وقال خلال مؤتمر صحفي في البرلمان الأوروبي: “غدا سيكون لدينا سلام نبنيه، دعونا لا ننسى ذلك أبدا، سيتعين علينا القيام بذلك مع أوكرانيا وروسيا حول الطاولة، لكن ذلك لن يحصل من خلال رفض أو استبعاد بعضنا بعضا، ولا حتى بالإذلال”.
وقبل ذلك بقليل، قال ماكرون في كلمة له: “عندما يعود السلام إلى التراب الأوروبي، سيتعين علينا بناء توازنات أمنية جديدة” من دون “الاستسلام أبدا للإغراء أو الإذلال، ولا لروح الانتقام، لأنها أمعنت في تدمير طرق السلام في الماضي”.
كما صرح ماكرون في حديث لوسائل إعلام فرنسية، السبت: “يجب ألا نهين روسيا حتى نتمكن في اليوم الذي يتوقف فيه القتال من إيجاد مخرج عبر الوسائل الدبلوماسية، أنا مقتنع بأن دور فرنسا هو أن تكون قوة وسيطة”.
ويرى مراقبون أن مواقف ماكرون هذه التي تعكس تمايزا عن الكتلة الأطلسية، وهو في بداية دورته الرئاسية الثانية، ربما تمثل محاولة لاستحضار نهج سلفه شارل ديغول ونزوعه الاستقلالي عن ضفة الأطلسي الغربية، والذي وصلت الأمور في عهده لحد انسحاب فرنسا من القيادة العسكرية الموحدة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في العام 1966.
وتعليقا على دلالات الموقف الفرنسي وما إذا كان يعكس بداية اتساع الفجوة بين المواقف الأوروبية والأطلسية من روسيا، تقول لانا بدفان الباحثة والخبيرة بالعلاقات الدولية بمدرسة موسكو العليا للاقتصاد في حديث مع “سكاي نيوز عربية”: “الموقف الفرنسي من روسيا يختلف بطبيعة الحال ولحد ملحوظ عن مواقف بقية الدول الأوروبية والغربية عامة، فباريس هي الأقل تشددا في مواقفها من الروس على خلفية الأزمة الأوكرانية، ونعلم أن ماكرون هو أكثر زعيم أوروبي تحدث وتواصل مع نظيره الروسي خلال الأشهر الماضية وحتى في ظل الحرب الأوكرانية”.
وتتابع: “تصريحات ماكرون هذه عقلانية وتتسق مع منطق أن أي صراع داخل أوروبا يجب أن يحل بالوسائل الدبلوماسية والمفاوضات كما هي حال الحرب بأوكرانيا، واستيعاب مخاوف وشروط الطرف الروسي المتخوف على أمنه القومي، كما ويدرك ماكرون أن العالم تغير بتوازناته، وأن الأحادية القطبية انهارت، حيث تظهر أقطاب صاعدة كالصين مثلا، وبالتالي فلا بد من التأقلم مع هذا الواقع الجديد والتفاعل معه”.
والأهم في كلام ماكرون، تضيف الباحثة الروسية: “هو تحذيره من مغبة سيادة الروح الانتقامية حيال روسيا والروس، بحيث ألا تطال مثلا العقوبات الشعب الروسي، فنحن نتحدث عن أكبر دولة بالعالم وهي روسيا، والعقوبات عليها تفرز أزمات دولية كبرى غذائية وطاقية وأمنية، كما نلاحظ الآن”.
واستدركت: “كما وأن ماكرون يغمز من قناة أخطاء تاريخية أوروبية في تجارب شبيهة، كما حدث خلال إبرام معاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى في العام 1919، والتي مثلت إذلالا لألمانيا، ولهذا فالعالم ليس بحاجة لإعادة إنتاج هكذا سياسات ومعاهدات مدمرة، بل هو بحاجة لإحلال السلام والتنمية والتعاون والتكامل”.
فماكرون يدرك تماما، كما ترى الباحثة في العلاقات الدولية أن “الإيغال بالتصعيد مع الروس أكثر مما هو حاصل الآن، سيرتد كارثيا على أوروبا بالدرجة الأولى أمنيا واقتصاديا، حيث تستورد بلدان الاتحاد الأوروبي مثلا العديد من المواد الخام والمنتوجات من روسيا، رغم أنها تقر حزم متتالية من العقوبات على موسكو، لكن أوروبا في قمحها وخبزها وزيت طعامها ناهيك عن غازها ومحروقاتها تعتمد بشكل واسع على روسيا، ولا يمكنها ايجاد بديل عنها أقله في المديين القريب والمتوسط”.
وتضيف المتحدثة :”سيد الإليزيه يعرف تماما أن روسيا لهذه اللحظة وبعد مرور 100 يوم من الحرب، لا زالت حريصة على عدم الانفعال والانجرار لسياسة رد الفعل على الأفعال الغربية في إغداق الأسلحة المتطورة على كييف لتسعير الحرب ضدها، وهو بكلامه هذا يريد تجنيب فرنسا من التورط في ذلك، وما يجره من تبعات خطيرة اقتصاديا وأمنيا واستراتيجيا على باريس وموقعها الأوروبي والدولي، وهو عبر هذا الموقف يرسل رسالة غير مباشرة لموسكو مفادها أن باريس لا تريد محاربة الروس بالوكالة في الميدان الأوكراني، وأنها تتحفظ على سياسة الغرب مد أوكرانيا بالسلاح كما تفعل مثلا واشنطن وبرلين، وأنها ستسعى تبعا لذلك للعمل على احلال السلام في أوكرانيا وليس صب الزيت على نار الحرب فيها”.
بدوره يقول طارق سارممي الكاتب والخبير في العلاقات الدولية، في حوار مع سكاي نيوز عربية: “تصريحات ماكرون تحمل فيما بين سطورها إشارات بالغة الأهمية، كقوله إن باريس تريد لعب دور الوسيط لحل الأزمة الأوكرانية، وهذا يعني بشكل ما أن فرنسا تريد أن تأخذ مسافة من الموقف الغربي الأطلسي وخاصة الأميركي البريطاني من الصراع في أوكرانيا، والذي هو تصعيدي منحاز وداعم لكييف ضد موسكو، وربما تعكس هذه التصريحات ملامح سياسة باريس ومقاربتها الجديدة للحرب الأوكرانية في المرحلة القادمة، بعد اعادة انتخاب ماكرون”.
وتابع: “منذ البداية وحتى قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، حرص ماكرون على لعب دور بناء وايجابي يدفع نحو اعتماد مقاربات الحل الدبلوماسي ونبذ الحرب، وهو نهج فرنسي ظل قائما حتى في ظل اشتداد الحرب طيلة الأشهر الماضية وبلوغ التوترات الدولية حواف الهاوية على وقعها”.
فالرجل وهو الآن في بداية دورته الرئاسية الثانية، يقول الخبير في العلاقات الدولية: “يبدو أكثر إصرارا على إعادة الاعتبار للوسطية الفرنسية التقليدية التي لطالما شكلت أحد أهم ملامح صناعة السياسات الخارجية والدولية لباريس، ولسعيها كي تكون أوروبا ككل وليس فقط فرنسا قطبا دوليا قائما بذاته”.
هذا وقد رد وزير خارجية أوكرانيا على ماكرون بالقول: “الدعوات لتجنب إهانة روسيا لن تؤدي إلا إلى إهانة فرنسا وكل دولة أخرى تطالب بذلك”.
وعادة ما تثير مواقف باريس من الأزمة الأوكرانية وحرصها على إبقاء باب التواصل والحوار مع موسكو مفتوحا، انتقادات بعض العواصم التي تندرج ضمن معسكر “الصقور” الأوروبي، كوارسو وعواصم دول البلطيق.