لعبت المرأة بزخم حضورها الفكري، الجسدي، المادي، الروحي، الايروسي، المعنوي، العاطفي، النفسي، دورا كبيرا في صياغة النموذج الذي جسَّده كامو: الإنسان، الفيلسوف، الروائي، المسرحي، المناضل التحرري، الذي ناهض بشفافية كبيرة عبثية وسيزيفية الوجود؛ بنفس الحدة التي واجه بها المنظومات السياسية التوتاليتارية، مثلما عكستها بامتياز، خلال سياقه التاريخي، أنظمة أوروبا الشرقية البيروقراطية المتوارية خلف واجهة عدالة الشيوعية.

بدءا من دائرة أول امرأة اكتشفها في حياته، وهي أمّه عاملة التنظيف، التي أحبها بالمطلق حد الجنون، المنحنية باستمرار على دلوها لتلميع أراضي الغرف، وقد قصم الفقر والعوز ظهرها، مرتدية باستمرار بذلة رمادية أو سوداء، صماء وأمِّية، بجانب صعوبات على مستوى الكلام. أوصاف حزينة تضمنتها مسودته ”الرجل الأول” غير المكتملة فصولها، التي عثر عليها حين وفاته، انتهاء بنسق علاقته الغرامية الخالدة، قلبا وعقلا، مع الفنانة المسرحية والسينمائية ماريا كازارس، مرورا بصداقات نسائية عدة، لم تكن حقيقة عابرة، على الأقل تلك التي كشفت عنها حكايات وسير تناثرت هنا وهناك، كما الشأن مع “كاثرين سيليرز”، “سيمون هي Hé”، ”كريستيان غاليندو”، ”باتريسيا بليك”، ”ميMi”، دون إغفال أو مجرد سهو غير مقصود لذكرى انتظام لقاءاته خلال فترة معينة مع سيمون دي بوفوار حول مائدة عشاء في مطعم ”ليب” سان جيرمان، وإن لم يرتق الأمر إلى مستوى شغف غرامي بالمفهوم الذي عاشه كامو مع باقي النساء، بسبب رفض صاحب كتاب ”الإنسان المتمرد” (1951) الانسياق وراء النزوع الدونجواني لصديقة سارتر.

مغامرات عاطفية مكتملة الشروط، وجدانيا وذهنيا، نسجت باستمرار منطلقاتها وارتداداتها؛ ذهابا وإيابا، حول دائرة زواجه الرسمي من فرانسين فور، أمِّ طفلتيه كاترين وجين؛ عازفة بيانو رائعة تصعب مجاراتها بخصوص موسيقى باخ، ومختصة في الرياضيات.,امرأة فاتنة، متحفظة جدا وقليلا ما تكشف عن سلوك ماجن..تزوجها كامو سنة 1940.

أقول، يظل تأويل موضوع الحب عند كامو متعددا يصعب جعله ممتثلا لخلاصات قراءة واحدة، مادامت تتسامى مناحيه عن هواجس الدونجوانية عند حدود مقتضياتها المضطربة ذات الحس الشهواني المبتذل. أيضا، في الوقت ذاته، هنا تكمن المفارقة المدهشة، استمر كامو شخصا حرا، ضمن سياق مختلف ذلك، كأنه امتثل على طريقته لمقولة القديس أوغسطين: “فلتعشق ثم اصنع ما تشاء”.

لا يخفي كامو عشقه للنساء وما تمثله المرأة من انفتاح صوب وجهة العالم والحياة، فيتطلع نحو العثور معها عن صداقة عميقة جوهرية وأساسية…يجعله حضورها قادرا على استيعاب ذاته وخفايا لغزه الخاص، هكذا يرتبط شغفه اللانهائي بالحب بسعادة تجعله حرا منتشيا بالحب والحنان.

شكَّل لديه الحب حلقة مفصلية بناءة إلى جانب العبث والتمرد، بهدف استتباب معاني المقاومة قصد تحديه الحياة والموت ثم الزمان.. كان باستمرار قريبا جدا من الموت، مهددا بنهاية باكرة قبل الأوان، جراء متاعبه الصحية الناجمة عن إصابته بداء السل، إضافة إلى تعب مضمار معاركه الفكرية.

إنه شخص قلق ومعذب، لا يهنأ له بال، تقض مضجعه هواجس متباينة المشاريع، يكابد لا طمأنينة دائمة على حد تعبير فردناندو بيسوا..عزلته الذهنية، بعد أن تخلى عنه رفاقه القدامى مثل سارتر، بوفوار، ميرلوبونتي.. إرهاقه الجسدي والنفسي، يستشفهما القارئ تماما من عباراته المصحوبة بشعور السلبية :”أحس هذا الصباح كما لو أني أجوف”، ”الحقيقة أنا مجرد شخص أبله، فقد لاحظت أني فقط بصدد مخاطبة نفسي”، ”أنا فارغ وأجوف”، ”أنا قارب مترهل يسحبه موج، مبتعدا عن شاطئ رملي قبيح”، ”أعاني حالة كآبة يميزها إحباط كلي وحزن كئيب”…

هكذا، بلورت المرأة، أفقا كي يحيا الحياة وفق ممكنات المقاومة والتمرد، لذلك كتب كامو سنة 1950: ”ما يفعله كل واحد منا على مستوى عمله وحياته لا يقوم به وحده، بل وحده حضور يشعره بالصحبة” .وهي الصحبة التي عثر عليها في الانكباب على الكتابة والشغف بالمسرح، ثم معاشرة نساء مميزات وذكيات شكلت له سندا وجوديا، يتحدى معهن ومن خلالهن الحياة والموت والزمان، مع وفائه الشفاف لهن مثلما فعلن بدورهن نحوه على طريقتهن، لاسيما حيال زوجته فرانسين، التي أحبها حبا عميقا، بحيث تحمل مسؤوليته كزوج وأبٍ؛ رغم كونه منح ذاته حق أن يعيش علاقات عاطفية كثيرة خارج إطار الزواج.

في خضم ذلك، تظل أهم علاقة طبعت حياة كامو على جميع المستويات تلك التي جمعته بالفنانة المسرحية والسينمائية ماريا كازارس المنحدرة من أصول إسبانية، ابنة آخر رئيس حكومة الجمهورية الإسبانية؛ نفيت أسرتها إلى فرنسا سنة .1936.غرام استثنائي، متوقد، ملتهبة أبعاده، صار بالإمكان إدراجه تاريخيا منذ إزالة اللثام عنه بفضل وثيقة الرسائل، إلى جانب أشهر الصداقات الغرامية التي حافظت على هيبة فرادتها النوعية في تاريخ الإنسانية، وقد دونت مراسيم للحب، ووضعت أبجديات لإتقان فن العشق والارتقاء به نحو مدارج السمو والكمال والإبداع.

إذن، إقرار من هذا القبيل، أضحى ثابتا بكيفية جلية للعموم على نحو واضح منذ سنة 2017، عندما وافقت كاترين كامو (ابنة كامو)، كي تصدر دار النشر غاليمار مجلدا ضخما تضمن بتفصيل مختلف المراسلات العاشقة المتبادلة بين كامو وعشيقته كازارس لمدة خمس عشرة سنة؛ طيلة الفترة الممتدة بين 1944 -1959..عمل هائل، أزاح السرية والخصوصية عن زهاء ثمانمائة وخمس وستين رسالة غرامية، ضمها كتاب سميك قارب ألفا وثلاثمائة صفحة. تنبغي الإشارة في هذا المقام إلى أن وديعة الرسائل مكتملة توصلت بها كاترين كامو من طرف كازارس قبل وفاتها سنة 1996، عن طريق الشاعر روني شار.

التقى كامو وكازارس لأول مرة في باريس يوم 6 يونيو 1944، عند ميشيل ليريس، بمناسبة تنظيم الأخير للقاء فني بهدف مناقشة مسرحية لبيكاسو..لقاء حدث عشية إنزال قوات الحلفاء على شاطئ نورماندي. يبلغ عمر كازارس آنذاك واحدا وعشرين سنة، بينما قارب كامو عقده الثالث، متزوجا مثلما سبق ذكره من فرانسين فورFaure، وأبا لطفلتين توأم، غير أنه يعيش وحيدا في باريس لأن زوجته لم تغادر وهران..أيضا أنهى آنذاك نشاطه الصحافي في جريدة ”نضال” كي يتحول صوب مغامرة جديدة اسمها ”نضال حر” صحبة باسكال بيا.. صار حينها كاتبا مشهورا، بعد إصداراته المتمثلة في عمليه : ”الوجه والقفا” (1937)، الغريب(1942)، ثم عضوا ضمن لجنة القراءة في غاليمار.

بدورها، ابتدأت كازارس خلال تلك الحقبة مسارا مسرحيا بدا منذئذ واعدا..وقد تمكنا فعلا، من خلال سرد هذه الرسائل، استعادة جل المغامرات المسرحية لكازارس وعلاقاتها مع كبار الممثلين ومدراء الفرق المسرحية..اعتبرت حقا واحدة من أكبر ممثلات التراجيدية في فرنسا إبان القرن العشرين..قدمت أدوارا مهمة تحت إشراف مخرجين، من قيمة ”جان فيلار”، ”جان كوكتو”، ”جورج لافيلي”، ”باتريس شيرو”..وجسدت فوق خشبة المسرح المفاهيم العميقة التي انطوت عليها مسرحيات كامو وجان جنيه.

احتاج ألبير كامو وجوديا لماريا كازارس، فجاء صدفة لقاؤهما الثاني عند إحدى نقط عبور شارع سان جيرمان الباريسي، بعد قطيعة دامت ثلاث سنوات، نظرا لطبيعة الظروف الأسروية لكامو..هكذا أمدته كازارس الصلبة، الشجاعة، الودودة، بالطمأنينة، فهي بمثابة ”قوة شمسية” تدرك كيفية العثور على الكلمات المناسبة، شجعته كي ”يمضي في سبيله” حتى النهاية مثلما قالت له حينما أرغمه السياق أساسا على خوض معارك ضارية ضد سارتر وفرانسيس جونسون، إضافة إلى ظروف مرض زوجته ومعاناته اليومية بدوره من نوبات اختناق نتيجة مضاعفات داء السل.

يستحيل قراءة الرسالة الأخيرة التي بعث بها كامو إلى حبه الكبير يوم 30 دجنبر 1959 دون الإحساس بانقباض ينمّ عن الشؤم..نعم وردت جملة “الرسالة الأخيرة” بكيفية منذرة: ”إلى اللقاء، جميلتي. أنا سعيد جدا لفكرة لقائك بحيث أبتسم وأنا أكتب إليك ذلك. أقبِّلك وأحضنك غاية يوم الثلاثاء، حيث أبدأ ثانية”.

غير أن كامو لن يعود أبدا إلى باريس، لأنه توفي مباشرة جراء حادثة سير مميتة بعد أن اصطدمت بقوة السيارة – نوع فاسيل فيغا- التي يقودها صديقه ميشيل غاليمار بشجرة جنوب بلدة ”فونتينبلو”.

hespress.com