عند النهايات ننظر للبدايات.. معظم البدايات جميلة مثيرة ومغرية، لكن النهايات نادرا ما تكون كذلك.
حين نمسك خيط البداية تكون الطريق غامضة وزاخرة بالمفاجآت والمغامرات وأشياء لا ندركها.. تثير فضولنا وتخلق فينا رغبة دفينة تحثّنا على مواصلة السّير لاكتشاف المحطة القادمة.
رغبة تولّد إرادة وإرادة تولد قدرة وقدرة تلازمنا إلى أن تتسلخ أقدامنا على عتبة النهاية… ليتّضح أن الدّهشة تحوّلت إلى عادة والرّحلة أصبحت مألوفة لا إثارة فيها بعدما فقدت الشرارة.. هكذا نجد أنفسنا نبحث عن البداية في محاولة لخلق الأشياء فينا ومن حولنا.
عند النهاية في الحب، لماذا ننظر للبداية؟
حين تبدأ العلاقة بالانحدار نحو المغيب وتتسلّل البرودة إلى أطرافها، تصيبها بالشّلل وتوشّحنا بلون الرماد، فنجد أنفسنا في جلسات عميقة مع الذّات، نتذكّر كيف بدأت الحكاية.. نركز على الدهشة الأولى والدّفق الأول.. ندقّق في التّفاصيل التي تستنزفنا، في العطر الذي غاص في المسام واللّحن الذي سكن الأغوار.. نقفز إلى لحظات الفرح الطفولي الذي انساب من الأرواح وعبر بالدّمع الذي بلّل الأحلام، وصار بالغضب الذي أفقدنا التوازن والسّكينة. نستحضر محطات الشك واليقين وكلّ تلك البراكين والزلازل التي لم تقو على اقتلاع جذور النبض ولم تزدنا إلا إيمانا بالحب.
تتضخّم الأسئلة في رؤوسنا المليئة بالهموم والأوهام، كيف يغادرنا من صدّقناه وألفناه وائتمناه وآمنا به وربطنا به الغد والأماني والآفاق؟ أين ترك الوعود والورود؟ أين ضيع القبل والأحضان…؟ أتراه طيفا اختفى بين السّحاب، أو قوس قزح زارنا في يوم ماطر ورحل، وهل سيغدو شبحا يهدّ المضجع ويهدد الفؤاد إذا ما زاره النبض في الزمن القادم؟
إنها الذاكرة تمارس حقها في الاحتجاج وتقاوم الأفول، إنه القلب يصرخ عاريا بحوافه الدامية في وجه الهزيمة والخيبة والفقد والخذلان.
نحن بكل هذا نحاول أن نعيد تشكيل وجه الحب والقبض عليه وإن لم نقبض في الحقيقة سوى على خيوط من ريح.. نحن إلى وهج يستعاد ولا يعود، نرفض أن نستيقظ من حلمنا الجميل ولا نقبل أن تغدو مشاعرنا مجرد وهم وذكرى تندثر مع الزمن، أن نتحول إلى كائن مكسور ومجوف من الداخل.
في أعماقنا ندرك أن مآل العالم إلى الصّمت وشرايينه إلى الاجتفاف. بمعنى أن الأشياء جميعها تنتهي، وبالتالي لا بد من نهاية لكي تكون هناك بداية. وبما أن الأمر لا ينحصر فقط في مشاعرنا وقصص الحب التي عشناها أو نعيشها، ففي هذا نوع من العزاء لنا لنتقبّل الفقدان ونتعود على الفطام.
لكي ندرك ما معنى القدر وما معنى أن تموت أشياء، لتحيا أخرى كي تستكمل الحياة دورتها، لكن النهايات تبقى درساً قاسياً لا نتلقنه بالمجان ويكلفنا الكثير من الدّمار ويبقى الزّمن أملنا لنحظى بالنسيان ونتمكن من ترميم أرواحنا وإعادة الاعمار. علينا فقط أن نوقن أن الحب كالشمس وكالإيمان لا ينبغي أن ندخله مغلفين بالضباب أو كمقامرين يراهنون على المشاعر أو كصيادين يتبعون الفريسة إلى أن يحصلوا عليها ثم ينتقلون للبحث عن أخرى؟؟ فالحبّ خير أسمى يسافر في المطلق والأزل.. وعلينا أن نتّقي لعنته الصادقة التي تطارد كل من شوّه وجهه وحوّل حقله الأخضر إلى مستنقع من الوحل وعبث بالمشاعر المقدسة. فإذا ما تحتّم علينا الوداع يوما، يجب أن نجعله راقيا وساميا كأرواحنا المُتجذّرة في السماء.