كان التركيز في هذه القمة على إيقاف انتاج الفحم كليا باعتباره أكبرَ ملوِّثات البيئة، والسبب الرئيسي للاحترار الأرضي، لكن الصين والهند تمكنتا من تخفيف الهجوم على الفحم في اللحظة الأخيرة، فتقرر حذف كلمة “إنهاء” والاستعاضة عنها بـ”تقليص” انتاج الفحم تدريجيا.
وعلى الرغم من أن القمة لم تحقق النجاح الذي كان يصبو إليه نشطاء البيئة والطبيعة وعلماؤهما وأصدقاؤهما، إلا أنها تعتبر ناجحة إذا ما قيست بمعيار أداء القمم السابقة، فقد كان هناك إدراكٌ كبير بين المشاركين بخطورة الاحترار الكوني على سكان الأرض، ووعي بضرورةِ إيقافِه أولا، ثم دفعِه إلى التراجع لتخفيض درجة الحرارة إلى ما كانت عليه في القرن التاسع عشر، وإن كان هذا الهدف بعيدَ المنال إن لم يكن مستحيلا، لكن إيقافَ الاحترارِ يعتبر إنجازا كبيرا، وهو الهمُّ الأكبرُ لدول العالم، خصوصا دولَ العالم الثالث، التي ستتأثر أكثر من غيرها بسبب عدم امتلاكها أدوات مكافحة التلوث التي تمتلكها الدول الغنية.
وقد انتقد ألوك شارما، رئيس قمة المناخ السادسة والعشرين موقفي الصين والهند قائلا في مقابلة مع تلفزيون بي بي سي “إن على الصين والهند أن توضحا ماذا فعلتا بخصوص المناخ للبلدان الأكثر تأثرا بالتغير المناخي في العالم”. وبدا شارما متأثرا جدا وقد خنقته العبرة أثناء إلقائه كلمته الختامية واصفا ما توصلت إليه قمة (COP26) بأنه “إنجازٌ تأريخي”.
ولكن ما هو الإنجاز الحقيقي لقمة غلاسكو؟ الحقيقة أنه لأول مرة تذكر الاتفاقيات المناخية أن السبب الرئيسي للتلوث هو الفحم وأن العالم يجب أن ينهي استخدامه إن أراد أن يعكس الاتجاه المتصاعد للاحترار الأرضي. ولكن حتى مع هذ الإدراك الشامل لخطر الفحم، الذي يطلق ثاني أوكسيد الكربون في الهواء، ومع توفر البدائل الأقل كلفة، فإن كلا من الصين والهند عارضتا بقوة إدراج عبارة “الإنهاء التدريجي لإنتاج الفحم” في اتفاقية غلاسكو للمناخ، وأصرتا على استبدالها بعبارة “التقليص التدريجي لإنتاج الفحم”، والهدف واضح، وهو مواصلة استخدام الفحم كمصدر للطاقة، ما يعني أنهما لا تعتزمان البدء قريبا بتقليص اعتمادهما على الوقود الأحفوري.
المأزق الذي يواجهه العالم في كيفية التوصل إلى حلول حقيقية وجذرية لمشكلة التفاقم المناخي هو أن أي حل يجب أن يكون جماعيا، بحيث تتضافر جهود دول العالم جميعِها، وخصوصا الكبرى والأكثر تلويثا للبيئة، للوصول إلى هدف إيقاف الاحترار الأرضي أولا، ثم دفعه في الاتجاه المعاكس. لا يمكن أن تضطلع دول معينة دون أخرى في حل المشكلة، ولا يمكن التوصل إلى حلول حقيقية إن لم تتعاون الدول الكبرى الملوِّثة للبيئة، وهي الصين والهند والولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، وتعمل بجد للوصول إلى الهدف.
أهم هدف حدده مؤتمر غلاسكو، هو ضمان عدم تجاوز الاحترار الأرضي درجة 1.5 مئوية بحلول نهاية القرن الحالي، أي بزيادة قدرها 0.3 درجة عن المستوى الحالي البالغ 1.2 درجة، والذي يقول العلماء بأنه لا يحل المشكلة لكنه يمكن أن يحد من تفاقمها ويدرأ أسوأ تأثيراتها، علما أنه إذا ما استمرت النشاطات الاقتصادية العالمية على وتيرتها الحالية، فإن الاحترار الكوني سيرتفع بـ 2.4 درجة مئوية بحلول نهاية القرن، حسب تقديرات مجموعة العمل لمتابعة المناخ Climate Action Tracker.
لا يترك الاحترار الأرضي تأثيرات متشابهة في كل المناطق، فقد يتسبب في منطقة معينة بإحداث أعاصير ورياح عاتية وأمطار غزيرة، بينما يحدِث في أخرى ارتفاعا في درجات الحرارة بشكل غير معهود، ينتج عنه حرائق في الغابات والمحاصيل الزراعية، وفي ثالثة إطالة فترة الجو الحار ومفاقمة الجفاف، وفي رابعة إحداث فيضانات مدمرة. وقد تتسبب موجات الحر في تقليص هطول الامطار وزيادة حدة الجفاف، بل لا يمكن العلماء أن يتوقعوا كل شيء، فيمكن أن تحصل تطورات غير محسوبة في المستقبل.
ومع تزايد عدد سكان العالم، يزداد الطلب على المياه سواء أكان للزراعة أو للأغراض الإنسانية المختلفة. وقد تسببت موجة الحر في الولايات المتحدة في الصيف الماضي بإحداث جفاف حاد أو استثنائي في ربع المساحات الزراعية.
وفي بريطانيا، أصبحت الأجواء الحارة تمتد لفترات أطول، بلغت الضعف في بعض الأحيان، خلال السنوات الخمسين المنصرمة، استنادا إلى دائرة الرصد الجوي البريطانية. وفي غربي كندا والولايات المتحدة، امتدت الأجواء الحارة لفترات أطول وأصبحت أكثر كثافة بسبب ما أطلق عليه علماءُ المناخ بـ”القبة الساخنة” التي تسببها الغازات المنطلقة من الأرض والمحبوسة في الجو.
وفي أيرلندا الشمالية ارتفعت درجة الحرارة إلى مستويات قياسية ثلاث مرات خلال أسبوع واحد. وفي ليتون في كندا، اقتربت درجة الحرارة من 50 درجة مئوية، مرتفعة عن المعدل السابق بخمس درجات، ومثل هذه الموجة الحرارية ما كانت لتحدث لولا التغير المناخي، حسب معلومات نشرتها شبكة متابعة المناخ العالمي World Weather Attribution. وفي روسيا ارتفعت درجات الحرارة إلى مستويات لم تبلغها منذ 120 عاما.
وإذا لم يستطِع العالم أن يبقي درجة الحرارة عند 1.5 درجة مئوية (أعلى مما كانته قبل العصر الصناعي)، فإن العلماء يتوقعون أن تحدث فيضانات في أوروبا بسبب تزايد هطول الأمطار، ويتعرض الشرق الأوسط إلى موجات حر عالية، وتعاني أستراليا الحر الشديد والجفاف، وتقاسي بلدان أفريقية عديدة الجفاف وشُح الغذاء، وتتعرض المناطق الغربية من الولايات المتحدة للجفاف، ومناطق أخرى للأعاصير الشديدة، بينما تختفي الجزر في منطقة البحر الهادئ كليا بسبب ارتفاع مستوى مياه البحار.
لكن إبقاء الحرارة عند 1.5 درجة يحتاج تخفيضا في الانبعاثات الغازية يتجاوز 45% بحلول 2030، ثم تصفير الانبعاثات بحلول 2050. ويقول البروفيسور جيم سكي، أستاذ الطاقة المتجددة في كلية إمبيريال في جامعة لندن، إن تقليص الاحترار إلى 1.5 ممكن حسب قوانين الكيمياء والفيزياء، لكنه يتطلب تغييرات غير مسبوقة. لا شك أن العالم يتجه لنبذ الفحم، وذلك لتوفر بدائل نظيفة أقل كلفة، لكن هناك حاجة للقيام بأكثر من ذلك لإنقاذ البيئة.
إن التفكير السائد عند المسؤولين في الصين والهند، الدولتين العملاقتين اللتين تُحدِثان التلوث الأكبر في العالم حاليا، هو أن الدول الصناعية الغربية هي المتسببة ابتداءً في الاحتباس الغازي الذي ولّد الاحترار الأرضي، وأنها أصبحت غنية بسبب تلك النشاطات الملوِّثة للبيئة، وتريد الآن من الدول الأخرى، الفقيرة تحديدا، أن تتحمل معها وزر معالجة الأزمة التي تسببت هي وحدها في خلقها. لكن مثل هذا التفكير، وإن كان فيه صدق ووجاهة، فإنه يتجاهل خطورة الموقف الذي وجد العالم نفسه فيه. صحيح أن الدول الصناعية متسببة في خلق الاحتباس الغازي نتيجة لنشاطاتها الاقتصادية المتنوعة واستخدامها المفرط للوقود الاحفوري في نهضتها الصناعية، وصحيح أنها أصبحت غنية ومتفوقة نتيجة لهذه النشاطات الصناعية، لكن العالم كله في خطر وليس صحيحا أن نبحث عمن نلقي عليه اللوم، والصحيح هو أن تتحمل جميع الدول هذه المسؤولية، مع مطالبة الدول الصناعية الغنية بتحمل القسط الأكبر من كلفة خفض الاحترار.
كانت الدول الصناعية قد خصصت في قمة كوبنهاغن للمناخ عام 2009 مئة مليار دولار تُدفع سنويا للدول الفقيرة حتى عام 2020 لمكافحة التلوث، لكن هذا المبلغ، وإن كان لا يرتقي إلى الكلفة التي ستدفعها الدول النامية إن التزمت باتفاقيات المناخ، فإنه لم يتحقق في أي سنة منذ عام 2009 حتى الآن، كما اعترف بذلك الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيَريِش، فالدول لم تتفق أصلا على نظام محدد لحساب المبلغ. على سبيل المثال، في عام 2018، وصل إجمالي المساهمات المقدمة للدول النامية إلى 78.3 مليار دولار، حسب تقديرات الخبير الاقتصادي أد كونواي، لكن ربع هذا المبلغ قدمه القطاع الخاص، وليس الحكومات، وثلاثة أرباع المبلغ الباقي قُدِّم على شكل قروض، وليس مِنَحا كما يوحي بيان القمة.
وقد وعدت قمة غلاسكو بمضاعفة الدعم المقدم للدول النامية بحلول 2025، كما أقرت قواعد مشتركة لإنشاء سوق لبدائل الكاربون، ومواصلة البحث حول كيفية تعويض الدول النامية عن الأضرار التي تتكبدها بسبب التغير المناخي. غير أن السؤال الذي يواجه الدول النامية، بما فيها الصين والهند، هو من يضمن أن الولايات المتحدة سوف تلتزم باتفاقيات غلاسكو عندما تتغير الإدارة الديمقراطية الحالية؟
سجل الولايات المتحدة في هذا المجال لا يبعث على التفاؤل. فاتفاقية كيوتو لعام 1997، التي أبرمت في عهد الرئيس الأميركي الديمقراطي، بِل كلنتون (42)، وأُنجزت بجهود استثنائية لنائب الرئيس الأميركي، أَل غور، المهتم بالبيئة، تخلى عنها الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش (43) كليا، واتفاقية باريس لعام 2015 التي أبرمت في عهد الرئيس الديمقراطي باراك أوباما (44)، تخلى عنها خليفته الجمهوري دونالد ترامب (45)! من يضمن أن ما وافق عليه الرئيس الديمقراطي جو بايدن (46) يمكن أن يلتزم به الرئيس الأميركي السابع والأربعون؟
الرئيس جو بايدن أعلن قبل يومين بعد إقرار الكونغرس قانون “بناء أميركا أفضل” الذي يكلف ترليون دولار، أن الولايات المتحدة خسرت 99 مليار دولار في العام المنصرم بسبب التغير المناخي، وأن مشروع “بناء أميركا أفضل” سوف يستهدف تحسين البيئة وزيادة المساحات الخضراء وتحويل 50% من السيارات إلى العمل بالطاقة الكهربائية. كما يشمل استخدام المياه والرياح في توليد الطاقة الكهربائية، الأمر الذي يقلص من الانبعاثات الغازية. لكن المقلق بالنسبة لكثيرين هو أن بايدن قد لا يرشح لولاية ثانية، لأن عمره قد لا يسمح بذلك، إذ سيبلغ 82 عاما عند انتهاء ولايته الأولى، وهو الآن الرئيس الأميركي الأسَن منذ تأسيس الدولة. ولأن الرئيس السابق ترامب يحاول العودة إلى البيت الأبيض، فإن كل مشاريع تحسين البيئة سوف تذهب أدراج الرياح في حال فوزه في انتخابات عام 2024، رغم أن هذا يبدو مستبعدا حاليا.
مشكلة التغير المناخي ملحة وتحتاج إلى معالجات عاجلة، فهي تتعلق بالحياة على كوكب الأرض خلال العقود القليلة المقبلة، وليست مسألة خلافات سياسية أو اقتصادية، وبالتأكيد فإن أزمة المناخ لا تتحمل المزاجيات السياسية الأميركية، ولا الانتهازية الاقتصادية الصينية والهندية. وهي كما سمّاها الأمين العام للأمم المتحدة في كلمته الختامية في مؤتمر غلاسكو “معركة من أجل حياتنا، ويجب علينا أن ننتصر فيها!”
الانتصار في معركة الحياة هذه يحتاج إلى عمل حقيقي ومكلِّف، والتزامٍ لا يلين، مبنيٍ على إدراكٍ بخطورة الوضع الذي تواجهه البشرية خلال هذا القرن. ويحتاج أيضا إلى تغييرات جذرية في البنى الأساسية للاقتصادات العالمية كي تكون أكثر ملاءمة وانسجاما مع البيئة النظيفة.
فهل قادة الدول الكبرى الحاليون قلقون حقا على مستقبل الأجيال المقبلة؟ هل يكترثون بجد لحق الأجيال المقبلة في العيش السليم والهادئ والمثمر على هذا الكوكب؟ أم أنهم يفكرون بمستقبلهم السياسي القصير الأمد فحسب، عملا بمقولة أبي فراس الحمداني (إذا مُتُّ ظمآنا فلا نزل القطرُ)؟
لقد وعدت القمة بأن تكون هناك مراجعة بحلول نهاية العام المقبل لتقييم التزام الدول المختلفة باتفاقية غلاسكو للمناخ. إن حصلت هذه المراجعة، وأكدت فعلا هذا الالتزام، يمكننا القول إن قمة غلاسكو كانت ناجحة وأن الأجيال المقبلة في مأمن من الاحترار. وفي خلاف ذلك فإن الأجيال المقبلة في خطر، وأول من سيدفع الثمن هم سكان الجزر حول العالم.