انتقد الدكتور عمر بنعياش، أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط، “المقاربات السطحية لموضوع الإعراض عن القراءة في المغرب وفي العالم العربي على حد سواء”، معتبرا أنّ جذور أزمة القراءة في المنطقة أعمق بكثير من التصورات القائمة.

وسعى بنعياش، في أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع تحت عنوان: “أزمة القراءة عند الشباب الجامعي، مقاربة سوسيولوجية تدخلية”، إلى البحث في الأسباب المشجعة على القراءة أو المنفرة منها، عبر حفر أركيولوجي، حسب تعبير الباحث نفسه، لمقاربة الجذور التاريخية والاجتماعية العميقة لإعراض المجتمعات العربية عن القراءة الحرة العمومية.

وفي معرض تقديمه لأطروحته برر الباحث اختياره الشباب الجامعي بكونهم معنيين أساسيين بفعل القراءة كأداة عمل بغاية تحصيل العلم وإنتاجه؛ وقد انطلق في البحث في ثنايا هذه الإشكالية من سؤال: “إذا كان الشباب الجامعي، خاصة في شعب علوم المجتمع، لا يقرأ، فمن سيقرأ؟”.

وعدد الأستاذ بنعياش عدة منطلقات لدراسته، ومنها الإجماع الحاصل في جميع الدول والمجتمعات العربية على تدني مستوى الانجذاب نحو القراءة الحرة العمومية، واستشعاره، على حدّ تعبيره، “الخطر الذي يتهدد الشباب العربي، عموما، من اعتمادهم اللامشروط على منصات التواصل الاجتماعي كمصدر للثقافة والأخبار والترفيه”، وأشار، في هذا السياق، إلى أنّ الكلِّيات ذات الاستقطاب المفتوح “أصبحت تستقبل شبابا يفتقر إلى مهارات تعليمية وتعلمية أساسية، ومن أهمها مهارة القراءة والكتابة”.

واعتبر الباحث أن عدم الإقبال على القراءة الحرة العمومية في المجتمع المغربي والتكاسل في التحصيل الدراسي بالنسبة للتلاميذ والطلبة، بدليل الأعداد الهائلة من التلاميذ الذين يغادرون الفصول الدراسية كل سنة، لا يعود فقط لأسباب تاريخية وثقافية، أو لضعف في البنيات المحفزة على القراءة، بل يعود أيضا، وبشكل أساسي، إلى تراجع قيمة المدرسة في المجتمع المغربي، التي اقترنت في الوجدان الجمعي للمغاربة بالوظيفة العمومية، والذين يسوؤهم اليوم أن يتم التراجع عن هذا “التعاقد” من طرف واحد.

ووقف بنعياش في بحثه عند إشكالية تظلُّ مغيَّبة في الأبحاث التي تعالج إشكالية انحسار فعل القراءة في المجتمع المغربي، وتتعلق بالتأثير السلبي لعدم إقبال الأجيال الحالية على القراءة على الأجيال المقبلة، معتبرا أن “أساتذة التعليم أصبحوا، هم أنفسهم، ضحية لغياب بنية اجتماعية قارئة وسببا في استمرار وتجدر هذا الغياب، ذلك أن المدرِّس أو المربي الذي لا يتمثل القراءة الحرة العمومية بشكل جيد يصعب عليه أن ينقلها لطلبته أو تلاميذه”.

وحمّلت الأطروحة التي أعدها الدكتور بنعياش مسؤولية العزوف عن القراءة لجميع الفاعلين المعنيين، ذلك أن الإعراض عن القراءة، كما لاحظت، “ظاهرة يشترك فيها المواطن العادي مع المنتخب الجماعي مع الفاعل السياسي، بحيث لا تنحصر أزمة القراءة في كون الشعب لا يقرأ، بل في كون النخبة المسيرة للدولة، نفسها، لا تقرأ”.

وفيما أصبح العزوف عن القراءة أمرا مُعترفا به حتى من لدُن الجهات الرسمية في غياب أي حلول عملية لتجاوز هذا الوضع، إلى حد الآن، قال بنعياش: “إن السؤال الذي يفرض نفسه علينا كدعاة لممارسة سوسيولوجية أكثر جرأة وفاعلية والتزاما هو كيف يجعل أفرادُ الجماعة العلمية من أنفسهم باحثين مشاركين في بلورة السياسات العمومية، وليس مجرد منتقدين لها ومعلقين عليها؟”.

ويأتي اشتغال الدكتور بنعياش على موضوع أزمة القراءة عند الشباب الجامعي في أطروحته التي نال بها شهادة الدكتوراه الثانية كثمرة للتجربة التي راكمها في هذا المجال، إذ جعل من نادي القراءة الذي أنشأه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، واشتغل في إطاره كـ”حركة اجتماعية”، مختبرا لتجريب منهج البحث التدخلي وبحوث الفعل من أجل التغيير.

ويضيف الباحث أنّ هذه التجربة مكّنت الطلبة الذين انضموا إلى نادي القراءة على مدى ثلاث سنوات، والتزاموا بحضور لقاءاته الأسبوعية لمناقشة الكتب والروايات التي قرؤوها، من إحراز تقدم كبير في دراستهم ووعيهم ونضوج شخصياتهم، وإيقاظ ذكاءات ظلت كامنة في نفوسهم دون القدرة على استثمارها في النجاح، سواء في الدراسة أو في الحياة.

كما أوضح بنعياش أن الغاية من هذا التطبيق الميداني التدخلي تتمثل في إقناع الجماعة العلمية من “آل علم الاجتماع” في المغرب بجدوى المقاربة التدخلية ونجاعتها، وفق مقاربة “ينضم فيها الباحث والفاعل الذاتي لجماعة الفاعلين، ليبني معهم ‘حركة اجتماعية’ هادفة لحلحلة وضع معين وتغييره أو التأثير عليه لمصلحة الأفراد، قبل أن ينسحب الباحث من الحركة ويعود إلى ارتداء جبة الأكاديمي”.

واعتبر الباحث نفسه أنّ الأطروحة التي ناقشها الأسبوع الماضي تدعو “آل علم الاجتماع” إلى تبني منهجية بحثية جديدة من شأنها أن تطرح عدة تساؤلات ومناقشات داخل الأوساط الجامعية، خصوصا عندما يتم نشرها والاطلاع عليها من طرف العموم.

وسبق للدكتور بنعياش أن نال شهادة الدكتوراه في التخصص نفسه من جامعة ابن طفيل بالقنيطرة قبل حوالي 15 عاما، ويأتي اشتغاله على موضوع “أزمة القراءة عند الشباب الجامعي، مقاربة سوسيولوجية تدخلية”، في أطروحة نيل شهادة الدكتوراه الثانية، بغرض التوجه إلى الجماعة العلمية باقتراح يتبنى منهجية البحث التدخلي ومنهجية بحوث الفعل.

ودعا الباحث في معرض تقديمه أطروحته أمام لجنة المناقشة التي التأمت بمشاركة العميدين حسن قرنفل وعبد اللطيف كيداي، والأساتذة عبد الرحيم العطري وعبد الغني منديب ومحمد بندحان، إلى الكف عما سماها “التمثلات الطهرانية لعلم الاجتماع النقدي لدى مدرِّسي علم الاجتماع والمشتغلين به في المغرب، والانفتاح على مناهج جديدة من أجل تنزيل فعلي لشعار انفتاح الجامعة على محيطها وبناء صروح جديدة لهذا العلم تجعله أكثر نفعية ومردودية”.

وحرص الباحث نفسه على تقديم نموذج لنوع المنهجية التي يدعو إليها من خلال نادي القراءة الذي أنشأه بكلية الآداب بالرباط، وتابع أنشطته على امتداد أربع سنوات من أجل الارتقاء بالفعل القرائي لدى طلبة علم الاجتماع بالكلية، وتم فيه تطبيق فلسفة وقواعد منهج البحث السوسيولوجي التدخلي وبحوث الفعل.

وتعتمد السوسيولوجيا التدخلية التي يدعو بنعياش إلى العمل بها على مبدأين ومفهومين، هما مبدأ حل المشكلات وبناء المشاريع، ومفهوم الفاعل الذاتي والحركة الاجتماعية.

وتدعو أطروحة بنعياش، التي قال الأستاذ عبد الرحيم العطري خلال مناقشتها، إنها “أحرجت” مدرّسي علم الاجتماع والمشتغلين به في المغرب، إلى “تحرير علم الاجتماع المغربي من طبيعته المحافظة والمنعزلة بدعوى الموضوعية والاستقلالية، وانخراطه في المجهود الوطني من أجل التنمية، كمشارك للفاعل السياسي والاقتصادي، وليس كمجرد مقرر وملاحظ، وكسلطة متعالية على الواقع والناس”.

وأضاف الأستاذ بنعياش، في معرض تقديمه أطروحته، أن الوجه الآخر لدعوة الانفتاح هاته “هو الدعوة إلى تمهين السوسيولوجيا”، وهو الحلم الذي صرح الباحث بأنه ظل يراوده كما راود أستاذه محمد جسوس زمنا طويلا من قبله.

وسجل الباحث في هذا السياق أن وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي انتبهت أخيرا، ولأول مرة في تاريخها، إلى الحاجة إلى توظيف خريجي مسلكي علم الاجتماع وعلم النفس من أجل مواكبة التلاميذ العنيفين والمتعثرين بالمؤسسات التعليمية لأسباب نفسية أو لظروف اجتماعية أو لانحراف في التربية أو شذوذ في السلوك.

hespress.com