يقول المثل العربي “اضرب الضعيف حتى يهابك القوي”، لكن ما فعله المغرب مع ألمانيا هو عكس المثل، لأن ألمانيا ليست بالدولة الضعيفة ومع ذلك هددها المغرب بالمقاطعة، لأنه بكل بساطة أصبح دولة قوية. وفيما أذكر، لم تقدم على هذه الخطوة الجريئة من الدول النامية سوى تركيا في بعض خرجاتها ضد بعض القوى الكبرى.
وسبب هذا الفتور الدبلوماسي بين المغرب وألمانيا لا علاقة له بإبعاده عن مؤتمر برلين حول ليبيا، ولو أن المغرب إحدى دول الجوار وديبلوماسيته أظهرت كفاءة عالية في تقريب وجهات النظر بين الأطراف الليبية، سواء في محادثات بوزنيقة أو في اجتماع الفرقاء بطنجة.
ولا علاقة لهذه الضجة، كما يروج البعض، بتسليم أحد المعارضين، لأن أوروبا الغربية تعج بمثل هؤلاء، ولا يكفون عن الصراخ وسب وشتم بلدهم المغرب كلما أتيحت لهم الفرصة، وبالتالي لم يعد أمر تسليمهم يهم الدولة المغربية وسلطاتها، ثم إن المغرب لا يعتمد مثل هذه الاستراتيجيات التي يتبعها عادة عساكر الجيوش حينما يستولون على السلطة في بلدانهم.
ولا للأمر علاقة بمسألة تجسس أو نشاط استخباراتي ألماني، على الرغم من أن وجوده كان دائما وأبدا على أرضنا. ولأن مغرب الأمس ليس هو مغرب اليوم، أصبح الحموشي بكل بساطة “قاد بشغالو” ورجالاته يقرؤون وجوه الجواسيس في الموانئ والمطارات المغربية من خلال جوازات سفرهم، وسجل المغرب حافل بالإنجازات في محاربة الإرهاب ومراقبة أخطر الجواسيس.
وبالتالي، يبدو أن الأمر فيه حساسية مفرطة، وهذا النوع من الحساسيات لن يأتي إلا من جهة واحدة ووحيدة هي الصحراء المغربية، أو بكل ما يتعلق بوحدة المغرب الترابية وسيادته.
ومن الاحتمالات الممكنة أنه قد تكون ألمانيا مثلا أرادت فجأة ومن دون مقدمات الدخول على الخط المباشر بين المغرب والجزائر كي ترضي هوى الجنرالات وعصابة البوليساريو على حساب المصالح العليا للمملكة المغربية، في ظاهر الأمور لدافع مالي أو حزبي وشخصي، وفي باطنها للبحث عن موطئ قدم في إفريقيا، وهي العارفة بحكم خبرتها الاستعمارية أن المغرب هو بوابة إفريقيا الشمالية ومفتاحها الشمالي، أو الإنابة حتى عن أطراف أخرى أوروبية، وما أكثرها، أوعزت لها بذلك وآثرت هي البقاء بعيدا تراقب في الظل.
ولكن ألمانيا تعلم أنها تلعب بالنار في قضية لا تعرف المساومة ولا تقبل القسمة على اثنين بالنسبة للمغرب. ونحن من جهتنا كمواطنين مغاربة، قد نتساهل في كل شيء إلا في وحدتنا الترابية.
لكن صحيح أن إبعاد المغرب عن مؤتمر برلين كانت له بعض التبعات والحسابات، ولكنها لم تكلف وزارة الخارجية أكثر من إصدار بيان دون الوصول إلى تجميد التواصل الديبلوماسي مع السفارة الألمانية بالرباط كمرحلة أولى، وقلنا حينها “حنا ماشي شغلنا، داك الشي شغال بوريطة وزير الخارجية”، والساعات القادمة وحدها ستكون حاسمة بعد أن تنجلي ردود الفعل الرسمية بشكل واضح وإفراز اشتباكات الخيوط الغامضة من أولها إلى آخرها.
ألمانيا عملاق اقتصادي ومالي وصناعي من دون شك، ولكنها مع ذلك ليست دولة محورية وتأثيرها في الحقل السياسي محدود في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، وهذه واحدة من نقاط ضعفها.
وفي كل الأحوال، ستبقى ألمانيا هي الخاسر الأكبر في حال قطع المغرب علاقته الديبلوماسية معها بشكل نهائي وكامل، لأن الميزان التجاري المغربي معها يعرف عجزا مزمنا، ثم إنها ليست شريكا استراتيجيا للمغرب في الصناعة أو في التجارة، ولا هي حليف لا يمكن للمغرب الاستغناء عنه.
لكن “رب ضارة نافعة”، ومن يدري فقد تكون الفرصة مناسبة للمغرب لبيع المزيد من السيارات محلية الصنع أو التركيب للأفراد والمؤسسات بدل استيراد سيارات مكلفة وباهظة الثمن من ألمانيا مثل “مرسيديس” و”أودي” أو “بي إم دبليو” التي تنهك ميزانية الدولة والمواطن.
ويبقى أن نشهد بأن ألمانيا الناجحة اقتصاديا وصناعيا فاشلة سياسيا، وهذه نقطة ضعفها الكبرى. ومع ذلك، أجزم أنها في الأخير لن تترك مكانها في المغرب وتعطي فرص الاستثمار لطريق الحرير الآتي من الصين أو تخلي المنافسة لتركيا أو لفرنسا والولايات المتحدة. وإن فعلت، خلي “المرسيديس” و”البي إم دبليو” عندها تما…!