جسدٌ صغير مُدثّر بقطع من الكرتون على الرصيف لا يظهر منه إلا نصف الوجه. عند القدميْن فِرْدة حذاء واحدة فقط، وعندما تقلّب صاحب الجسد النحيف في نومه بعدما أيقظه هدير محرّك سيارة مركونة بالقرب منه وانزاحت قطع الكرتون عن أطرافه السفلى، ظهر سببُ اختفاء فرْدة الحذاء الثانية: القدَم التي من المفروض أن تحملها غير موجودة. لم يتبقَّ من الرِّجل اليمنى سوى ربُعها أو أقلّ، أما الأرباع الثلاثة الأخرى فقد بُترت عند منتصف الفخذ، وعوَّضها عكازان يحملان الجسد المعاق خلال رحْلة التسكع والضياع آناء الليل وأطراف النهار في حارات ودروب المدينة.

هذا المشهد الفظيع الذي كان أحدُ أرصفة المدينة القديمة بطنجة مسرحا له، في أحد صباحات شهر أكتوبر الماضي، لا يعكس سوى جزء من مأساة “أطفال الشوارع” بالمغرب، أو “الأطفال في وضعية الشارع”، كما تسمّيهم السلطات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني، تخفيفا من قسوة الوصف الأول ليس إلا، دون أن يغيّر تهذيب الألفاظ من واقعهم شيئا، ننقل بعضا من تفاصيله في هذا الاستطلاع الذي رافقنا خلاله عدد من الأطفال المنتسبين إلى هذه الفئة المجتمعية الهشة طيلة أحد عشر شهرا، على مراحل متفرقة، وفي مدن مختلفة، ابتداء من شهر يناير وإلى غاية شهر نونبر من السنة الجارية، رصدنا خلالها معاناتهم عن قرب، من زوايا مختلفة، لكنّ المأساة واحدة وإن تعددت الزوايا.

مفارقات صارخة

برْد ليالي شهر يناير في مدينة مراكش يلسع، يلفح الوجوه بلا رحمة، ولا تردُّ قسوتَه الملابس مهما كان سُمكها. وفي خضم هذا الجو القاسي كانت يدُ طفل صغير من الأطفال في وضعية الشارع ممْدودة في الهواء تستجدي عطْف رجال ونساء من الطبقة البورجوازية، غادروا للتوّ ملهى ليليا في الحي الشتوي الراقي وسط المدينة عند الساعة الثانية صباحا.

مشهد ضاجٌّ بمفارقات صاخبة وبألم ينوء به كاهل الكائن الإنساني الصغير الذي ينتقل بين الأجساد المدثّرة بأزياء فاخرة تفوح منها روائح عطور تغمر المكان، أملا في نيل دراهم تُعينه على مجابهة ظروف حياته الحافلة بالقسوة، غير أن الكفّ الرخوة الممدودة في الهواء لم تظْفر بأي درهم، فانتكست مثلما ينتكس علَمٌ في لحظة حداد، وانصرف الطفل الصغير بعد أن لفظ الملهى آخرَ زبائنه، هائما على وجهه يجرّ ذيول الخيبة ويتجرع مرارة الحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية منذ صباه.

في ساحة جامع الفنا، القلب النابض وفضاء البهجة بمراكش، كان طفل آخر يجرُّ كيسا بلاستيكيا أسودَ كبيرا، منطلقا من وسط الساحة الشهيرة بعدما فرغت من روادها، نحو المكان الذي ألِف أن يرقد فيه. مكان قذِر تكسو أرضية أركانه أخاديد البول وتعمّه رائحة لا يستحملها الإنسان، لكنّ الطفل توقّف هنا، وجثا على ركبتيه ثم فتح الكيس البلاستيكي فسحب منه فُرشا رثّا، بسَطه على الأرض ثم استلقى عليه محتفظا بحذائه الممزّق في رجليْه وطوى مرفقه جاعلا من قبْضة يده “مخدّة” وضعها تحت خدّه وتدثّر بالكيس البلاستيكي فنام.

حيثما ولّيت وجهك تتراءى لك مثل هذه المشاهد في محيط ساحة جامع الفنا، وفي أماكن مختلفة من مدينة مراكش.. أطفال صغار ضاعوا وهم في مقتبل أعمارهم، لا ذنب لهم سوى أنهم جاؤوا إلى الوجود ولم يجدوا شيئا من أبسط حقوقهم الإنسانية المكفولة لهم بمقتضى دستور البلاد والاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي صادق عليها المغرب منذ عقود، فلجؤوا إلى الشارع مُكرهين، لا يبْغون شيئا آخر غير لقمة تُبقيهم على قيْد الحياة، ودراهم يبدّدونها في شراء غراء “السِّيليسيون” أو ماء “الدُّوليو”، وهما مادتان كيماويتان مخدِّرتان خطِرتان، يستنشقونهما هروبا من آلام وأوجاع حياتهم التعيسة رغم الدمار الذي تُلحقانه بأجسادهم وعقولهم وهي في طور النمو.

“أريد فقط أن آكل ولا أريد شيئا آخر”، تقول طفلة صغيرة يقلّ عمرها عن عشر سنوات كانت بمعيّة طفل أصغر منها سنا يتوسلان الصدقات أمام محل لبيع الفواكه الجافة في زقاق متفرّع عن الشارع المؤدي إلى صومعة الكتبيّة. بَدا مشهد الطفلين مثل مفارقة محيّرة، بين عالَم يفيض بالبهجة والسعادة التي ينثرها حكواتيو وموسيقيّو ومنشّطو ساحة جامع الفنا الشهيرة، إرضاء لأذواق آلاف السياح الذين يتوافدون على الساحة كل مساء للاستمتاع بأجوائها الاحتفالية البهيجة، وبين عالم الأطفال في وضعية الشارع، الذي يضج بالقسوة والآلام والمآسي.

في حي “كِليز”، تتجلّى مأساة الأطفال في وضعية الشارع بمراكش في صورة أكثر وضوحا وبشاعة أيضا. يحفلُ هذا الحي الراقي بمفارقات وتناقضات صارخة ترسمها مشاهد الأطفال الذين زُجّ بهم في الشارع وهم يتوسّلون المال أو الطعام من زبائن المطاعم والمقاهي الفخمة، أو حين يسيرون على الأرصفة اللامعة أمام متاجر أفخر ماركات الأزياء والعطور والإكسسوارات، وهم حُفاة الأقدام أو بأحذية ممزقة وأسمال متسخة تغطي أجسادهم التي تآلفت مع الأوساخ ولم تنعم حتى بحقها في النظافة.

يشير تقرير لمنظمة الصحة العالمية صدر في أكتوبر 2011 إلى أنّ انعدام المياه النظيفة والمأمونة، وانعدام مرافق الإصحاح الأساسية المأمونة، وقلة النظافة الشخصية، سبب 90% تقريبا من إجمالي الوفيات التي تنجم عن الإسهال، وبصورة أساسية بين الأطفال. لكنّ النظافة بالنسبة للأطفال في وضعية الشارع، ورغم أهميتها القصوى، مازالت مجرد تَرفٍ، وحقٍّ بعيد المنال، ونحن على مشارف نهاية سنة 2020. أمام مطعم للأكلات السريعة في حي “كِليز”، ينقضّ ثلاثة أطفال بشكل خاطف على ما تبقى من “همبورغر” جادَ به عليهم أحد الزبائن، ففتّتوه والتهم كل واحد منهم ما حصل عليه بيدين مطليَّتيْن بالأوساخ.

في مكان غير بعيد، كان طفل آخر من الأطفال في وضعية الشارع يتنقل بحذر بمحاذاة طاولات مقهى في فضاء مفتوح، يتوسّل ما يهدّئ به جوع معدته بكلمات خافتة يحاول أن يجعلها مؤثرة أكثر بوضع أطراف أصابع يده على فمه استدرارا لعطف الزبائن، قبل أن ينتبه إلى قدوم نادل نحوه فانسحب هاربا، وتوجّه حاملا خيبته صوب محل لبيع آلات تحضير القهوة، وظل واقفا جنب الباب ينتظر خروج أسْرة، وعندما انفتح الباب مدّ يده لكنّه لم ينلْ شيئا.

وبعد الخيبتيْن المتتاليّتين سار الصبي الصغير على الرصيف يجرّ رجليْه ككائن دخيل وسط أشخاص يبدو غريبا عنهم، لا يشبههم ولا يشبهونه، وانعطف صوب زقاق تُضيئه مصابيح نور خافتة يُفضي إلى ملهى ليلي؛ وعبثا حاول، كحالِم متمسّك بحلم مستحيل، إقناع الحارس أن يأذن له بالدخول، وما هي إلا ثوان حتى تجرّع مرارة خيبة جديدة، بعد أن نهره الحارس بفظاظة، فتقهقر الصبي وتوجّه نحو شباك حديقة الملهى يحاول أن يسترق نظرات عمّا يجري في الداخل. ثم انسحب منكسرا وعاد عند رفاقه في الشارع الرئيسي.

طفولة موْؤودة

تعكس الوضعيات المختلفة للأطفال في وضعية الشارع بجلاءٍ الحرمان الذي يطالهم على مستوى مختلف حقوقهم الإنسانية. في شارع “سان لويس” بمدينة فاس، جلس خمسة أطفال قُبالة مدرسة خاصة راقية، مشكّلين منظرا يرْشح بالفوارق الاجتماعية الصارخة بين عالميْن متنافريْن؛ عالم يتمتع فيه أطفال “محظوظون” بحقهم في التعليم، وعالم مختلف تماما أطفاله محرومون من أبسط حقوقهم الأساسية، وفي مقدمتها الحق في التمدرس، رغم أنّ دستور البلاد ينص بصريح العبارة على هذا الحق ويكفُله لجميع الأطفال المغاربة، وفق مبدأ المساواة والمناصفة، وبدون أي تمييز بين طفل وآخر.

يتضمّن دستور المملكة مقتضيات صريحة تكرّس حق الأطفال في التعليم، كما هو موضّح في الفصل 32 من الوثيقة الدستورية، الذي يقول: “تسعى الدولة إلى توفير الحماية القانونية، والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال، بكيفية متساوية، بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية”. كما يؤكّد هذا الفصل الدستوري أنّ “التعليم الأساسي حق للطفل وواجب على الأسرة والدولة”، لكن الأطفال في وضعية الشارع مازالوا محرومين من هذا الحق الأساسي بعد مضيّ أكثر من تسع سنوات على إقراره.

يشمل التعليم الأساسي الذي أكّد دستور 2011 أنه “حق للطفل” ثلاث مراحل، وهي التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي؛ غير أنّ كثيرا من الأطفال الذين زَجّت بهم الظروف الاجتماعية القاهرة إلى الشارع لم يتمتّعوا حتى بحقهم في التعليم خلال المرحلة الابتدائية. سألتُ أحمد، أحد الأطفال في وضعية الشارع الذين التقيْتهم في مدينة فاس، ويبلغ من العمر اثني عشر عاما، هل يدرس، فأجاب بأنه غادر المدرسة في السنة الثالثة ابتدائي، ثم التفت إلى صديقه وقال: “هذا خرج من المدرسة في المستوى الثاني”، ولما سألتُهما عن سبب مغادرتهما المدرسة، أجاب أحمد: “كْنّا كنشمُّو بزاف”، (يقصد أنهما كانا مدمنيْن على استنشاق مادة “السيليسيون” أو “الدوليو” بشكل مفرط) فطُردا من المدرسة وغادرا لاحقا بيتي أسرتيهما إلى الشارع.

كان أحمد وصديقه جالسيْن عند عتبة باب بيت قرب محطةٍ لوقوف الحافلات في حي السعادة الشعبي بفاس، وكانا شارديْن؛ يحمل كل واحد منهما جوْربا في يده يضعان فيهما مادّة “الدوليو” ويستنشقانها استنشاقا عميقا بلا توقف. عندما تَأتي إحدى الحافلات ينطّ أحمد من مكانه بجسده الضئيل ويتّجه صوبها يتوسّل السائق أن يسمح له بالصعود للذهاب إلى وسط المدينة، لكنّ طلبه يُقابَل بالصدّ فيتقهقر جارّا قدميْه إلى مكانه عند صديقه، ويغرقان في استنشاق المادّة المخدِّرة.. عندما سألتُهما أين يقتنيان مادة “الدوليو” أجاب صديق أحمد: “يبيعها لنا شاب في حي بنسودة”.

يحصل الأطفال في وضعية الشارع على مادتي “السيليسيون” و”الدوليو” بمُنتهى السهولة. في مدينة طنجة، تابعت ثلاثة أطفال بعد أن لاحظت أن اثنين منهما كانا يفتّشان داخل حاوية للنفايات واستخرجا منها قنينتي بلاستيك فارغتين وأخفياهما تحت حزام سرواليْهما، وبعد رحلة طويلة امتدتْ من شارع “باستور” إلى “سوق برا” في المدينة القديمة، توقّف الأطفال الثلاثة عند عربة بائع سجائر بالتقسيط، وكانت الساعة تدنو من منتصف الليل، وبعد أن تبادلوا معه بضع كلمات سحبهما نحو منعطف الزقاق فملأ لهم القنينتين بمادة “الدوليو”، ثم انصرفوا، وعلى الفور بللوا الخِرَق وشرعوا في استنشاقها.

وتشكل مادة “الدوليو” وغراء “السيليسيون” اللذين يُدمنهما “الأطفال في وضعية الشارع” خطرا كبيرا على متعاطيهما، إذ يتسبب غراء “السيليسيون”، وهي مادة تتكون من مواد كيماوية سامة، حسب “موسوعة الإدمان”، في آثار وخيمة على صحّة الإنسان، ذلك أنه يؤدي إلى التدمير الكامل لخلايا الرئتين والجهاز التنفسي بالجسم، نتيجة استبدال الأوكسجين ببعض الغازات السامة التي تؤدي إلى تدمير هذا الجهاز، كما تؤدي إلى التدمير الكامل لخلايا المخ، والجهاز العصبي المركزي في الجسم، وقصور ومشْكلات في القلب، ومن أبرزها تهتّك عضلة القلب، وحدوث اضطرابات في المعدة، وقد يؤدي الإدمان على استنشاقها لفترات طويلة إلى نوبات من الصرع، والإصابة بنوبات من مرض الذهان.

لا يلجأ “الأطفال في وضعية الشارع” إلى استنشاق “السيليسيون” و”الدوليو” من أجل نسيان آلام واقعهم المعيش فحسب، بل يَندفعون إلى إدمان هذا النوع من المخدرات “لكي ينزعوا عنهم طابع الحياء الطفولي، ليستطيعوا مواجهة عوالم الشارع المتوحشة”، تشرح نسرين لوزي، رئيسة جمعية “كُـلّْنا مْعاك” لإدماج الأشخاص في وضعية صعبة، وتوضح، في حديث لهسبريس، أنّ الطفل حين يشمّ غراء “السيليسيون” تتقطع أحشاؤه بالجوع، فتدفعه الرغبة الشديدة في الأكل إلى التسوّل بلا حرج، بعد أن يكون قد نزع عنه ستار الخجل من هذا السلوك، ومن ثمّ يُدمن على تعاطي تلك المواد المخدّرة.

ولاحقا ينغمس الطفل في سلوكيات أكثر خطورة عندما ينغمس أكثر في الإدمان، إذ يضطر إلى السرقة إما من أجل تأمين ما يشتري به المواد المخدرة التي يستنشقها، أو اقتناء ما يأكل؛ ذلك أنّ هؤلاء الأطفال يفقدون تعاطف الناس، ويحجمُون عن تقديم مساعدات مالية لهم، بداعي أنهم سيبذرونها فقط في شراء المواد المخدرة، ما يجعلهم يبحثون عن المال بأي طريقة، بما في ذلك السرقة، وحتى الإجرام، كما وضحت نسرين لوزي، انطلاقا من خبرتها الطويلة في التعامل مع الأشخاص في وضعية الشارع، سواء الأطفال أو الكبار.

أطفال مسلحون ومُدخّنون

يضجُّ عالم الأطفال في وضعية الشارع بشتى أنواع العنف، اللفظي والجسدي وحتى الجنسي، ويعيشون في بيئة تحفّزهم على الانخراط بدورهم في أعمال العنف، خاصة خلال الليل، حيث يعاشرون أشخاصا مدمنين، ونساء يمتهنّ الدعارة، والسكارى والمنحرفين. في مدينة طنجة، كان مجموعة من الأطفال من هذه الفئة يحومون حول حانة جوار “سور المعكازين” في إحدى ليالي شهر أكتوبر الماضي؛ كلما لفظت الحانة زبونا يسارعون نحوه أملا في نيْل مساعدة مالية، وبين فينة وأخرى كانوا يدخلون في مناوشات مع فتاة تستقبل الزبائن عند باب مقهى لتدخين “الشيشة”، تطردهم فيشاكسونها.

خرج شخصان أجنبيان من الحانة فقصدهما اثنان من الأطفال الصغار المتربّصين برواد الحانة، وجلسا إلى جانبهما على حافة “سور المعكازين”، وكان أحدهما يحاول أن يبني بينه وبين الرجليْن جسْر تواصل عبر استعمال بضع كلمات باللغة الإسبانية، وما فتئ أن حاول مدَّ أصابع يده إلى جيب سروال الرجل الجالس بجانبه، لكنَّ محاولة تسلّل أطراف أصابعه إلى الجيب باءت بالفشل، فقام الرجل من مكانه رفقة صديقه متوجهين نحو سيارتهما، وظل الطفلان يلاحقانهما دون أن ينجحا في نيْل مرادهما.

مهمّة مرافقة الأطفال في وضعية الشارع خلال الليل محفوفة بالمخاطر.. في مرة ثانية، وكانت الساعة تدنو من الواحدة صباحا، تبعتُ أربعة منهم كانوا يلاحقون رجلا بدا في حالة سُكْر بعد خروجه من الحانة، مُلحّين عليه لمساعدتهم ماليا، لكنّ الرجل كان يصدّهم، وهم من جهتهم يصرّون على نيل مبتغاهم، إلى أن وصلوا إلى مكان خال من المارة أسفل الهضبة التي يُطلّ عليها “سور المعكازين”، حيث توقف الرجل أمام سيارته، وحين همّ بفتح الباب، احتكّ معه أحد الأطفال الثلاثة، فدفعه الرجل بعنف، وانطلقت معركة شرسة بين الطرفين استُعملت فيها الأسلحة البيضاء.

بسرعة خاطفة سحب طفلان سكينين صغيرتين وشرعا يلوّحان بهما في وجه الرجل الذي تحوّل إلى غريم لهم، بينما توزع اهتمام هذا الأخير بين الدفاع عن نفسه وبين محاولة فتح باب سيارته، واستمر الكرُّ والفر بين الطرفين وتعالت عبارات السباب والكلام النابي المنطلقة من أفواه الصغار، إلى أن تناهى صراخهم إلى أسماع امرأتين تمتهنان الدعارة كانتا جالستين تحت شجرة في حديقة مجاورة، فسارعتا نحوهم وتمكنتا من إبعادهم وفسحتا الطريق أمام الرجل للفرار على متن سيارته.

لم تكن هذه المعركةَ الوحيدة التي عاينتُها خلال تلك الليلة (12 أكتوبر الماضي)، وكان “الأطفال في وضعية الشارع” طرفا فيها؛ فبعد أقل من نصف ساعة اندلع شجار عنيف أمام الحانة نفسها بين شاب غادرها للتو وامرأة متسوّلة. كان الشاب الغاضب يتلفظ بكلام نابٍ ثم توجه نحو صندوق سيارته وسحب منه عصا وشرع يتوعّد بها السيدة المتسولة، قبل أن يحكم شباب من المتجمهرين السيطرة عليه وأدخلوه إلى سيارته وأقنعوه بالمغادرة، ومن بعيد ظهر أحد أطفال الشوارع يجري حاملا في يده قارورة خمر فارغة جاء للدفاع عن السيدة التي تشاركه عوالم ليل طنجة المتوحشة، لكنه لم يجد غريمه فكسر القارورة على الرصيف.

يقول عمر أربيب، رئيس فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بمراكش، إنّ الأطفال في وضعية الشارع يكونون مسالمين في بداية مرحلة التشرد، ومع مرور الوقت ينزَع بعضهم إلى العنف، “لأنّ الشارع يجرّد الإنسان من إنسانيته ويجعله عنيفا رغما عنه”، موضحا أن هؤلاء الأطفال يحرصون على العيش في مجموعات كنوع من التضامن في ما بينهم لحماية أنفسهم من الاعتداءات.

ويؤكّد عمر أربيب، في تصريح لهسبريس، أن الأطفال في وضعية الشارع يتعرّضون لمختلف أنواع الاعتداءات بما فيها الاعتداءات الجنسية، قائلا: “تتعرض الطفلات للاستغلال الجنسي، وقد عُرضتْ علينا حالاتُ طفلات حملْن جراء هذا الاستغلال وهنّ في وضع كارثي”.

ولا يسْلم الأطفال الذكور بدورهم من الاعتداءات الجنسية، سواء من طرف أقرانهم الذين يكبرونهم سنّا، أو من طرف الغرباء. ويرى عمر أربيب أنّ الاغتصاب الذي يتعرض له الأطفال في وضعية الشارع ما هو إلا تحصيل حاصل، “لأنّ الطفل عندما يُغتَصب يعيد نفس الممارسة على غيره من أقرانه كنوع من الانتقام لنفسه”، بينما قالت نسرين لوزي: “إن سبعين في المائة من الأطفال في وضعية الشارع يُغتصبون”، قبل أن تسْرد تفاصيل واقعة من هذا القبيل كان ضحيتها طفل صغير تعرض للاغتصاب على يد ثمانية شبان في مقبرة بمدينة الدار البيضاء.

لا توجد إحصائيات رسمية حول حالات اغتصاب الأطفال في وضعية الشارع بالمغرب، لأن الانتهاكات الجنسية التي يتعرضون لها لا تصل إلى الشرطة أو المحاكم؛ غير أن الإحصائيات المتعلقة باغتصاب الأطفال بشكل عام في المغرب تشير إلى وجود هذه الجريمة، وهو ما يتبين من خلال تقرير رئاسة النيابة العامة لسنة 2019، الذي أشار إلى أن عدد قضايا اغتصاب الأطفال المعروضة على المحاكم بلغ 226 قضية، بينما بلغ عدد قضايا هتك عرض قاصر بالعنف 1378 قضية؛ فيما بلغ عدد قضايا هتك العرض بدون عنف 310 قضايا. وتقول نسرين لوزي: “إذا كان الأطفال المَحميون من طرف أسرهم يُغتصبون فإنّ أجساد الأطفال في وضعية الشارع مستباحة”.

وعلاوة على خطر الاغتصاب الذي يهددهم، وجنوحهم إلى العنف، يتعلّم الأطفال في وضعية الشارع كل أنواع الانحراف منذ صغرهم، مثل السرقة والتدخين؛ وكان لافتا، خلال متابعتي لهم، أنهم لا يجدون حرجا في التقاط أعقاب السجائر وتدخينها، رغم صغر أعمارهم، ومنهم مَن يشتريها من عند بائعي السجائر بالتقسيط، في غياب تام لأي جهة مسؤولة عن حمايتهم.

مَعيشة من القمامة

تُعدّ مدينة طنجة من أكثر المدن التي ينتشر فيها الأطفال في وضعية الشارع بالمغرب، إذ يقصدونها في الغالب من أجل الهجرة السرية إلى أوروبا عبر التسلل إلى شاحنات نقل البضائع أو حافلات نقل المسافرين، والاختباء بين هياكلها قبل دخول الميناء؛ ينجح بعضهم في العبور نحو الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط في حالات نادرة جدا، لكن أغلب محاولاتهم تبوء بالفشل، أو تنتهي إلى الموت، ومع ذلك يستمرون في مطاردة حُلمهم الكبير أملا في عبور البحر والالتحاق بـ”الفردوس الأوروبي”.

ومقارنة مع الأطفال الذين التقيت بهم في مدن أخرى، يبدو الأطفال في وضعية الشارع بطنجة في حالة متقدمة جدا من الإدمان. أطفال في عمر الزهور تتبدّد سنوات أعمارهم في خضمّ التشرد والضياع، وتُدمَّر صحتهم بمادتي “السيليسيون” و”الدوليو”.. لا تفارق الجوارب والخِرَق المبللة بالمادّتين المخدرتين أنوفهم منذ استيقاظهم إلى أن يناموا، وعند العصر يجتمعون في ساحة “صلاح الدين الأيوبي” قرب سوق السمك المركزي حيث ينخرطون في طقس “الشمّ الجماعي”.

في هذه الساحة يجتمع عشرات الأطفال، ذكورا وإناثا، ومعهم أشخاص كبار في وضعية الشارع، في شكل حلقيات وينغمسون في أحاديثهم الخاصة، وسط جوّ يفوح برائحة مدوِّخة جراء المادتيْن المخدّرتيْن اللتين يستنشقونهما.. يمازحون بعضهم البعض، وأحيانا يتشجارون، وعندما يشعر أحدهم بالجوع يقصد حاوية للأزبال بالقرب من الساحة، ويبحث فيها عمّا يُسكت به عواء أمعائه، أو يتسوّل المارّة.

حالة التخدير التامّ التي يوجد عليها الأطفال في وضعية الشارع بطنجة تعكسها جملة من المشاهد التي رصدْتها خلال تتبعي لهم، من بينها مشهد ثلاثة منهم جلسوا على كرسي وسط حديقة حوالي الساعة الثانية والنصف ليلا، ووضعوا أمامهم رأس دمية، وشرعوا ينظرون إليه في صمت كأنهم في مَعبد؛ حاولتُ أن أستدرجهم للحديث لكنهم كانوا شبه غائبين عن الوعي، ولم يبالوا بوجودي؛ وحين غادر اثنان منهم إلى المكان الذي ينامون فيه، أخذ الطفل المتبقي الرأس بين يديه وشرع يلاعبه ويتحدث إليه بصوت هامس، ثم قام من مكانه واحتضنه بين ذراعيه كأنه يحضُن إنسانا حقيقيا.

في الصباح، استيقظ الطفل صاحب الرِّجْل المبتورة أعلى الفخذ بعد أن وكزه رفيق له بمقدّمة قدمه في ظهره، فقام واتكّأ على عكازيْه تاركا قطع الكرتون التي نام عليها في مكانها، وسار محمولا على رجْله الوحيدة وقائميْ عكازيه في اتجاه “سوق برا”. هناك، كان طفل آخر يغطّ في نومه أمام محل تجاري وبالقرب منه كومة من الأزبال، والناس يمرون بمحاذاة قدميْه دون أن يولوا له أي اعتبار، كأنه ليس سوى “شيء” من الأشياء المؤثثة للفضاء العام وليس كائنا آدميا، ثم جاء عامل النظافة وطاف بمكنسته على الصبي النائم دون اكتراث، ثم عبّأ الأزبال في صندوق القمامة وانصرف.

التعامل مع الأطفال في وضعية الشارع كـ”أشياء” وليس ككائنات إنسانية يجسّده تعاطي السلطات معهم عندما يحلّ وفد رسمي مهم بمدينة طنجة، إذ يتم إخفاء هؤلاء الأطفال عبر ترحيلهم إلى مدينة العرائش أو مدينة القصر الكبير. “يتم نقلهم ليلا عبر حافلة ويُرمون في الطريق عند مدخل مدينة العرائش، ويهتدون بالأضواء سيرا على أقدامهم حتى يصلوا إلى مركز المدينة”، تقول فاتن بلحاج، رئيسة جمعية “سفينة الخير” بالعرائش، وهي من الجمعيات المهتمة بالأطفال في وضعية الشارع.

يوجد في مدينة طنجة مركز للإدماج الاجتماعي يستقبل الأطفال في وضعية الشارع. قصدتُ المركز الموجود في “حي الزياتن” أملا في الحصول على أجوبة لعدد من الأسئلة المتعلقة بوضعية هؤلاء الأطفال، لكن المسؤولة التي تحدثتْ إلي قالت إنها بحاجة إلى موافقة رئيس المركز لتجيب عن أسئلتي، وطلبت مني أن أترك لها رقم هاتفي لتتصل بي لاحقا. أمددتها ببطاقة الزيارة، وأحطتها علما بالأسئلة التي سأطرحها عليها، لكنّها لم تعاود الاتصال أبدا.

ينظر الأطفال في وضعية الشارع بكثير من الريبة وعدم الارتياح إلى مراكز الرعاية الاجتماعية، إما بسبب عدم تمتيعهم بالعناية التي هم في أمس الحاجة إليها داخل هذه المؤسسات، أو بسبب معاملتهم بشكل سيء. مُعاذ وعمر طفْلان مرّا من تجربة الإيواء في مركز تسيّره إحدى الجمعيات في مدينة أكادير، لكنهما لم يمكثا فيه سوى فترة قصيرة جدا وعادا إلى الشارع.

تعكس قصة معاذ وعمر ضعف الحماية التي يتمتع بها الأطفال في المغرب، وهو من أحد العوامل الرئيسية لظاهرة الأطفال في وضعية الشارع، فقد عاشا في بيتين في حي جوادي الشعبي بمدينة الدار البيضاء، كانا يتعرضان فيهما للضرب وشتى أنواع المعاملة السيئة؛ الأول كانت تضربه أمه بعدما توفي والده، والثاني كان يضربه أخوه وأبوه، وفي نهاية سنة 2019 قررا الهرب، وسافرا لوحدهما على متن حافلة إلى أكادير، التي تبعد عن الدار البيضاء بحوالي خمسمائة كيلومتر، دون أن يسألهما صاحب الحافلة أو أي شخص آخر من مسؤولي محطة الحافلات عن سبب سفرهما لوحدهما، حسب إفادتهما.

يقول معاذ، الذي التقيته بمعيّة صديقه وفتاة أخرى هربت بدورها من مراكش، قرب مطعم في شارع الحسن الثاني بأكادير: “عندما كان أبي حيا لم تكن أمي تضربني، ولكن بعد موته كانت تكبّلني من يديّ ورجليّ وتضربني بقسوة”، يصمت ويسرد عمر قصة مماثلة: “أنا كان يضربني أبي وأخي. أبي كان عصبيا جدا”. ويواصل الطفل ذو الثلاثة عشر ربيعا سرد حكاية هروبه رفقة صديقه قائلا: “غافلتُ أبي وسرقت مائتي درهم من محفظة نقوده ثم ذهبنا إلى محطة الحافلات وجئنا إلى هنا”.

بعد وصُول الطفلين إلى مدينة أكادير، نقلتْهما سيدة إلى مركز للإيواء، لكنهما سرعان ما هربا منه. ويشرح معاذ سبب هروبهما قائلا: “الأكل الذي نأكله في الشارع أفضل مما كنا نأكله هناك، ولم نكن نخرج أو نلعب، وكان معنا شبان كبار نخاف أن يعتدوا علينا أو أن يفعلوا لنا شيئا في الليل (يقصد خوفهما من تعرضهما لاعتداء جنسي)”.

تؤكد نسرين لوزي ما صرّح به معاذ وعمر، بقولها: “الوضعية السيئة لكثير من مراكز الإيواء تدفع بالأطفال إلى الهروب منها”، مضيفة: “هذه المراكز أسوأ من السجن بالنسبة للأطفال في وضعية الشارع، وتُمارَس داخلها سلوكيات شاذة، فَحين يصل الطفل إلى سنّ معينة، وتبدأ لديه الرغبة الجنسية، يمارس الجنس على أقرانه الأصغر منه سنا، وهناك بعض المراكز يُجمَع فيها الأطفال الصغار مع أشخاص كبار وحتى مع المختلين عقليا”.

ويشير تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف)، صدر سنة 2016، إلى أنّ مؤسسات الرعاية الخاصة بالأطفال في المغرب “تعاني عموما من نقص في التمويل ولا تفي بالمعايير الدولية”.

في المقابل تقدّم الحكومة تفسيرا مختلفا لسبب عدم رغبة الأطفال في وضعية الشارع بالبقاء في مراكز الإيواء، وتُرجعه إلى كون الشارع “أكثر جاذبية لهؤلاء الأطفال، لأنهم يشعرون فيه بحرية أكبر، كما أنّ الذين قضّوا وقتا طويلا في الشارع يصيرون مدمنين، وعندما يتم إيواؤهم يصعب عليهم الاندماج في مكان الإيواء”، حسب إفادة عبد الرزاق العدناني، مدير قسم الطفولة بوزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة، لكنه أوضح، في حديث لهسبريس، أن نسبة الأطفال الذين يهربون من مراكز الإيواء قليلة.

في 11 فبراير 2019، وجّه رئيس النيابة العامة محمد عبد النباوي دورية إلى الوكلاء العامين ووكلاء الملك وقضاة النيابة العامة، بمناسبة إعطاء الانطلاقة للحملة الإفريقية “من أجل مدن بدون أطفال في وضعية الشارع”، بمدينة مراكش يوم 24 نونبر 2018، أهاب بهم فيها الاهتمام بقضايا “أطفال الشوارع”، و”تفعيل المقتضيات التي يتيحها القانون (…) من أجل القضاء على هذه الظاهرة، وتوفير ملاذات آمنة لهؤلاء الأطفال”.

ويسود تضارب كبير بين الأرقام التي تقدمها الحكومة ونظيرتها التي تقدمها جمعيات المجتمع المدني حول العدد الحقيقي للأطفال في وضعية الشارع بالمغرب؛ فبينما تقدّر بعض المنظمات، وفقا لإحصائيات غير رسمية، عددهم بنحو ثلاثين ألف طفل، فإنّ المؤسسات الرسمية تقول إن عددهم لا يتعدى بضع مئات، حيث حدد الإحصاء العام للسكان والسكنى، الذي أجرته المندوبية السامية للتخطيط سنة 2014، عدد الأطفال بدون مأوى في 660 طفلا، 30.2 في المائة منهم إناث (199 طفلة)، وثلثاهم (73.6 في المائة) يقطنون بالمدن.

ويرى عبد الرزاق العدناني، في حديثه لهسبريس، أنّ هذا الرقم “هو الأقرب إلى الواقع”، مستدلّا بكون عدد الأطفال في وضعية الشارع الذين جرى التكفّل بهم خلال فترة الحجر الصحي بعد انتشار جائحة فيروس كورونا كان في حدود 986 طفلا، مشيرا إلى أنّ هناك “خلطا بين الأطفال في وضعية الشارع الذين لا مأوى لهم، وبين الأطفال في وضعية صعبة، الذين يقضون أوقاتا في الشارع ويبيتون في بيوت أسرهم، غير أنّ عمر أربيب، رئيس فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بمراكش، يرى أنّ عدد الأطفال في وضعية الشارع “أكبر بكثير من أرقام الإحصائيات الرسمية”.

بدورها استغربت أسماء قبة، رئيسة الجمعية المغربية لمناهضة العنف والتشرد بفاس، حصْر المؤسسات الرسمية لعدد الأطفال في وضعية الشارع في بضع مئات، قائلة: “الأرقام التي تقدمها الحكومة فيها مغالطات كبيرة. نحن الذين نشتغل في الميدان نعرف أن عدد هؤلاء الأطفال أكبر بكثير، لأننا نحسبهم بعدد الملابس والأغطية التي نوزعها عليهم، وأتحدى الحكومة أن تنزل إلى الشارع وتحصي هؤلاء الأطفال، وستجد أن الأرقام التي تقدمها لا تمتّ إلى الواقع بصلة”.

ويرى عبد الإله الخضري، رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان، أن “أكثر الأرقام موضوعية هي التي تتحدث عن ثلاثين ألف طفل شارع، أما الإحصائيات الرسمية فهي في تقديري غير حقيقية، والغاية منها هو محاولة التعتيم على الواقع المزري للطفولة ببلدنا”، مُرجعا سبب تنامي ظاهرة الأطفال في وضعية الشارع إلى ارتفع عدد الأطفال المولودين بدون هوية الأب، والأطفال المتخلى عنهم نتيجة التفكك الأسري بسبب ارتفاع نسبة الطلاق، والتنامي المتزايد للمشاكل الاجتماعية.

خطر كورونا

في أواسط شهر مارس الماضي، وبعد انتشار جائحة فيروس كورونا في المغرب، تفاقمت الوضعية المتردية للأطفال في وضعية الشارع وازدادت سوءا، إذ وجدوا أنفسهم وحيدين في الشارع، محرومين من المساعدات التي كانوا يحصلون عليها من التسول، وحُرموا كذلك من الأكل، بعد تطبيق تدابير الحجر الصحي ولزوم الناس بيوتهم خوفا من الوباء، ما دفع السلطات الحكومية إلى إطلاق عملية لإيوائهم في مراكز مؤقتة أحدثت لهذا الغرض.
وحسب المعطيات التي قدمتها وزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة فإنّ خطة عمل الوقاية وحماية الأطفال في وضعيةٍ هشة من عدوى “كوفيد-19″، التي جرى إطلاقها نهاية شهر مارس، مكّنت من التكفل بـ986 طفلا في وضعية الشارع، 639 منهم ذكور و347 إناث، إلى غاية 3 يوليوز الماضي، بـ 66 مؤسسة للرعاية الاجتماعية و51 مركزا وفضاء للإيواء المستعجل، وتم إدماج 224 طفلا داخل أسرهم.

ووفق المعلومات التي أدلى بها عبد الرزاق العدناني لهسبريس فإنّ أغلب الأطفال في وضعية الشارع جرى إيواؤهم داخل مؤسسات الرعاية الاجتماعية ومراكز الإيواء، “باستثناء بعض الأطفال الذين رفضوا الاستفادة من الخدمات المتوفرة، لاسيما خدمة الإيواء، وفضلوا البقاء في الشارع لأسباب مختلفة”، مضيفا أن خطة عمل الوقاية وحماية الأطفال في وضعية هشة من عدوى كوفيد 19، تمت بفضل تعبئة 300 عامل اجتماعي متخصصين في مجال حماية الطفولة عبر مجموع أقاليم المملكة، وانخراط السلطات المحلية ومختلف الفاعلين، ومؤسسات الرعاية الاجتماعية للطفولة.

في المقابل قدم الفاعلون المدنيون الذين تحدثوا إلى هسبريس وجهة نظر مختلفة، إذ قالت أسماء قبة إنّ حديث وزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والأسرة والمساواة عن إيواء أغلب الأطفال في وضعية الشارع “لا يمكن أن يصدّقه أحد”، مضيفة: “لقد رصدْنا وجود عشرات الأطفال خلال فترة الحجر الصحي في الشارع بمدينة فاس، ولم يكونوا يجدون حتى الماء، ووثقنا ذلك بالصور والفيديو، لكن الحكومة تقدم إحصائيات مغلوطة للرأي العام وللمؤسسات الدولية المعنية بالطفولة”.

وبين تضارب آراء الحكومة والمنظمات المدنية بخصوص إيواء الأطفال في وضعية الشارع خلال فترة الحجر الصحي، فإنّ هؤلاء الأطفال عادوا لينتشروا في أماكنهم بعد الحجر، كما عاينت هسبريس في عدد من مدن المملكة، في وقت شهدت الإصابات بالفيروس ارتفاعا قياسيا، منذ أواخر غشت، دون أن يتوفروا على أبسط شروط الحماية.

في ثالث أيام عيد الأضحى (يوم 2 غشت)، حوالي الرابعة والنصف، كانت محطة الحافلات بمدينة إنزكان تشهد حركة كثيفة؛ شمس العصر مازالت تلفح أجساد العابرين والمسافرين المنتظرين، بينما كان طفلان صغيران يلهُوان بكِمامة كانت ملقاة على الأرض ويتقاذفانها بأرجلهما. كان الصبيّان في حُضن فيروس كورونا وهما يخالطان مئات الأشخاص، وعندما سألتهما لماذا لا يضعان الكمامة، أجاب أحدهما ببراءة: “لا نملك مالا لشرائها”. ومساء اليوم نفسه صادفت أربعة أطفال آخرين بمدينة أكادير قرب ساحة “آيت سوس”، لما سألتهم إن كانوا يعرفون بوجود فيروس كورونا، قدم أحدهم جوابا غريبا؛ قال: “كورونا يصيب فقط الذين لديهم المال ولن يصيبنا نحن”!.

وبغض النظر عن خطر الإصابة بفيروس كورونا الذي يتهددهم، وغيره من الأمراض، يعيش الأطفال في وضعية الشارع في خضم مأساة حقيقية؛ يهربون من جحيم بيوت أسرهم إلى جحيم الشارع، حيث يعيشون محرومين من أبسط حقوقهم الأساسية، بما فيها حق الرعاية الطبية، ولا يعرفون عيدا ولا فرحا. يتذكر عمر أربيب، رئيس فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بمراكش، مشهدا من المشاهد المأساوية التي تحفل بها حياة الأطفال في وضعية الشارع، قائلا: “لن تزول تلك الصورة من ذاكرتي أبدا. في أبريل الماضي، صادفت طفلا يحمل على ظهره طفلا آخر مريضا إلى المستشفى، ويتبعهما طفل أصغر سنا يحمل في يده كيسا فيه ملابس صديقه المريض، يسارع الخطى وهو يبكي”.

hespress.com