ما قصة العلاقات المغربية ــ الإيرانية؟ لماذا اتخذ الملك الراحل الحسن الثاني مواقف مناوئة للثورة الإيرانية منذ اللحظة الأولى لقيامها؟ ولماذا غير موقفه بعد ذلك؟ كيف تدخلت الجزائر على الخط في اللحظات الأولى وأرادت إفساد العلاقات المغربية ــ الإيرانية؟ كيف استقبلت النخبة المغربية الثورة الإيرانية بعد قيامها؟ وكيف كان أداء المغرب خلال الحرب العراقية ــ الإيرانية؟
هذه الأسئلة وغيرها نتابع الإجابة عليها خلال شهر رمضان مع كتاب الباحث الدكتور إدريس الكنبوري “أمير المؤمنين وآية الله.. قصة المواجهة بين الحسن الثاني والخميني”، الذي خص به جريدة هسبريس.
الحلقة العشرون
كان من الطبيعي أن يحصل التفاعل بين الفاعلين الدينيين في المغرب وبين الثورة الإيرانية ذات الطابع الإسلامي، ولعل هذا ما أثار مخاوف الدولة، وهو أن تؤدي الثورة الإيرانية، والفاعل السياسي الإيجابي الذي حصل معها ــ كما رأينا في الفصلين السابقين ــ إلى انبعاث الاحتجاج الإسلامي داخل المملكة، سيرا وراء النموذج الإيراني الذي ارتكز على أمر أساسي: الإحياء الديني والسياسي للإسلام الشيعي.
إن التحول الكبير الذي حصل في التشيع الإيراني منذ القرن السادس عشر، تاريخ انتشار التشيع في إيران، تمثل في نشأة المؤسسة الدينية الشيعية، التي كانت منعطفا رئيسا في العلاقة التاريخية التقليدية بين الفقهاء والسلطة السياسية. حصل ذلك في النصف الأول من القرن التاسع عشر مع الغزو الروسي لإيران، حينما نهض الفقهاء والعلماء الشيعة يطالبون الدولة القاجارية بالتحرك والرد، وبدؤوا يتخذون مواقف سياسية صريحة إزاء ما يحصل في البلاد داخليا وخارجيا، ويشكلون مصدر قلق للدولة. وكان أوج هذه المواقف فتوى التبغ الشهيرة عام 1891 للمرجع الشيعي الأبرز آنذاك في العراق الميرزا الشيرازي.
والقصة باختصار أن شاه إيران منح لشركة بريطانية امتيازا تمثل في حق استثمار التبغ الإيراني لمدة خمسين عاما، مقابل 15 ألف جنيه استرليني للحكومة الإيرانية، وربع أرباح الشركة سنويا.
وبدأت الشركة تشتري محصول التبغ من الإيرانيين بأسعار رخيصة ثم تعيد تصنيعه وبيعه بأسعار باهظة، فانتشر الغضب وسط الفلاحين في تبريز وشيراز، منطقة التبغ الرئيسية، ودعا الفقهاء إلى المقاومة المسلحة ضد الامتيازات الممنوحة للشركات البريطانية، التي تزايدت أعدادها بسبب الأرباح المغرية.
ووجه الميرزا الشيرازي رسالة إلى الشاه يطلب منه التراجع عن منح الامتيازات، لكن الشاه تشبث بموقفه، فما كان من الميرزا إلا أن أصدر فتواه التاريخية الشهيرة بتحريم التبغ والتدخين تحريما قاطعا، معتبرا إياه محاربة للإمام الغائب، فهاجت الجماهير، ولم يعد أحد يقدم على التدخين أو استغلال التبغ المزروع، فلم يجد الشاه بدا من التراجع.
هذه الخلفية كانت حاضرة في الثورة الإيرانية لروح الله الخميني، فقد قامت على إحياء دور الولي الفقيه، وتجديد أدوار المؤسسة الدينية الشيعية، وإعطاء الفقهاء مساحة للبت في شؤون السياسة، ولم يعودوا على هامش المجتمع، بل أصبحوا في مركز القرار السياسي.
وكانت أولى المواقف التي اتخذها الخميني لدى وصوله إلى السلطة، توجيه نداء إلى علماء وفقهاء العالم الإسلامي للتحرك وأخذ المبادرة، بل لقد اعتبر أن العلماء والفقهاء مثلهم مثل العامة بعيدون عن الشأن السياسي؛ إذ قال: “مع الأسف، فإنه ليست شعوب الدول وحدها البعيدة عن الأحداث السياسية والساحة العالمية، بل إن أغلب علماء الدول الإسلامية يجهلون الدور البناء والمصيري لهم في مجال السياسات الدولية وشؤون الأمة”، ودعا علماء الإسلام إلى زيارة إيران للاطلاع على الوضع فيها وملاحظة التحول الذي حصل في أدوار الفقهاء: “إن انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة العلماء والحمد لله رغم العقبات ومؤامرات الشرق والغرب، والحقد الذي يكنه أذنابهما، قد أثبت عكس هذا التصور، وأكد اقتدار الروحانيين وعلماء الإسلام، وأنا أدعو علماء ومفكري الإسلام في أنحاء العالم لأن يزوروا بلدنا الإسلامي العزيز إيران في الفرص المناسبة للاطلاع على الوضع الحالي، حيث إن الإسلام والوحي هما أساس وجوهر كل القوانين فيه”، كما قال أيضا: “ومما يدعو إلى الاستغراب هو أن الكثير من علماء الدول والبلاد الإسلامية غافلون عن دورهم الكبير ورسالتهم الإلهية والتاريخية في هذا العصر الذي تتوق فيه البشرية للمعنوية والأحكام الإسلامية النيرة”.
لذلك، كان من الطبيعي أن تتوجس الدولة في المغرب من ردود الفعل في الأوساط الدينية، خصوصا رابطة علماء المغرب، التي كان يرأسها العلامة عبد الله كنون. فالرابطة لم تكن مجرد مؤسسة فارغة، كما سيحصل فيما بعد حينما أعطيت رئاستها إلى محمد المكي الناصري بعد وفاة كنون إلى أن انتهت تماما، بل كانت شبه مؤسسة سياسية، تصدر المواقف السياسية في المناسبات الهامة، الوطنية والدولية، وتصدر البلاغات والبيانات في مناسبة فاتح ماي على سبيل المثال، وتتحدث عن الطبقة العمالية، وكانت قوة اقتراحية في مواجهة الدولة، لذلك فإن الدولة كانت تتابعها عن كثب وتراقب تحركاتها ومواقفها.
وقد وجه كنون، باسم الرابطة، رسالة إلى الخميني جاء فيها: “بعد التحية، تتقدم رابطة علماء المغرب إلى سماحتكم بتهانيها الخالصة على عودتكم المظفرة إلى إيران، رافعين راية الإسلام، متحدين خصومه في الداخل والخارج، من الصهاينة وأنصارهم، والمستعمرين القدماء والجدد. وإنها لحركة مباركة هذه التي تقودونها بحكمة وتبصر في نطاق البعث الإسلامي، والتحرر من الهيمنة الأجنبية التي فرضها الغرب والشرق على الساسة والشعوب العربية والإسلامية. ونحن إذ نتضامن معكم، نؤكد لكم أننا سنبقى مرابطين في خط المقاومة لكل مذهب أو نظام غير إسلامي، حتى تتحقق الوحدة الإسلامية وتتحرر فلسطين والقدس الشريف وسائر بلاد الإسلام، وتكون كلمة الله هي العليا، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين”.