بدءا من اللقطة الأولى، كيف تبدو الحالة على الأرض؟

تبدو مخلفات ما جرى على ظهر البطل وعلى طريقه (News of The World أخبار العالم على نتفليكس منذ 10-02-2021 للمخرج بول غرينغراس). كان ما جرى حدثا عظيما، التراجيديا خارج الكادر. لكن ما تبع تلك التراجيديا يصوغ مستقبلا مختلفا. لقد جاء الألم بنتيجة.

هذا راعي بقر طبعة ما بعد حرب الانفصال الأمريكية (1861- 1865). إنه ضابط سابق يتحرك في فضاء دولتي، وليس في فضاء فوضى. هناك قوانين دولة تحدد الحق والواجب… يشبه بطل الفيلم (أداء توم هانكس) على صعيد المظهر أبطال الفيلم الويستيرن؛ لكنه ملتزم بقانون الدولة وليس بقانون ذراعه.

شيخ وطفلة في رحلة في الجنوب الأمريكي تقدم مقطعا في زمن محدد. بعد ست دقائق، كان المخرج قد حدد المكان وعرض الشخصيات الرئيسية وأطلق حبكة الفيلم. بينما تبقى الطفلة في الانتظار لربط مشاهد الفيلم، ترافق الكاميرا البطل على ظهر فرسه لترصد ولادة أمريكا الجديدة بعد كل الدم الذي سال.

يؤدي توم هانكس الدور كأنه ولد فيه، تصعب ملاحظة جهد الأداء من فرط الإتقان. أحيانا لا يجري شيء مهم في المشاهد؛ لكن حضور الممثل وطريقة أدائه لمشاعره ممتعة. لقد جسد هانكس الأبعاد الأربعة للطبيعة البشرية، وهي البعد البدني والروحي والعقلي والاجتماعي العاطفي، بمهارة. وهذا السهل الممتنع لا يتقنه إلا الممثلون الكبار. قدم هيبة شيخ في السبعين بوجه معبر مؤثر وجذاب. تعبر الكاميرا عن مدى إعجاب المخرج بالممثل الذي عمل معه في فيلم “الكابتن فيليب” 2013.

يقدم هانكس، الذي بلغ الخامسة والستين من عمره، سيرة بطل يحمل تاريخه على جلد ظهره. في تفسيره لسلوك الشخصية، يكشف لنا المخرج سببا ظل مجهولا لسلوك الضابط العجوز: إن الذين لا يملكون وجهة محددة ويتوفرون على وقت فراغ كبير يعبّرون عن جاهزية أكبر للتضحية من أجل الآخرين. التفسير هو من منح المتفرج مفاتيح فهم ما وقع.

البطل قارئ أخبار جوال، ينشر الأخبار ويناقشها لتشكيل الرأي العام. يحضر جرائده بخشوع كأنها سجادة صلاة. أحيانا يتحول ناقل أخبار إلى طرف في النقاش. في المجادلات يكتشف نظرية جديدة في التلقي. يجب سرد ما يريده الجمهور لإحداث الأثر… يتضح أن تقديم الخبر الصحافي شفويا يتطلب مهارة حكائية في صياغة المحتوى وفي نبر الإلقاء… حين تثير الأخبار صراعا يتحول قارئ الأخبار من إعلامي إلى سياسي يوجه النقاش لتشكيل رأي عام ضروري في دولة ديمقراطية. مع مرور الزمن، تعلم تجنب قراءة الأخبار المحلية التي تخص المدينة التي يعْبرها لأنها مملة للسكان وتثير حفيظتهم، بينما يستمتع الجمهور بسماع أخبار المدن البعيدة.

أول خبر هو وباء المينانجيت الذي يجتاح أمريكا بينما النزاع بين الولايات على أشده. يذكر جدل 1870 بوباء وجدالات أمريكا في 2020. جدل يساهم فيه ضابط وطني متعاطف مع الهنود الحمر. فيلم تاريخي يفيد في قراءة الحاضر. لا معنى لأي فيلم تاريخي دون قراءة الحاضر؛ لأن الزمن الحي بالنسبة للمشاهد هو الآن.

الفيلم، حسب الجنريك، هو استلهام وليس اقتباس لرواية “أخبار العالم” لبوليت جيل PAULETTE JILES. ما الذي يجعل رواية ما تستحق أن تصور فيلما؟
هذا موضوع آخر.

خلال رحلة البطل الشخصية، يتشكل مشهد عام. في الطريق، يكتشف الضابط أن نتيجة الحرب ليست مرضية للجميع. حل السلام؛ لكن الكاميرا لا تحب الهدوء. الحركة في المكان هي التي تخلق الدراما، لرفع الإيقاع في الطريق تم إقحام مطاردة جبلية صعبة سمحت للكاميرا بالتموقع فوق وتحت الشخصيات… يتضح أثناء الرحلة أن الدم ما زال طازجا على الجدران ويحتمل أن يسيل من جديد، هناك دولة تتشكل… باي باي السيبة في تكساس.

بمحاولة تصنيف الفيلم، يظهر أن المخرج يتحرك ضمن نوع فيلمي مشهور (الويستيرن) مع انزياحات صغيرة عن سنن النوع لكي لا يتيه المتفرج الذي تعوّد على خصائص النوع الفيلمي.

شيخ وطفلة في رحلة في الجنوب الأمريكي تقدم مقطعا في زمن محدد، وفي تلك الرحلة يكتشف المتفرج الفضاء والزمن وصورة الإنسان؛ بينما تجتاز الكاميرا البراري فإنها تسترجع حكايات أو توحي بها لتنشط خيال ووجدان المتفرج… تشبه رحلة اكتشاف الجنوب في 1870 تلك الرحلة التي قام بها عازف بيانو أسود في جنوب أمريكا في 1970 في فيلم “غريبن بوك” 2018 لبيتر فارلي.

لتقديم هذا الماضي بدقة، يصور المخرج مهنة ضابط يتجول في قرى الجنوب. كانت تلك مهنة وسيلة المخرج لتقديم معلومات عن المرحلة. هكذا حرر المخرج نفسه من عبء تصوير المعلومات التي تتلى. لقد جعلت قراءة الأخبار السياق مسموعا، والنتيجة تقليل كلفة التصوير إضافة إلى إتاحة الفرصة للكاميرا لتركز على البطل والطفلة. هكذا لا يتشتت موضوع اللقطات.

يضفر الفيلم خطين، خط الطفلة المفقودة وخط قارئ الأخبار الجوال.. طفلة بهوية هجينة، أوروبية وهندية حمراء، طفلة بهوية هجينة، لقد تصالح الهندي مع الأوروبي الوافد. لا تفهم الطفلة لغة الضابط، لكن لغة الجسد وملامح الوجه تطمئنها بأنها لا تواجه خطرا.

لقد انتهت حرب الانفصال التي ألغت العبودية؛ لكن صراع الولايات لم يتوقف. وفي غرين بوك، ألغيت العبودية منذ قرن؛ لكن العنصرية ما زالت تسري في الجنوب الأمريكي. هكذا يساعد فهم الماضي على فهم الحاضر. وهذا أفق جيد للأفلام التاريخية.

[embedded content]

hespress.com