ولم تقتصر الاحتجاجات على طلبة الجامعة الشهيرة وأساتذتهم فقط، بل امتدت داخل المعارضة والصحافة والإعلام والرأي العام ككل، كون هذه الخطوة مؤشر خطير لسعي أردوغان لمصادرة كافة الحقوق والحريات، وتأميم كل شيء في تركيا، بما في ذلك استقلالية السلك الجامعي، والتدخل في شؤونه وفرض وصايته عليه.
والواضح أن هذه الخطوة في أحد خلفياتها تنطوي على محاولة ثأرية من قبل أردوغان من هذه الجامعة وطلابها الذين كانت لهم خلال عام 2018 مظاهرات عارمة احتجاجا على الغزو التركي لمناطق شمال سوريا، وتحديدا عفرين، إثر ما سميت زورا عملية “غصن الزيتون” والتي اعتقلت السلطات على إثرها العديد منهم، ووصفهم الرئيس التركي آنذاك بالخونة والإرهابيين.
وتعد جامعة البوسفور من أهم وأعرق الجامعات في تركيا لدرجة يطلق عليها “هارفارد التركية” وتخرج منها الكثير من النخب التركية كونها أسست في عام 1863 كأول مؤسسة تعليمية وبحثية أميركية في الخارج، والتي ومنذ العام 1971 تحولت إلى جامعة تركية خالصة، وهو ما يفسر إصرار أردوغان على فرض رئيس لها من قبله ومن حزبه، نظرا لما تتمتع به الجامعة من تاريخ عريق، ومن رصانة أكاديمية ودور مشهود في الارتقاء بسوية التعليم العالي والبحث العلمي في تركيا، وبما يجاري سوية التعليم العالي الأميركي، الأمر الذي يتعارض مع “المسعى الأردوغاني” لتحويل الجامعات إلى أوكار مخابراتية ومتطرفة.
من هو مليح بولو؟
ولد بولو في عام 1970، وتقلد مناصب حزبية وإدارية عديدة في حزب العدالة والتنمية، وترشح على قوائمه في الانتخابات البلدية والبرلمانية لعدة مرات، ويعرف عنه ولاؤه المطلق لأردوغان.
ولا تقتصر المآخذ والاعتراضات على بولو لكونه مقربا من أردوغان وحسب، فحتى وفق المقاييس والمعايير الأكاديمية والأسبقية والتراتبية العلمية، فإن ثمة اعتراضات عليه من قبل الوسط الأكاديمي وخصوصا من هيئة تدريس وإدارة جامعة البوسفور على اعتبار أن ثمة من هم أحق منه وأجدر بتولي هذا المنصب الأكاديمي المرموق خاصة وأنه تعيين حزبي ومن خارج إطار الجامعة وإرادة كادرها التعليمي وطلبتها، ما يطعن في حرية واستقلالية الجامعات، ويؤثر سلبا على نزاهتها وجدارتها العلمية والبحثية.
وكان أردوغان قد أصدر بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في عام 2016، قرارا بتعيين رؤساء الجامعات من قبله، على أن يختار هو أحد ثلاثة مرشحين منتخبين من داخل هذه الجامعة أو تلك.
لكنه هذه المرة ضرب عرض الحائط بذلك أيضا معينا بولو، وهو ليس عضوا حتى في الهيئات الادارية والتدريسية في الجامعة التي عيّن رئيسا لها دون تشاور مع تلك الهيئات.
رفض للتعيين
وأجمعت مختلف أحزاب وقوى المعارضة على رفض هذا التعيين والسياسة القمعية بحق طلبة الجامعة وأساتذتها الرافضين الخنوع لمصادرة حرية واستقلالية جامعتهم، حيث قال المتحدث باسم حزب الشعب الجمهوري: “لم نطلق عن عبث وفراغ على هذا النظام وصف نظام وصاية الرجل الواحد”.
أما رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، فأكد في رسالة للجامعة، وقوفه مع نضال الطلاب والأكاديميين ضد التدخل السلطوي في شؤونها.
وأصدر حزب الشعوب الديمقراطي ذي الغالبية الكردية، تصريحات مؤيدة لتظاهرات الطلبة المحقة، كما بعث رئيس الحزب السابق صلاح الدين دميرتاش والمسجون تعسفيا منذ نحو خمسة أعوام بقرار من نظام أردوغان، برسالة تضامن مع الطلاب والأكاديميين المنتفضين ضد الاستبداد وتسييس الفضاء الأكاديمي.
ومن جانبه، انتقد زعيم حزب المستقبل أحمد داوود أوغلو، تعيين أردوغان شخصا من حزبه ومرشحا سابقا في البرلمان رئيسا لجامعة بالقول :”الجامعات ليست أمكنة بلا أرواح، هي إقليم للعقول التي تتغذى من الحرية”.
وبدوره صرّح علي باباجان رئيس حزب الديمقراطية والتقدم: “ينبغي أن تتمتع الجامعات بإدارة ذاتية فبلادنا بحاجة إلى أكاديميين وعلماء أحرار وإلى طلاب منتجين. الحرية والإنتاج لا يتحققان في ظل تعيين رؤساء الجامعات عبر الوصاية. لا نريد عمداء بالوصاية بل نريد أكاديميين أحرارا”.
وأمام هذه الانتقادات دافع شريك أردوغان، زعيم حزب الحركة القومية الفاشي دولت بهجلي، عن قرار حليفه داعيا إلى سحق المتظاهرين، معتبرا إياهم جزء من مؤامرة تهدف إلى إثارة انتفاضة.
وحول قرار تعيين بولو، قالت ناهدة أرميش القيادية في حزب الشعوب الديمقراطي في حديث مع موقع “سكاي نيوز عربية”: “لقد تحولت تركيا إلى بلد مصادر ومعتقل وتحت الوصاية في عهد أردوغان فكل المرافق والمؤسسات يتم وضع اليد عليها وتعيين وفرض أوصياء ووكلاء عنه عليها وذلك لترهيب المعارضة والناس، وإيصال رسالة مفادها أن القرار بيدي والسلطة وأنني سأعيد هندسة وتفصيل كل شيء في هذه البلاد على قياسي، وبما يخدم سلطتي، في مسعى لزرع الخوف واليأس والقنوط وتعميم الروح السلبية المستكينة في الأوساط السياسية والثقافية والأكاديمية وفي مختلف مضامير المجتمع”.
وأضافت أرميش: “احتجاجات الطلبة الجامعيين هذه التي تحظى بدعم شعبي واسع إنما تعيد الثقة لدى الناس وتزرع فيهم أمل التغيير والفكاك من الاستبداد الأردوغاني، وقد تفتح الباب لتطورات وتغيرات إيجابية لجهة كسر نظام الوصاية في تركيا القائم على فرض وكلاء أردوغان في كل مكان بغية سد مسامات المجتمع وخنقه”.
وتزامن تعيين بولو مع قيام الموقع الرسمي لمؤسسة التعليم العالي التركية بحجب الوصول لرسالتي الدكتوراه والماجستير الخاصة بالرجل.
ووفق وسائل إعلام تركية، فإنه وبمجرد محاولة الوصول إلى الأطروحتين يظهر تنويه يفيد بأنه لا يمكن استعراض هذه الرسالة عبر قاعدة البيانات.
وكانت تلك الوسائل قد أشارت إلى أن بولو نسخ أجزاء كبيرة من أطروحتيه للماجستير والدكتوراه عن رسائل علمية أخرى مماثلة، ما يطعن في نزاهته العلمية والأخلاقية، وهو الأمر الذي سيزيد من رقعة الاحتجاجات على تعيينه التعسفي والمنافي لمبادئ الاستقلالية العلمية والأكاديمية.