بينما يبحث المغرب عن نموذج تنموي جديد، بعدما تبيّن أن نتائج النموذج التنموي المتبع خلال العقدين الأخيرين محدودة ولم تثمر الثمار المتوخاة منها، دعا المفكر المغربي محمد نور الدين أفاية إلى عدم اختزال التنمية في الإقلاع الاقتصادي وتحصيل النمو وتراكم الرأسمال، معتبرا أن لا “رجاء في أي نهضة بدون ثقافة”.

ودعا أفاية في كتابه “النهضة المعلقة”، الصادر حديثا، والذي تطرق فيه إلى النهضة في العالم العربي، النخب المتحكمة إلى الكفّ عما أسماه “رفْع لواء الحداثة، أو التنمية، بحصرها في تعبيرات مظهرية وسطحية لا أثر لها في حياة الناس؛ لأننا في حاجة قصوى إلى حداثة فكرية وسياسية فعلية، وإلى تنمية ترتقي بعيش المواطنين لها أثر في الوعي والذوق والتمدن، ولها وقع على صعيد التوزيع الإنساني العادل لخيرات البلاد”.

واعتبر الكاتب أن الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بأولويات الدولة الحديثة لا يجب أن تقتصر على إصدار توصيات أو حتى مواقف مبدئية، بل تستوجب تصوُّرا للمجتمع يعتمد على نمط سياسي يسترشد بعقل علمي وعصري ذي حسّ مواطني ينخرط في اختيارات اجتماعية تضامنية حقا.

وأردف أنّ مصداقية كل سياسة اقتصادية واجتماعية، أو ثقافية، تستمد عناصرها من عملية تأسيس فعلي لمقومات مادية وثقافية يتمثل انشغالها الأكبر في احترام كرامة الإنسان، وتسمح بتفتحه، وتوفر له شروط التعبير عن إبداعيته وملكاته، وتلبي له أغلب حاجاته الأساسية.

وأبرز أفاية أنّ “الجواب العمَلي، وليس الشعاراتي، لكل دولة عن الأسئلة المتعلقة بأولويات الدولة الحديثة، هو الذي يقيس إنسانية سياستها، ويبرز الأبعاد الثقافية والحضارية لاختياراتها، أو على العكس من ذلك، يفضح ادعاءاتها وشعاراتها”.

وانطلاقا من تجارب العالم الرائدة في هذا المجال، يخلص أفاية إلى أنّ “الحديث عن نموذج تنموي، بالمعنى البسيط للنموذج الذي يعني، أول ما يعنيه، الاقتداء بقيَمه ورموزه ونخبه ومؤسساته وتمدنه، وتوطينها في الأذهان والمواقف والسلوكات، لا يمكن الاطمئنان إلى مصداقيته من دون العمل على وضع سياسة ثقافية تتفاعل، عضويا، مع المجهودات التنموية”.

ولتحقيق هذه الغاية، يرى مؤلف “النهضة المعلقة” أنه لا بد من إقرار سياسات جديدة تدمج العوامل الثقافية في المخططات والبرامج بطرق مبتكرة، وتجعل الجميع يكتشف القيمة الاقتصادية والحضارية للثقافة في تنوعها وغناها، بما يسمح لها باحتلال المكانة الملائمة في النهضة المندمجة، ويؤمن شروط تطويرها، ومن ثم تفتح لمن يحملها آفاق انخراط، بطرق وظيفية ومُنتجة، في الممارسة والحياة اليومية والاجتماعية.

وتوقف أفاية عند مفهوم “النهضة”، داعيا إلى مراجعته وإلى إعادة تحديده، لإزاحة “بعض الأبعاد الرومانسية، بل السحرية التي كثيرا ما تحضر، بأشكال مختلفة، عند الحديث عن النهضة، أو التعبير عن التوق إلى كل مشروع نهضوي”، مضيفا أنّ الاهتزازات السياسية والثقافية الكبرى التي تجري في العالم وفي العالم العربي، تفرض إضفاء دلالة جديدة على مفهوم النهضة، وإدخال ما يلزم من النسبية على الفهم “المثالي” الذي يمنحه لها بعض المفكرين والمثقفين.
وقال في هذا السياق: “قد نجد بلدانا عربية، بفضل عواملَ عديدة، ومنها النفط، تمكنت من إنجاز مظاهر (نهضوية) لا غبار عليها في البنيات التحتية، والخدمات الأساسية والعمارة… إلخ، ولكنها لا تزال تشهد أبلغ مظاهر الانحطاط الفكري والاجتماعي، ولا سيما في العلاقة بالمرأة والفكر”.

وعلى الرغم من أنّ “التسلطية العربية”، كما سماها أفاية، ترسّخت عبر قرون وعقود من التحكم والعنف، فإنه يرى أنّ الأحداث الجارية في أكثر من ساحة عربية تؤكد تطلُّع المجتمعات العربية إلى التحول لإرساء قيم المجتمع الديمقراطي، غير أنه أشار إلى أن عملية التحرر من ثقل هذا التاريخ لا تبدو سهلة.

وأردف أنّ أهم الرهانات المطروحة على الفاعلين الاجتماعيين تتمثل في “خلق المسافة إزاء هذا التاريخ الاستلابي الماحق لكل نزوع نحو الحرية والجهر بالاعتراض، والانخراط في عملية جماعية واسعة لبناء إطار مشترك قمين بإطلاق تفكير عام حول الآليات المناسبة لتحقيق هذا التحرر، والمساهمة في مشروع النهضة وفي سيرورة الانتقال”.

ويرى أفاية أنه “لا يمكن انتظار إقامة أسس ديمقراطية موطّدة في ظرف زمني وجيز، بل لا بد من توفير شروط انتقال سلس، وسلمي، وتدريجي لاستعادة الثقة بين مختلف الفئات والجماعات والتيارات”، مضيفا أن التجارب الجارية لم تنجح في إثبات هذا المسعى.

hespress.com