تعتبر مدينة قلعة السراغنة من أعرق حواضر جهة مراكش التي تملك مؤهلات سياحية وفلاحية وتاريخا طويلا يشهد بدورها في التمكين للسلاطين المغاربة، لأنها كانت تشكل نقطة عبور للقوافل التجارية بين ورزازات ومراكش وفاس.

هذه المكانة التاريخية يشهد عليها ما تزخر به مدينة قلعة السراغنة من أبواب وأسوار تحولت إلى أطلال، ما يفرض النبش في هذا التاريخ الذي من المفروض أن يصنع فرصا للتنمية المستدامة.

عبد الإله النمروشي، مدير دار الثقافة بمدينة قلعة السراغنة، شدد على العلاقة الجدلية بين الثقافة والتنمية، وعلى أن منطقة السراغنة-زمران تعتبر احتياطا استراتيجيا، ثقافيا، متنوعا وغنيا يجب الحفاظ عليه وتطويره في أفق استثماره كقوة دافعة لإنعاش مجالات التنمية المختلفة بالإقليم.

وفي تصريح لهسبريس، أوضح النمروشي أن أصل الاختلالات المجالية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، على الرغم من الإمكانات الهائلة التي يتوفر عليها الإقليم، “هو في العمق مشكل ثقافي، فلا تنمية ولا تطور بدون الاستناد إلى عمق ثقافي”.

 لذا، يقول المتحدث لهسبريس، “وجب تعميق التفكير حول التداخل القائم بين الثقافة والتنمية والمحيط، كنموذج مرجعي وشرط لتقدم المجتمع ورفاه الأفراد بمساهمة الثقافة في تقليص نسبة البطالة، فأحد أسباب تطور اليابان هو استثمارها لثقافتها”، مشيرا إلى مقولة الفيلسوف الألماني ماكس ويبر: “إذا تعلمنا شيئا من تاريخ التنمية الاقتصادية، فهو أن الثقافة هي المعنية”.

وبناء عليه، يورد النمروشي، “ليس هناك تطور بلا ثقافة، ولا تنمية بلا ثقافة، فالحضارات تنهض بالثقافة، كما نهضت الحضارة الإسلامية بقانون (اقرأ)، والثقافة بمعناها الشامل ترتبط بشكل وثيق بهوية وتاريخ وتراث وتقاليد وآداب أي مجتمع من المجتمعات البشرية”.

وإذا كانت التنمية مشروطة بالموروث الثقافي لشعب أو لمجال جغرافي، فما موقع ما يزخر به إقليم السراغنة من هذا الإعراب؟ ولماذا لم يتم توظيفه لتحقيق ذلك؟ وبأي معنى يمكن الحديث عن ضياع فرص التنمية بإهمال المآثر التاريخية؟

عن هذا الرأسمال الثقافي لمدينة “لكرار” (قلعة السراغنة)، أجاب عبد الله أبو زيد، مهتم بالمعالم التاريخية بإقليم السراغنة، بأن تاريخ نشأة مدينة قلعة السراغنة يرجع إلى القرن 16 ميلادي، مستشهدا بالساقية اليعقوبية التي نالت عناية الموحدين.

وقال أبو زيد، الرجل العاشق لمآثر السراغنة، في تصريح لهسبريس، إن “هذا النسيج العتيق يتكون من الزاوية والمشور والسويقة والمرس، ودرب الجامع وبرج مولاي إسماعيل وباب الناعورة، وساحات المدينة العتيقة لقلعة السراغنة، والأبواب والأسوار والساقية اليعقوبية”.

وأضاف: “فحي القلعة الراشية، الذي يتموقع داخل البقعة المتواجدة داخل تقاطعات شارع الحسن الثاني وطريق بنجرير والطريق المدارية الفاصلة بين جنان الجديد وحي الزاوية، ينتهي على حدود مدرسة بنسليمان، لكن ما يشكل الذاكرة الحضارية والثقافية الجماعية، لم يتبق منه سوى برج يتيم”.

 ذلك أن “الزحف العمراني قتل التاريخ بهذه المدينة العريقة، بنسف سورها التاريخي وأبراجه بالديناميت، لصلابتها ومتانتها، في عملية أقل ما يقال عنها إنها بليدة، يشهد عليها برج يقبع اللحظة وحيدا خلف مدرسة ابن خلدون، يشكو الإهمال من الجهات المعنية وترك لمصير مجهول، رغم أنه يعكس وعي وعبقرية أجدادنا”، وفق تعبير عبد الله أبو زيد.

وتابع المتحدث بأن “تسمية زنقة دمنات حلت مكان تسمية (الملاح) الذي هو امتداد للقلعة الراشية ويحيل على تواجد مغاربة يهود ضمن تشكيلة ساكنة المدينة في حي خاص بهم (الملاح 250 نسمة إلى حدود 1960) يعتبر مركزا تجاريا وحرفيا نشيطا، مجهزا ببعض المرافق كالمدرسة (المعروفة بسيكويلت ليهود) ومكان للعبادة وفرن… الخ”.

“وعلى حدود حي المدارس (أي حي الملاح)، نجد حي الزاوية الذي ندخله من باب الناعورة المطل على جنان الجديد”، يضيف أبوزيد، الذي أوضح أن هذا الحي استمد اسمه من الزاوية (كمكان للنسك والتعبد)، لصاحبها الحاج محمد الفردي دفين تملالت القديمة، التي لعبت أدوارا مهمة في تاريخ المدينة.

وتابع قائلا: “وعليها سمي الحي الذي نعرفه حاليا بمدرسته العلمية-القرآنية (المدرسة الرحالية)، لصاحبها ومؤسسها الفقيه العلامة سي محمد العربي بلبهلول، في ثلاثينات القرن الماضي”، مشيرا إلى أن حي الزاوية احتضن كثيرا من الأسر العريقة التي لعبت أدوارا كبيرة في حياة المدينة السياسية منها والرياضية والاقتصادية.

ويضم النسيج العتيق لعاصمة السراغنة، قبة سيدي عبد الرحمان المهيبة، كإحدى التحف المعمارية، في جماليتها وتقنية بنائها، وساحة الحسن الثاني، وهي همزة وصل بين حيين أو قبيلتين من سكان المدينة الأولين، حي لعوينة المحتضن للحافات وحي لعرارشة أولاد امبارك، بحضور قبة سيدي عبد الرحمان في الوسط (للتحكيم).

وحظيت الساحة بنوع من الوقار والتقديس الذي شكل وجها من هوية المدينة وطبع سلوك ووعي جزء مهم من ساكنتها في مرحلة من تطور تاريخها، وهذا الفضاء لا يختلف في شيء عن جل ساحات مدن المغرب التاريخية والعتيقة، فهنا “حلقة السير وملاحم البطولات بطقوسها وأخلاقياتها في الانصات والمتابعة”.

“كل هذه المعالم والمآثر التاريخية طمست، وجزء منها مطمور إلى يومنا هذا بين جدران البنايات الإسمنتية، في وقت بات واضحا أن تطور السياحة الثقافية، وتواتر عمليات إصلاح النسيج العمراني للمدن العتيقة، يدلان على حقيقة باتت واضحة، وهي تصاعد القيمة الاقتصادية للتراث”، يحكي بألم ياسين بن صالح، عضو المكتب الوطني للعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان عضو مكتبها الإقليمي بالسراغنة.

 وزاد بن صالح قائلا: “لا يخفى على أحد تصاعد القيمة الاقتصادية للتراث باعتباره ينتج مجموعة من الأنشطة المدرة للدخل وخلق العديد من مناصب الشغل”، مضيفا أن “هذا يدل على ضرورة تغيير تمثلنا لمفهوم المحافظة على التراث كمجرد تدخل تقني، إلى اعتماد مقاربة تنموية شمولية وتشاركية في تدبير التراث”.

وأورد الحقوقي ذاته أن “رأسمالنا الثقافي يعاني الإهمال وغياب العناية، والقتل مع سبق الإصرار والترصد”، مشيرا إلى أن مشروع تأهيل هذا النسيج من طرف عمالة الإقليم والجماعة والمجلس الإقليمي ومؤسسة العمران، انطلق منذ 2009 إلى 2015، وما زال مستمرا إلى اليوم 2021″، لكن همه هو “العناية بالمنازل الطينية بحي الزاوية”.

ولتحقيق ذلك، خصصت لهذا الحي الذي يضم ضريحا ومدرسة عتيقة، تسهيلات مالية وإدارية، أما الساقية اليعقوبية فتعرضت للطمر، والمصير نفسه لقيه سور المدينة القديمة وأبوابها والسواقي القديمة، والمنازل التاريخية للقواد والباشوات، ومنازل قديمة كمنزل عالم الاجتماع الفرنسي بول باسكون.

وعاب كل من عبد الله أبو زيد وياسين بن صالح على وزارة الثقافة غياب برنامج ترمي إلى حماية المآثر التاريخية من الاندثار، “ما جعلها تتعرض كلها للإهمال والتقصير”، وأكدا أن “الجهة المعنية عليها أن تكون مبدعة لإعادة الاعتبار لهذه المعالم التي تعد جزء من الآثار الوطنية”.

وللوقوف على رأي الجهة المحافظة على التراث والمآثر التاريخية، ربطت هسبريس الاتصال بعبد اللطيف مارو، المحافظ الجهوي للتراث الثقافي، الذي أكد أن الوزارة تتدخل في المعالم المرتبة أو المصنفة.

أما “بالنسبة لإقليم قلعة السراغنة، فهناك بناية واحدة مرتبة في عداد الآثار الوطنية هي منتزه الحسن الأول بسيدي رحال، وهو الآن موضوع دراسة من أجل الترميم”، يورد مارو، الذي أضاف أن “المديرية الجهوية قامت بترميم الرياض المتواجد بدار الثقافة بمدينة قلعة السراغنة”.

hespress.com