المتحدث باسم الرئاسة الروسية، على أن من يحدد السياسة الخارجية هو رئيس الدولة وليس حكام الأقاليم والجمهوريات الروسية”.
ويتابع الأستاذ في كلية الاستشراق: “في المجمل قديروف يعبر عن الاتجاه السائد لدى القيادة الروسية، وهو عادة ما يستبق اعلان مواقفها حتى، وأحيانا يتبع الأسلوب الشعبوي فمثلا عندما صرح بأنه لو كان محل بوتن لشن ضربة نووية تكتيكية ضد بعض المواقع بأوكرانيا، وهذا فيه طبعا شطط ومبالغة، لكنه يتسق مع أسلوب الساسة الشعبويين، وهو هنا يبدو قريبا من شخصية السياسي الشعبوي الروسي فلاديمير جيرينوفسكي، الذي رحل عن عالمنا قبل أيام”.
وبخصوص بروز دور قديروف على الساحة الروسية وتعاظمه على وقع الحرب الأوكرانية، يقول القليوبي: “يرجع ذلك لكونه من الأكثر ولاء لبوتن وهو عضو المجلس الأعلى لحزب روسيا الموحدة الحاكم، رغم أنه في التسعينات كان من الانفصاليين الشيشانيين وكان يقاتل ضد الجيش الروسي في حروب العصابات، لكن مع مجيء بوتن للسلطة انضم هو ووالده المغتال أحمد حاجي قديروف لصف السلطة الفيدرالية الروسية، ومنذ ذلك الوقت وهو يثبت ولاءه المطلق للرئيس الروسي”.
ويسترسل الأكاديمي الخبير في الشؤون الروسية، في شرح خلفيات ومقومات صعود قديروف، بالقول: “في الجانب العسكري تعد الوحدات العسكرية الشيشانية من أقوى التشكيلات العسكرية في روسيا، من حيث المراس والقدرات القتالية العالية، خاصة وأنها تضم في صفوفها أعدادا كبيرة من المقاتلين الانفصاليين السابقين ممن يملكون خبرة قتالية مديدة، فمثلا كتيبة سيفر مكونة بالكامل منهم سيما وأن قديروف بعد وصوله للسلطة في الشيشان، أصدر عفوا عاما عن الانفصاليين وسمح لهم بحمل السلاح مرة أخرى لكن تحت قيادته، واندماجهم تاليا في إطار القوات الشيشانية النظامية”.
من طرفها تقول ثريا الفرا، أستاذ العلوم السياسية بجامعة موسكو، في لقاء مع سكاي نيوز عربية: “الشيشان هي الجمهورية الوحيدة ضمن الاتحاد الروسي التي وضعت قواتها المسلحة في خدمة الرئيس بوتن، منذ اعلانه بدء العملية العسكرية بأوكرانيا، والذي يعتبر قديروف نفسه جنديا مخلصا له، وهكذا أصبح قديروف الصوت العالي المناصر لبوتن في حربه الأوكرانية”.
مضيفة: “قديروف يتمتع بنفوذ واسع جدا في روسيا، وعلاقاته الوثيقة مع بوتن والكرملين عامة تعود للعام 2000، ويعتبره الرئيس الروسي يده اليمنى في منطقة القوقاز، ولهذا برز دوره وسطع نجمه في هذه الحرب كونه هو من بادر بطلب الانضمام لها تعبيرا عن اخلاصه للرئيس الروسي”.
وعن تصريحات قديروف حول كييف، تقول الفرا: “هي تندرج في إطار الحرب النفسية والاعتداد بقوة الدب الروسي، ومفادها أن موسكو قادرة متى ما أرادت ضخ الروح مجددا في سيناريو السيطرة على العاصمة الأوكرانية وحتى اسقاط النظام الحاكم فيها، وهو يهدف بتصريحه هذا أيضا لبث عدم الاطمئنان لدى زيلينسكي وحلفاءه من زعماء غربيين، ممن يواظبون على دعمه وتحريضه ضد روسيا بشتى السبل”.
بدوره يقول ماهر الحمداني، الكاتب المختص بالشؤون الدولية، في حديث مع سكاي نيوز عربية: “كما هو معروف ثمة دوما مستويات وتأثيرات مختلفة ومتعددة للتعبير عن مواقف هذه الدولة أو تلك، رسمية وشبه رسمية وغير رسمية، وبالتالي يكون الوزن الأثقل والأكبر هو لتصريحات رئيس الدولة ومن بعده رئيس الوزراء ومن ثم الوزراء كوزيري الخارجية والدفاع وهكذا”.
متابعا: “في حالة قديروف ورغم كونه حليف مهم جدا لبوتن، لا يمكن اعتبار أيا من تصريحاته رسمية أو ذات ثقل كبير، رغم أن موسكو تستخدمه عبر ادلائه بتصريحات غير رسمية لايصال رسائل لمختلف الأطراف المعنية صديقة أو معادية، ولهذا فهي عادة في مثل هذه الحالات تستعين بقديروف وغيره من زعماء كما حال الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو مثلا”.
مستدركا: “لكن عندما يكون هناك قرار سيادي صادر عن روسيا فهو يعلن عنه على لسان بوتن، وفي درجة ثانية من قبل وزير الخارجية سيرغي لافروف، والمتحدث بلسان الكرملين وهكذا دواليك، وهم جميعهم مخولون ومكلفون بداهة بالتعبير عن مواقف وقرارات الدولة الروسية، مع أن أوزان تصريحاتهم وأهميتها تختلف هرميا وفق تسلسل مناصب ومواقع مطلقيها، فمثلا المواقف التي يعبر عنه بوتن شخصيا لا يمكن التراجع عنها، وهي تعد تعبيرا مبرما عن السياسة الرسمية الروسية”.
أما تصريحات قديروف فهي لا تلزم الدولة الروسية، وفق الحمداني، الذي يضيف: “لكنها توظف لبعث رسائل معينة في اتجاهات مختلفة، وتصريحاته خصوصا حول الاستيلاء على كييف هي تتناقض مع تصريحات أخرى لمسؤولين روس أعلى مستوى منه وأكثر أهمية، تشير لبداية انسحاب روسي من حول كييف والتراجع للشرق الأوكراني، وبما يعطي فسحة أكبر للمفاوضات والعملية السياسية، وفي هذا الإطار فكلام قديروف يندرج غالبا في إطار رفع سقف المطالب التفاوضية الروسية، ولصناعة أوراق ضغط أخرى لوضعها على طاولة المفاوضات”.