أكد محمد آيت لعميم، الناقد والباحث في التراث، أن حي “القصور العتيق” بمدينة مراكش من بين أهم الأحياء التي تطفو فوق بحر من التاريخ، موردا أنه قد تم فرزه عن حي يحمل الاسم نفسه بني حديثا خارج الأسوار حتى كاد أن يُنسي الحي القديم.

وأورد لعميم في مقال تحت عنوان “ذاكرة حي عريق في المدينة العتيقة”، توصلت به هسبريس، أن الحي العريق اكتسب هويته وتسميته من تمركز رجالات المخزن فيه والطبقات العليا في الدول المتعاقبة على مراكش.

وتطرق الباحث في التراث لمختلف المراحل التاريخية التي عرفها هذا الحي، موردا أنه استوطنه في العصر الحديث مجموعة من الأدباء والفنانين من أمثال المسرحي محمد حسن الجندي، وعازف العود الشهير سعيد الشرايبي، والفنان مولاي عبد العزيز الطاهري الذي لعب أدواراً في تأسيس مجموعة ناس الغيوان وجيل جيلالة، والمسرحي المرموق عبد السلام الشرايبي صاحب مسرحية الحراز التحفة المسرحية.

إليكم نص المقال كما توصلت به هسبريس:

للأحياء العريقة في المدينة القديمة سحر أخاذ وسرٌّ جذاب؛ مردُّ ذلك إلى عمقها التاريخي، وما ترسب فيها من ذكريات، وما توالى عليها من أحداث. مما يجعل المكان في حد ذاته مسرحاً حيا تتواصل فيه موجات خفية شبيهة بالذبذبات التي يشكل حفيفها وهمسها مغناطيسا يجذب إليه العابرين عبر الزمان في ذاكرة الحي.

للمكان العتيق روح، تتنفس بقدر أنفاس العابرين، الذي يخلف عبورهم زخما وامتلاء للمكان. وهذا النوع من الأحياء يكون مكتظا بأطياف من سكنوا الحي في الأزمنة القديمة. وكل القاطنين فيه على مر الأزمنة يستشعرون هذه الروح العابرة للمكان عبر نهر الزمن المتدفق والمتجددةِ مياهه، ويستشعرون أيضا جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقهم في الحفاظ على هذه الروح وهذه المعالم من الاندثار والاندراس.

ومن بين أهم الأحياء في مراكش التي تطفو فوق بحر من التاريخ، يوجد حي القصور العتيق، ووجب التنصيص على فرزه عن حي يحمل الاسم نفسه بني حديثا خارج الأسوار حتى كاد أن يُنسي الحي القديم، إذ كلما ركبتَ طاكسيا صغيرا وطلبت وجهة القصور سيأخذك صاحبه تواً إلى الحي الجديد إلا إذا قلت له حي القصور في المدينة القديمة. لقد أصبح الحي محتاجا إلى نَعت وإلصاق كلمة المدينة القديمة إليه.

لقد اكتسب هذا الحي العريق هويته وتسميته من تمركز رجالات المخزن فيه والطبقات العليا في الدول المتعاقبة على مراكش، فقصور ورياضات هذه الطبقات هي التي وسمت الحي ووهبته اسما. وبما أن الحي امتداد للموقع القديم لمراكش، قصر الحجر المرابطي، وبعده حي الكتبيين الموحدي، فإن قاطنيه في الزمن القديم يتشكلون من عِلْية القوم والشخصيات السياسية والعلماء. ويبدو أن التحولات التي عرفتها المدينة في العهد الموحدي ونقل سلطتهم إلى القصبة، قد أفرغ الحي، ليستقر فيه في العهد المريني الهنتاتيون الجبليون. فمن الذين سكنوه في هذه الفترة المرينية القاضي الزْكندري الذي ينسب إليه مسجد عتيق بالحي يحمل اسمه، وهذا القاضي كان من أصدقاء ذي الوزارتين لسان الدين ابن الخطيب، وقد ضيفه عنده بمنزله بحي القصور.

غير أن الحي في الزمن السعدي سيكتسب هوية جديدة ذات طابع روحي، بحيث سيدفن فيه أحد الرجالات السبعة من مراكش، وهو شيخ العصر عبد الله الغزواني (مول القصور)، وسيصبح هو حارس الحي ويتحول ضريحه إلى معلمة روحية وسط الحي. بحيث سيجاوره الشرفاء الأمغاريون لصلة جدهم الشيخ عبد الله بن حساين بالغزواني، والبوكيليون الذين توارثوا وظائف الحِسبة، والشرفاء المسعوديون، وأسرة آل بلعادل التي كان من بينهم سفير السلطان أحمد المنصور الذهبي إلى الملكة إليزابيث، وفي هذه السفارة لقي الكاتب والمسرحي الكبير شكسبير عام 1580.

وفي الفترة العلوية، سيتمركز في الحي مجموعة من الطوائف الصوفية والزوايا، مثل الوزانية والدرقاوية والعمرانية والتجانية النظيفية والبوتشيشية. وبالموازاة مع هذا الحضور الروحي، سكن الحي مجموعة من الشخصيات السياسية والقياد والأدباء والفنانين.

فسكن الحي من الوزراء كل من الوزير قادوس في زمن السلطان محمد بن عبد الله، ومن المضحكات المبكيات أنه لما أرادت البلدية في بداية الألفية الثالثة أن تجدد اسم الدرب الذي يحمل اسمه اجتهد من يجهل التاريخ وأسماء الأعلام وأضاف للاسم “أل” التعريف، فتحول الاسم من اسم الوزير “قادوس” إلى اسم ميزاب أو مجاري المياه العادمة ليتحول هكذا بغباء درب القادوس. والوزير الزفريتي في الفترة نفسها، والوزير المؤرخ أكنسوس الذي لعب دوراً حاسماً في نقل المُلك من أبناء المولى سليمان إلى الفرع الهِشامي، فالأمير عبد الرحمان بن هشام كان هو الآخر ساكنا في الحي، والوزير الجامعي، والوزير غريط.

ومن القياد، عيسى العبدي، والمتوكي، ولوريكي، والضرضوري. ومن الأدباء والفنانين، الأديب الأريب الذي حلّاه الكاتب بوعشرين صاحب كتاب التنبيه المُعْرب “بحريري وقته” عبد الله أكنسوس صاحب كناش الموسيقى الذي يعد من الأعمال الموسيقية المجدّدة لسماع الآلة، والذي سيكون نواة فيما بعد ليتخذ أهل الحي معهدا موسيقيا سيذيع صيته بدار المحتسب البوكيلي وسيبدع فيه مولاي عبد الله الوزاني. وبالحي نفسه سكن شاعر الملحون بلا منازع الجيلالي متيرد، وشاعر الملحون الشرابلي.

يستوطن الحي في العصر الحديث مجموعة من الأدباء والفنانين من أمثال المسرحي محمد حسن الجندي، وعازف العود الشهير سعيد الشرايبي، والفنان مولاي عبد العزيز الطاهري الذي لعب أدواراً في تأسيس مجموعة ناس الغيوان وجيل جيلالة، والمسرحي المرموق عبد السلام الشرايبي صاحب مسرحية الحراز التحفة المسرحية.

وفي هذا الحي، سيستقبل المفكر والسياسي الوطني مولاي عبد الله إبراهيم صديقه المناضل الأممي شي كيفارا بدرب الفقيه السباعي.

إن من ينتسب إلى هذا الحي سيستشعر لا محالة ثقل التاريخ الذي يرزح تحته، وسيحس بجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه، كي يكون جديرا بالإقامة فيه.

لقد جرت تحت الجسر مياه كثيرة، وتبدلت الأحوال، فارتحل من ارتحل، وغادر الحي أناس كثيرون، واستوطنه أجانب وأغراب. وبالرغم من النأي عن المكان، فإن كل واحد من أبناء الحي يحمل معه المكان في ذاكرته ووجدانه، فذاكرة المكان لا تبلى، ومراتع الطفولة والشباب لا تنسى.

من فضائل التقنية الحديثة أنها أسهمت في إنعاش الذاكرة وإيقاظها من سباتها، وحفزت على تجديد التواصل بين الناس الذين فرقت بينهم السبل ومشاغل الحياة التي لا تنقضي. فبإيعاز من أحد أبناء الحي وهو جعفر الكنسوسي وبمعيته محمد بوطالب وإبراهيم قمر الزمان، أحدثت مجموعة في تطبيق “واتساب”، للمحاورة والمذاكرة بين أبناء الحي، فكانت النتائج غير متوقعة بحيث صار يتقاطر الناس من أهل الحي على المجموعة وأغلبهم كان قد غادر الحي منذ عقود وما زال الناس يهرعون من كل حدب وصوب للالتحاق بالركب الافتراضي، وأنشأت بالموازاة مجموعة “واتساب” للنساء ليكتمل الشأن. بحيث فتحت المجموعة أبوابها لتلقي سيل من المعلومات والأخبار والصور والذكريات توثق للتاريخ القريب للحي. فصار الناس يخوضون في ذاكرة الحي وذكر محاسنه، والعائلات والرجالات والبطولات والأحداث والذاكرة المشتركة في زمن الطفولة والمراهقة. وكيف كان أهل الحي سباقين لأحداث النوادي الرياضية، وأفرج الناس عن مخزون الصدور والصور وأرشيف ألبوماتهم، صور توثق للحي وذاكرته.

بدأت هذه الفكرة تتطور حتى أسفرت عن طرح فكرة تأسيس جمعية تجمع أهل القصور. وحين طرحت هذه الفكرة في المجموعة، كان يحدوها العمل الإحساني وإعانة من بقي في الحي من القدماء؛ لكن ظهر أن فكرة المعونات ليست بذات أفق، إذ عدد المحتاجين قليل، بل ظهر في الحي أثرياء أغراب. فانتبه الجمع إلى أن للجمعية أدوارا مستقبلية تتجاوز العمل الإحساني فقط إلى العمل الثقافي والرياضي، ثم إن هناك فكرة عظيمة الشأن ستكون من مهام الجمعية وعليها مدار شأنها وهو الإسهام في ترميم الحي، لا سيما أن أشغال الترميم الكبرى ما زالت قائمة ولم تصل إلى الحي بعد، فهي فرصة للمجتمع المدني في الحي أن يقول كلمته بخصوص أشغال الترميم والإصلاح.

بعد أن نضجت فكرة إنشاء جمعية، لأنها أضحت ضرورة محتمة، تهيأ الركب الافتراضي وحضر لليوم الموعود، وفتح باب الترشيح لرئاسة الجمعية فظهر رجلان من أهل الحي، واحد منهما ما زال يسكن الحي، والآخر غادره منذ عقود؛ لكنه لبى داعي الحي لما ناداه فاستجاب من دون تردد، وطلبت المجموعة لكل واحد منهما أن يدلي بشهادة صوتية، يفسر فيها أسباب ترشحه، وأن يعرف بمشروعه، فكانا كلاهما مقنعا، وبحركة متحضرة تنازل نجيب الورزازي لصالح صديقه خليل الكرماعي، الأستاذ الجامعي والمتمرس على العمل الجمعوي منذ أزيد من عقدين من الزمن.

التمس جعفر الكنسوسي من السيد عبد السلام الداموسي أن يفتح لهم باب الدار المرفوعة: قصور أكفاي، وبما أن هذه الدار هي دار سعدية عريقة بناها أحمد المنصور لأحد كبار جيشه لما انتصر في معركة وادي المخازن وسكنها درية الولي مولاي عبد الله بن حساين لمدة قرون، تفاءل الجمع بإنشاء الجمعية في دار المنتصرين، حتى يكون النصر حليفهم فيما هم سالكوه.

فبعد أن عملت اللجنة التحضيرية على التهيئة لهذا اليوم التأسيسي من خلال عملها الدؤوب ووضعت مجموعة من الأهداف للجمعية تتميز بها عن باقي الجمعيات داخل المدينة وقد ركزت على مجموعة من الأهداف منها:

ـ إعادة الاعتبار للحي.

ـ إسهام الجمعية بوصفها جزءا من المجتمع المدني في الاستجابة للورش الملكي التاريخي الكبير لمدينة مراكش العتيقة.

ـ التحسيس والتفهيم لما يحدث داخل المدينة.

ـ مشاركة الجمعية في الاقتراح والقيام بدورها فيما يتعلق بشؤون المدينة.

ـ إحياء المراسم والطقوس المرتبطة بالحي.

ـ تفهيم التاريخ والتراث، من حيث المادة الأدبية والتاريخية والذاكرة المشتركة.

ـ التركيز على الجوانب التآزرية والترابط في المبنى والمعنى أن يكون الحي مثل البنيان المرصوص.

ـ إحياء الموسم السنوي لقطب الغرب الغزواني عن طريق العلم وإحياء القيم الحضرية الحية.ـ إن جمعية القصور مراكش المدينة التي رأت النور يوم السبت 20 مارس 2021 جاءت على قدر. في لحظة زمنية فارقة من أجل إحياء ذاكرة الحي القديمة والحديثة، والسهر على بعث أنفاس العابرين، وحراسة القيم الحضرية الحية، بغية وصل ماض الحي بحاضره في أفق توطيد الصلات وتجديد العهود وبذل المجهود للنهوض بجزء مهم في المدينة العتيقة.

hespress.com