هل فشل مغرب القادة، أم مغرب الشعوب؟

لعل اتحاد المغرب العربي، وهو أفشل اتحاد دولي معروف اليوم، أفلح في إنتاج اتحاد الشعوب المغاربية الهاربة. إنه لم يشتغل مؤسسيا لينتج هذا العجب البدعة في العالم؛ بل تحكمت العطالة فيه لتنتج بناتِها؛ ومن أشهرهن: التنمية المعاقة وسليلتها البطالة.

إذا رغبنا في قراءة موضوعية عميقة لتعطيل هذا الاتحاد -تاركين جانبا السبب المباشر المتمثل في اعتراض الجزائر، المزمن والمسلح، على مغربية الصحراء- فسيكون لزاما علينا أن نقارب موضوع الديمقراطية، نهجا للحكم، في الدول المغاربية الخمس؛ وجودا وعدما.

طبعا لم يُطرح هذا السؤال الحيوي، والقادة المغاربيون يتداولون في التأسيس، ثم وهم يعلنونه من مراكش بتاريخ:17 فبراير 1989.

لقد أسكتت السياسة التوافقية المستعجلة، والمكاسب الخاصة المؤمَّلة من طرف كل دولة على حدة، كل سؤال محرج للقادة؛ ومن هنا يمكن اعتبار إعلان التأسيس مجرد إعلان سريع عن نوايا فضفاضة، وليس استراتيجية دقيقة، وصادقة، للتنزيل الميداني المغاربي.

ربما لم يتم استثمار حتى المستندات التاريخية الحديثة لهذا الاتحاد، والتي بدأت في التبلور والتراكم، منذ مؤتمر الأحزاب المغاربية، الذي انعقد بطنجة بتاريخ: 30 أبريل 1958، بحضور جبهة التحرير الوطني الجزائرية؛ وبعد استقلال الجزائر تم تأسيس اللجنة الاستشارية للمغرب العربي سنة 1964؛ وقد أفضت إلى بيان زرالدة لقادة المغرب العربي بتاريخ: 10 يونيه 1988.

لقد كان لقوة شخصية المرحوم الحسن الثاني، ودهائه، تأثيرٌ في استحضار عناصر التوافق فقط، والتغاضي عن المعوقات؛ وقد بدأت تتكشف حالما شرع الاتحاد في إرساء آليات اشتغاله.

بالعودة الى قراءة هذا الإعلان -على ضوء ثلاثين عاما من التعطيل- نتأكد من منحاه التعويمي المتهافت، ونقتنع بأن فشله بنيوي؛ وليس لأمور طارئة عليه:

تمتين أواصر الأخوة، فتح الحدود، التنسيق الأمني والعسكري، صيانة استقلال كل دولة، تحقيق الوفاق بخصوص القضايا الدولية، اعتماد سياسة تنموية مشتركة في مختلف الميادين، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية..

وعليه فقد وُلد الاتحاد وفي أحشائه بذور فشله؛ لتباين الأنظمة في ما يخص اعتماد الديموقراطية؛ ولا أدل على هذا من تهميشها، منذ البداية، للشعوب المغاربية، استشارة، واعدادا للمساهمة في البناء المغربي المشترك؛ لأنه في النهاية مغرب للشعوب، على وجه الدوام، وليس مغربا للقادة، يزول بزوالهم.

مغرب الشعوب لم يتأسس بعد

لقد تأسس مغرب القادة، ولأنه هكذا راكم ثلاثين عاما من الفشل؛ ابتدأ حتى ومؤسسوه أحياء؛ أما مغرب الشعوب فلم يتأسس بعد؛ رغم جيناته الضاربة في التاريخ القديم والحديث؛ والفاعلة في هذه الارهاصات التي نشاهدها اليوم؛ سواء تمظهرت كحراكات سلمية في تونس والجزائر، أو انقسامات واقتتال في ليبيا؛ أو اتخذت شكل ادانات لاستشراء الفساد، وتوقا للهجرة توخيا لإصلاح الحال -ويا للمفارقة- خارج خرائط الأوطان؛ وهذا تشترك فيه الدول المغاربية كلها.

الهروب أعز ما يطلب:

هل هذا مؤشر على الإفلاس الشعبي، في مواجهة جبروت السلط في الدول المغاربية؟

هل يمكن القول بأن كل محاولات إصلاح هذه الدول من داخل المؤسسات، والتي باءت بالفشل غالبا؛ قوَّت جانب اليأس في النفوس؛ ولم يعد للعيش الكريم وجود سوى في الخارج الغربي الغني والديموقراطي؟

ألا يرى الحكام المغاربيون، في مواسم الهجرة الشبابية والكهولية صوب الشمال -ولن تزيد إلا استفحالا في السنين المقبلة- تقويضا لمفهوم الدولة وأسس التعاقد التي تقوم عليها؛ وبالتالي عبثية استمرارهم حكاما في خرائط طاردة لديموغرافيتها؛ بدون سبب موضوعي؛ عدا سوء التدبير السياسي والتنموي، واللاعدالة في مراكمة الثروات وتوزيعها؟

يجب أن تطرح هذه الأسئلة هكذا، ويفتح بخصوصها نقاش مغاربي جاد، على المستويات المدنية والرسمية، بعيدا عن التشنجات الحالية التي لا تزيد عن تعميق الأزمات.

لقد ارتقت الهجرة، مغاربيا، من ظاهرة إنسانية عادية وعالمية، عرفتها وتعرفها كل شعوب المعمور؛ إلى هجرة أزمة من أوطان مأزومة؛ إلى هناك حيث لا يوجد هذا الوطن الذي أصبح كريه الرائحة في نظر المهاجرين، ومشاريع المهاجرين.

نعم إلى هذا الحد؛ بزيادة قسم اللاعودة، وقسم التخلي عن الجنسية؛ ومقولة: افعل بي ما تشاء أيها الخارج شريطة ألا تعيدني إلى ما كنت أظنه وطني.

دبلوماسية الأكتاف العارية:

لقد تتبعت أغلب لحظات الهروب الشبابي الكبير، خصوصا سباحة صوب سبتة المحتلة، مدينة الجبال السبعة الإخوة، كما سماها الرومان قديما؛ فبدت لي الظاهرة خطيرة، وأعمق من مجرد ارتدادات للتشنج الحالي بين المملكتين.

اذا كان “بنبطوش” -المفضوح في تنكره- يستحق كل هذا النفير الشبابي فهو غال حقا.

لا يمكن لأي محلل أن يصدق هذا؛ لأن نفير الهجرة الشبابية ظل قائما في مدن الشمال المغربي -وفي أغلب المدن المغاربية- قبل مرض زعيم الانفصاليين؛ بل حتى قبل توليه زمام الانفصال.

نعم لقد عرفت الخارجية المغربية كيف تصب الماء البارد على الحكومتين السبتية والإسبانية؛ من خلال ديبلوماسية الأكتاف الشابة العارية، المهاجمة سباحة الثغر المحتل؛ واكتمل العمل الفني “الكاريكاتيري” حينما وجدت هذه الأكتاف في استقبالها مدرعات عسكرية ملتحفة الأكتاف، تروح وتغتدي في شاطئ اكتسحه “المورو” في دقائق معدودة.

هذا مجرد هزل صيفي، وربما تسخينات للقادم من الأمور؛ لكنه لم يواكَب إعلاميا -وطنيا- لتبريره، وتفسيره للعالم، الذي جذبته بقوة الدعاية الإسبانية المحترفة، حد التأثير على قادة الاتحاد الأوروبي، وإشهاره الورقة الحمراء في وجه المملكة؛ وهي لم تزد على التفسح الصيفي في شاطئها، ولو سمي بطرخال.

إن القشرة الأولى المغربية للظاهرة هي ما ذكرت، أما قشراتها المغاربية العميقة فمؤلمة جدا.

وهي في الخرائط الجزائرية -خصوصا الجنوب الصحراوي المهمش- أعمق؛ لأن الدولة بترولية وغازية، تنام وتصبح على الذهب، ولو أن هذه النعمة غدت نقمة اليوم، بفعل اضطراب الاقتصاد العالمي.

ففي الوقت الذي كانت فيه أكتاف شبابنا العارية تسبح صوب الفردوس الحلم؛ وهم لا يفهمون حتى سبب ارتفاع الحواجز الأمنية المغربية من سبلهم؛ كانت هناك جموع شبابية في نفس المهمة؛ هربا من جوع لا يفهمون له سببا، خارج سطوة الجنرالات، العسكرية، السياسية، والاقتصادية.

بل هناك جهات معارضة اتهمت هؤلاء صراحة بتشجيع الشباب الجزائري على الهجرة، للتأثير على الموارد البشرية للحراك.

ولشباب تونس وموريتانيا مواسم هجرة مشابهة، بزيادة الهجرة إلى الخلاء الصحراوي، بحثا عن الذهب، بالنسبة للثانية.

حتى لا نصبح على أوطان على وزن أوطانستان:

لو جربت الدول المغاربية فتح حدودها أمام، شبابها بالخصوص، لخلت شوارعها منهم كلية، ولأصبحت حتى المؤسسات التعليمية قاعا صفصفا؛ ما دام حتى التعليم لا ينتج غير الفشل المجتمعي.

تجربة الثمانية آلاف، في يومين أو ثلاثة، خير دليل، لا يزال ساخنا.

ينضاف هذا إلى مغاربيي الشتات في العالم؛ دون أن نغفل خيرة الكفاءات العلمية المغاربية، التي أدت الدول فواتير تعليمها، ثم تبرعت بها على الخارج الذي عرف كيف يزرعها في جسده، وفي دورته المعرفية والتنموية.

ومن المفارقات أن الجزائر -مثلا- حتى حينما فكرت في استرجاع شيء ما من خزائن مستعمر الأمس، فضلت استرجاع بعض الشهداء عظاما نخرة.
مقابل دفقات الشباب المهاجر-اليدوي والرمادي- نقيم في الأوطان مدافن، احتفاء بالتاريخ والوطنية.

لا أنكر القيمة الرمزية لهذا، لكني أستغرب أن يحصل عكسه حينما يتعلق الأمر بالإنسان الحي، المؤهل، الذي لا يجد أمامه غير الهلاك يركبه بحرا متلاطما، في اتجاه المجهول.

ان الدول المغاربية يتهددها غول الهجرة -أكثر مما يتهددها تمساح الإرهاب- وهو من صلبها، ولدته وتعهدته حتى استقوى، ومد رجليه في جميع المدن والحارات.

إذا لم تُعجم جميع عيدانها للتصدي له –مغاربيا- فستعرف انهيارات وتصدعات في بنيتيها الديموغرافية والسياسية، يصبح معهما التفكير في المستقبل أمرا عبثيا.

كل تعطيل للحرب على الهجرة؛ بهذا العذر أو ذاك -خصوصا والإمكانيات الاقتصادية متوفرة- يقربنا من هاوية الثقب الأسود.

لكن قبل هذه الحرب، وحتى أثناءها، لا بد من استكمال دول المؤسسات المحتكمة للديمقراطية الحقيقية، وليس الصورية، كما نرى اليوم.

وهذا بدوره ورش وطني ومغاربي؛ ما دام الطموح بأعناق زرافات، لا يقنع بما دون مغرب الشعوب.

وهل يمكن أن تتآلف الشعوب، وتوحد بناءها المغاربي، وهي على مسافات متباينة من الديموقراطية؟ لا أظن.

طبعا أستحضر أن معارك الشعوب المغاربية -بكل ألويتها- غير مربوحة سلفا؛ لأن ما يتهددها من مستعمر الأمس، وزعامات الليبرالية المتوحشة، أكثر مما يتربص بها من حكام، يتفاوتون في إيمانهم بالديمقراطية، وقوة شعوبهم، درعا وملاذا، يقوي ترافعهم.

ان ما سمعناه جميعا أخيرا، ولو صدر عن جهل وغضب وتهور-جراء الفقر وانسداد الآفاق- كفيل بأن ننظر اليه كجائحة أخرى أشد فتكا؛ تقتضي وقفة وطنية حازمة، والسنة سنة انتخابات.

كما تقتضي هبة مغاربية صادقة، تقتحم على الغول جميع مغاراته.

وأقول للأحزاب المغربية: رجاء أعيدوا مشاهدة أشرطة الهروب المليوني صوب سبتة؛ وتأكدوا من غيابكم الفظيع عنه، منطلقا ووجهة ووصولا.

ماذا يعني هذا إذا لم يكن “الهاراكيري” الحزبي المغربي؟

إن غبتم عنها وعن مثيلاتها، ففي أية ساحة تحضرون؟

ولا بأس أن تطلبوا حتى تأجيل الانتخابات؛ حتى تتأهلوا أكثر لقضايا الوطن المأزومة والمستعجلة.

وهي مناسبة لتعرفوا وزن الكفاءات التكنوقراطية التي يتوفر عليها مغاربة الداخل والخارج؛ والتي تكدون من أجل إخفائها أو تهجيرها.

والركون إلى تقوية الصفوف الحزبية وتطهيرها، وبث العنفوان في أوصال الدول المدنية، مطلب مغاربي أيضا.

حتى لا نصبح على أوطان على وزن أوطانستان؛ لا تعوي فيها غير الذئاب.

hespress.com