يرى الإعلامي خالد وديرو، المختص في قضايا الهجرة، أن المجتمع الإسكندنافي عموماً مبني على قاعدتين أساسيتين: هما التنوع والتسامح.

ويعتبر الكاتب، في مقال له عن أزمة اللاجئين في السويد، أن هذا الأمر انعكس على المستوى السياسي بنهج السويد سياسة استثنائية عمادها أولا عنصر التوافق والإجماع السياسي، وثانيا عنصر الاستقرار المؤسساتي، الشيء الذي كرس ما يسمى بـ”دولة الرفاه”، خصوصا بعد أزمة 1990، حيث أعطت دولة السويد الأولوية لمسألة “العدالة الاجتماعية”.

لكن دولة السويد بتاريخها الحقوقي العريق، يستطرد الكاتب في مقاله، “لم يسلم مشهدها السياسي من هذا التراجع وطبعت دينامية أحزابها السياسية حضورا قويا لأحزاب يمينية اتخذت من الهجرة “أزمة” لتسجيل مزيد من النقاط والظفر بالكثير من الأصوات الانتخابية. هو مشهد يتمثل في ارتفاع أسهم حزب SD “سفاريا ديمقراتينا” المعادي لسياسات الحكومة السويدية بخصوص الهجرة وحتى للمهاجرين”.

وهذا نص المقال:

جرت رياح التاريخ في بداية القرن 21 بما لا تشتهيه نفوس آلاف من طالبي اللجوء عبر العالم، خصوصا صوب القارة العجوز. حروب وتقلبات سياسية ومناخية دفعت جزءا مهما من شعوب الشرق الأوسط وإفريقيا إلى ركوب رحلة مخاطرة غير محسوبة العواقب لعبور حدود طبيعية وأخرى سياسية بهدف الوصول إلى أرض تضمن الأمان والعيش الكريم. أوروبا التي كانت سابقا أملا ومهربا للكثير من طالبي اللجوء السياسي، وكانت حاضنة دائمة لهذا الحق المكفول بفعل وقوة اتفاقية جنيف سنة 1951 والبروتوكول الإضافي لسنة 1967، أضحت تعيش على إيقاعات التشدد في سياسات الهجرة، من غلق للحدود وتراجع عن سياسة “الكرم” في استقبال مزيد من اللاجئين.

دولة السويد بتاريخها الحقوقي العريق لم يسلم مشهدها السياسي من هذا التراجع وطبعت دينامية أحزابها السياسية حضورا قويا لأحزاب يمينية اتخذت من الهجرة “أزمة” لتسجيل مزيد من النقاط والظفر بالمزيد من الأصوات الانتخابية. هو مشهد يتمثل في ارتفاع أسهم حزب SD “سفاريا ديمقراتينا” المعادي لسياسات الحكومة السويدية بخصوص الهجرة وحتى للمهاجرين.. فكيف يمكن تفسير تنامي المد اليميني في السويد مؤخرا؟ وما تأثير تراجعات اتفاق دبلن المرتقب على سياسة الهجرة واللجوء بالسويد؟

قبل البدء في مناقشة خطاب الحزب اليميني SD ولفهم مدى عمق وخطورة التحول السياسي، الذي يمكن أن يحدثه تنامي قاعدة هذا الحزب، وجب التذكير بطبيعة النظام السياسي الديمقراطي لدولة السويد، التي تعتبر من أعرق الديمقراطيات في العالم شكلا ومضمونا، وتتخذ – بالإضافة إلى دول أخرى- نموذجا يقتدى به دوليا:

المجتمع الإسكندنافي عموماً مبني على قاعدتين أساسيتين، هما التنوع والتسامح؛ وهذا الأمر انعكس على المستوى السياسي بنهج السويد سياسة استثنائية عمادها أولا عنصر التوافق والإجماع السياسي، وثانيا عنصر الاستقرار المؤسساتي، الشيء الذي كرس ما يسمى بـ”دولة الرفاه”، خصوصا بعد أزمة 1990، حيث أعطت دولة السويد الأولوية لمسألة “العدالة الاجتماعية”، من خلال تبني سياسة اقتصادية ومالية ترفع من نسبة الضرائب لتمويل نظام مساعدة اجتماعية بعد الحوار المستمر بين الدولة والشركاء الاجتماعيين وأرباب العمل.

تاريخ هجرة سخي

تاريخيا ومنذ سنة 1975، عوضت السويد سياستها في الهجرة من سياسة المماثلة assimilation إلى سياسة التعدد الثقافي Multiculturalisme، في احترام صريح للحقوق الثقافية والخصوصيات الهوياتية للقادمين الجدد، مرورا بسنة 1980 حين استقبلت السويد موجة لجوء من الشيلي، لبنان ويوغوسلافيا سابقا. لكن حساسية مسألة الهجرة بدأت تظهر أواخر التسعينيات مع ارتفاع أصوات الخطاب الشعبوي اللامتسامح، الذي وجد صداه لدى فئة من المواطنين السويديين جراء أزمة السكن وركود سوق الشغل، ثم قرار انضمام السويد إلى فضاء “شينغن” سنة 2001، وفتح الحدود مع دول الاتحاد الأوروبي، إلى أن جاءت أزمة الهجرة واللجوء سنة 2014-2015 جراء الأزمة السورية، وهجرة مواطنين من إفريقيا أيضا بشكل أصبحت نسبة ساكنة السويد المولودة خارج البلد تشكل 16 بالمائة من مجموع السكان، وأصبحت السويد تحتوي على أكبر ساكنة أجنبية في أوروبا حسب L’OCDE، وعرفت طلبات اللجوء – حسب وكالة الهجرة السويدية- ارتفاعا كبيرا من 80.000 طلب لجوء سنة 2014 إلى 160.000 طلب لجوء سنة 2015.

وبعد ذلك سجل تراجع وانكماش واضح في سياسة الهجرة لأسباب داخلية وأخرى خارجية مرتبطة بالسياق الأوروبي، الذي أصبح أكثر تشددا أمام موجات الهجرة، فكانت النتيجة تنامي الغضب الشعبي نتيجة أزمة البطالة واتساع الهوة بين السويديين الأصليين وبين القادمين الجدد، بالإضافة إلى تركز المهاجرين في مناطق بعينها كمالمو وrosengard، مما يدل على بوادر شرخ اجتماعي.

“نحن نصف الناس كما هم، حياتهم ووضعياتهم، بطريقة يعترف بها ويؤكدها الكثير من القراء، أعتقد ان هذا هو السر”.. هكذا صرح جيمي أكسون، زعيم حزب SD اليميني، في تصريح لقناة Arte في 22 مارس 2019. تصريح حاول من خلاله الافتخار وتفسير ارتفاع شعبيته آنذاك، وفقا لاستطلاعات الرأي الرسمية، حيث حصل في انتخابات 2018 على 17,6 بالمائة من الأصوات مقابل 12,9 بالمائة في انتخابات 2014. خطاب SD يتغذى من عنصر تخويف المواطنين السويديين من المهاجرين أو ما يسمى بـ”الزينوفوبيا”.

انتخابات 2018 كانت استثنائية، وأشرت على منعطف جديد في المشهد الحزبي والسياسي لمستقبل السويد، تمثل أساسا في انقسام الأحزاب السياسية، وتسجيل الحزب الديموقراطي الاجتماعي أدنى نسبة انتخابية له منذ قرن من الزمن بمعدل 28,4 بالمائة من الأصوات فقط، الشيء الذي عقد مسألة حسم التحالف الحكومي الذي سيمثل الأغلبية، وانتظار أربعة شهور بعد التفاوض ليرأس ستيفان لوفين منصب الوزير الأول في تحالف شكل لمواجهة صعود اليمين المتطرف، وشمل، بالإضافة إلى الحزب الاجتماعي الديمقراطي، حزب الخضر والوسط والليبيراليين.

لكن “السر” الذي فسر به جيمي في تصريحه تصاعد شعبيته آنذاك لا يبدو صادقا. فخطاب اليمين المتطرف لا ينبني على الصدق كما يدعي، ولكن على تبني أسلوب التخويف وتشويه الحقائق وعجز حزبه عن طرح حلول واقعية للمشاكل والتحديات المطروحة على الحكومات السويدية، خصوصا ما يتعلق بالاقتصاد، وهنا بيت القصيد.. ولتوضيح أكبر للصورة سنقدم تفسير منظمة “اليونيسكو” لرهاب الاجانب: “هناك سببان مطروحان لتفسير سبب ظهور الحركات العنصرية المصابة برهاب الأغراب (الزينوفوبيا) في نهاية القرن العشرين. السبب الأول هو أنماط الهجرة الجديدة، التي أصبحت أثرا للتدويل التدريجي لسوق العمل خلال عصر ما بعد الاستعمار.

ففي الدول المستقبلة للمهاجرين تعتبر المجموعات الاجتماعية ذات الأوضاع غير الملائمة القادمين الجدد منافسين لها على الوظائف والخدمات العامة. وقد سبّب هذا مناخا اجتماعيا وسياسيا خلق بدوره عنصرية ورهابا من الأغراب (..) أما السبب الثاني الذي يعزى إليه ارتفاع موجة رهاب الأغراب (الزينوفوبيا) والعنصرية، فهو العولمة. فقد أدت المنافسة المحتدمة بين الدول إلى تقليل خدماتها في مناطق الرفاهية الاجتماعية والتعليم والرعاية الصحية. وقد أثر هذا التقليل، على وجه الخصوص، في شرائح سكانية على هامش المجتمع.

وغالبا ما تكون هذه المجموعات في منافسة مباشرة مع المهاجرين على خدمات الرفاهية (..) أظهر بحث علمي أن عدم الإنصاف الاقتصادي، وتهميش الأشخاص بعيدا عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الأساسية، يزيدان من حدة التوترات ومظاهر العنصرية و”الزينوفوبيا”، فهؤلاء الذين ينظر إليهم كدخلاء أو أغراب أو غالبا مهاجرين، لاجئين، وطالبي لجوء، ونازحين، وغير مواطنين، يُعدون أهدافا سياسية”.

يبدو إذن أن “السر” الذي عزا إليه زعيم حزب SD هو تبنيه هذا الخطاب المبني على شيطنة المهاجرين وتحميلهم مسؤولية أزمة السكن، الشغل وتراجع بعض خدمات دولة الرفاهية، الشيء الذي يفسر تشكل قاعدته الانتخابية أساسا من المتقاعدين وأصحاب المهن البسيطة، من خلال تبنيه شعار الوزير الأول الفرنسي الأسبق Michel Rocard : “نحن لا نستطيع استقبال كل بؤس العالم”. هذا المد اليميني، في ظل تراجع جودة خدمات دولة الرفاهية، يقابله شعور الرأي العام بالإحباط كردة فعل أساسية تجاه الأحزاب التقليدية.

وتستهدف هذه الأحزاب اليمينية في عموم أوروبا بالأساس – حسب البروفيسور في العلوم السياسية Dieter Eibel – ثلاثة أهداف: 1- وقف الهجرة وإعادة اللاجئين إلى أوطانهم. 2- الإصرار على الحلول الوطنية للأزمة من دون الاتحاد الأوروبي البائس. 3- التخلص من النخبة الحاكمة. وهذا ما تنذر به رغبة الاتحاد الأوروبي في تعديل اتفاقية “دبلن” بشكل يزيد من تضييق الخناق على حركية الهجرة داخل الدول الأوروبية الموقعة.

تراجعات “دبلن”

مؤخرا قدمت مفوضة الاتحاد الأوروبي لشؤون الهجرة، السويدية إيفا يوهانسن، اقتراحها لسياسات الهجرة داخل دول الاتحاد لتعديل اتفاقية دبلن. تجدر الإشارة إلى أن هذه الاتفاقية تعتبر بمثابة القانون الرئيسي المعتمد لتدبير الهجرة، وتحديد البلد المسؤول عن فحص طلبات اللجوء طبقا لمقتضيات اتفاقية جنيف، وتحدد آليات تفعيل هذه الإجراءات على أرض الواقع. هذه الاتفاقية تتألف من لوائح دبلن وقاعدة البيانات المركزية الأوروبية المسماة بـ”اليورو داك” لجمع بصمات الدخلاء في أراضي الاتحاد الأوروبي.

والقاعدة الرئيسية لهذا الاتفاق هي ضرورة معالجة طلب اللجوء في الدولة الأولى التي استقبلت اللاجئ، وضرورة إرجاعه إلى بلد الوصول الأول إن غادر حدوده إلى دولة أوروبية أخرى، الأمر الذي لاقى تحفظات بعض الدول الأعضاء نتيجة قوة تدفق المهاجرين على حدودها من جهة، وضعف إمكانياتها اللوجستيكية والاقتصادية للتعامل مع تدفق طالبي اللجوء، مما يفسر الفجوة في المواقف بين دول غرب أوروبا مقابل تحفظ دول شرق القارة على قواعد هذا الاتفاق، التي تعتبرها مجحفة في حقها.

المقترح الجديد يستند على مبدئين أساسين: أولهما تسريع إجراءات الترحيل، وثانيها تقسيم عدد اللاجئين بشكل تضامني بين دول الاتحاد الأوروبي. لكن المفاوضات ما زالت جارية لتعديل الاتفاقية قبل أجرأتها ميدانيا من طرف الدول الموقعة.

هذا التعديل يؤشر على تنامي ضغط اليمين المتطرف المتزايد، وتأثيره الواضح في رسم السياسات المستقبلية للاتحاد الأوروبي بخصوص الهجرة واللجوء، ويزكي قلق البعض من مزيد من الخنق لحقوق الإنسان في العيش في مكان آمن. فمشاهد مثل ذهاب متطرفين يمينيين لحماية الحدود قرب مخيم “كالي”، وتشبيه سياسي سويدي ينتمي إلى حزب SD اليميني ببلدية “بوتشيركا” في مجموعة “فيسبوكية” في شهر يونيو الماضي للمتظاهرين السود بـ”القرود” (جرد إثرها من مهامه الحزبية).. كلها مؤشرات توضح جدية الرغبة في جعل المهاجرين رمزا وشماعة لأزمات أخرى، وورقة انتخابية رابحة بافتعال أزمة هوياتية وحضارية كبيرة، مما ينذر بإمكانية تفاقم أزمة الهجرة واللجوء في أوروبا في المستقبل القريب خصوصا، واستمرار القلاقل والصراعات السياسية خارج حدود الاتحاد.

تمديد قانون الهجرة المنتهية صلاحيته الصيف الماضي إلى غاية 21 يوليوز من العام المقبل يعكس مدى الانقسام بين الأحزاب المشكلة للحكومة السويدية بخصوص طبيعة قانون الهجرة، الذي يتوقع أن يعرف تغيرا واضحا في اتجاه تشديد جِدي لقوانين وشروط الهجرة واللجوء بعد أن وصلت المفاوضات بين الأحزاب السياسية إلى درجة تهديد حزب البيئة بالانسحاب من الحكومة للضغط على الاشتراكيين الديمقراطيين من أجل التراجع عن اقتراحاتهم، معترضا في هذا الصدد على مسألة تحديد سقف سنوي لعدد اللاجئين، ومسألة قدرة الفرد على إعالة أسرته عند طلب لم الشمل. الشيء الذي أثار حفيظة المفوضية السامية للاجئين، على لسان رئيسها فيليبو غراندي. وحتى بعد اتفاق الحزبين الحاكمين على إحالة جميع اقتراحات لجنة الهجرة إلى البرلمان لتحويلها إلى قانون، إلا أنها حافظت على نوع من المرونة، مع حضور بعض التشديد من خلال الإشارة إلى إمكانية تحويل الإقامة المؤقتة إلى دائمة بعد ثلاث سنوات، شريطة تعلم اللغة السويدية، ومعرفة المجتمع السويدي، والقدرة على الإعالة .

hespress.com