في هذا المقال يجوب الحكواتي والكاتب إدريس الجاي ثنايا ذاكرته، مستدعيا تاريخا خاصا بتفاصيله، لامرأة، بالنسبة إليه، ليست ككل النساء.

يكتب الجاي، المقيم حاليا بألمانيا، بورتريها عن والدته، مليئا بالحنين والشوق، لمن رحلت عن هذه الدنيا جسدا لا روحا، في نظره على الأقل.

أمومة وحنان واحتواء وصفات أخرى نفتقدها كثيرا في زمننا، يستدعيها الجاي ساردا ما يتذكره عن المرأة التي علمته معنى الحياة، ومعنى الحرف.

وهذا نص المقال:

هناك أناس يدخلون حياتنا ولا يخرجهم منها الموت الجسدي مدى الدهر، يبقى وجودهم في ذاكرتنا قوي، تعانقنا ذكراهم في غيابهم مثلما كان يأسرنا حبهم في وجودهم، تطوقنا إنسانيتهم في الحركات والسكنات كمنارات ساطعة يتراءى شعاعها على بعد الأعوام الممتدة في البعيد، فيواصل بيننا حضورهم أحياء لا أمواتا.

حين احتفل العالم بيوم المرأة، ذكرت امرأة حينا البليدة في فاس القديمة، أمي الغالية. كان الزمن يسير بسيرها، تهزمه، تروضه، تجزئه لحظات حية. تمنحه سر التأني، تجعل له روحا وطعما ورائحة طالعة من حيويتها وخفة نشاطها ومرحها الوديع. تجعله يسير خلفها طائعا منساقا رغم كل تقلباته وأزماته.

كانت أمي الغالية قصيرة القامة، طويلة النفس، عملاقة الهيبة، حين تخطو تتبعها هالة قدسية بنعوت الأصفياء وصيت الأولياء. يعلن خطوها بشارة حب تنثره فيضا وغيثا لا ينضب وسعة قلب، يلجه البعيد والقريب، الصديق والغريب، قلب يرشح بصفاء ووفاء وبراءة، ووجه لا يفتر عن التبسم، توزعه بذور ألفة وصدق وطيبة معشر تهديها إلى قلوب الحيارى ولوعة العذارى وحيرة السكارى بنشوة مودة وبهجة ترافقها في الحل والترحال.

كانت كل قلوب الناس مسكنها، كانت بسمتها تسقط القيد والحدود والمسافات بينها وبين العابرين والمقيمين. تحضن بحبها مثل أسطورة باذخة أهل البلد والغرباء والقادمين من أطراف الدنيا البعيدة، أفارقة، أوروبيين، متسولين أو موظفين سامين في سلك الدولة.

كل الناس في فلك محبتها سواء كأسنان المشط. سيان أكانوا مؤمنين أو كافرين، أغنياء أو معدمين، عبادا أو معربدين، تقاة أو مقامرين. النساء شقائقها، كل الشابات بناتها، كل اليافعين أبناؤها وكل الأطفال أحفادها. كانت أمي الغالية أم الجميع وجدة الجميع وأخت الكل. جادة في أخذها زمام الأمور حين يجد الجد، ومرحة مفعمة بروح طفولية ونكتة في لحظات المرح اللطيف دون أن تسقط عنها هالتها الكونية. أسطورة تتنمى وتسمق فوق ثنايا تقلبات الأيام.

توزع في لحظة الفرح المرح تنشره ثمارا، توشح به المشاعر وتشرح به الصدور. تواسي، تعانق بحب ندي الأفئدة، التي علاها الصدأ ومرارة الزمن. كانت أمي الغالية خزانة متحركة تسير على قدميها، مكتنزة بالأمثال الشعبية، الأزجال القيمة، الحكم، الحكايات، الخرافات وتجارب تنتج بصيرة كونها سبر أغوار المحن وصقلها توالي الدهر.

ملجأ المحرجين

سرقت وأخاها، وهما طفلان، من تخوم تافيلالت، وأودعت فاس وأخوها مكناس، الذي ستلتقي به لاحقا في سن متقدمة. أصبحت فاس مستقرها ومستودعها، فعشقت هذه المدينة السرية، وصارت إحدى ذاكراتها بامتياز، حافظة لتاريخ المدينة الشفاهي غير المكتوب، بل أصبحت من أعلامها، تعرف خباياها ومتاهاتها وحاضرها وماضيها.

كانت دار أمي الغالية مثل قلبها تفتح من دلوك الشمس إلى غسق الليل، قبلة السائلين عن نوازل الدين والتواءات الدنيا، باحة الزائرين وملجأ المطرودين في غسق الليل إلى مأزق حرج أو السكارى الهاربين من مطاردة دورية الشرطة والعسس الليلية (لاراف).

كان المقبوض عليه لا يدل الدورية على دار أهله الحقيقية، بل يقودها في هجير الليل إلى دار أمي الغالية. ما إن تفتح هذه الباب حتى تستحوذ بلطافتها ولسانها العذب الذي يذيب الحديد على عزم الدورية  قائمة بدور أم أضناها عقوق هذا الابن الضائع. ثم تدخله الدار بسرعة سحرية، قبل أن تفطن الدورية أن المقبوض عليه أفلت من قبضتها.

يبيت السكران العتيق ليله كابن من أبنائها، وفي الصباح كان غالبا ما يتسلل خارجا من الدار في سرية تامة، خجلا من عيون أمي الغالية الفائضة بالحنان والمحبة، التي لا تعرف العتاب ولا اللوم، بل الدعاء بالتوبة والصفاء. وإذا ما رأت أحدهم وهو يغادر البيت، فلا مناص له من البقاء حتى يتناول الفطور مع أسرتها، ثم ينصرف في أمان.

كانت دارها مثل رباط أو زاوية يقصدها الكل دون تمييز بين الفقير، الذي يبحث عن وجبة غذاء أو جارة ترغب في ملء وعائها بالماء أو زائر أو قريب أو باحث عن فتوى من الفقيه زوجها أو آت لحديث معه في اللغة وعلمها. كانت أمي الغالية عالمة، رغم أنها لا تكتب ولا تقرأ، بالمسائل الفقهية اليومية الخفيفة، لأن بعلها كان يعد من علماء فاس، فهي تستفيد منه ثم تفيد.

لم يكن يقطع في الحي أمر إلا بمشورتها، كانت حاضرة بقوة العون والمدد في الأعراس والمآتم، في الأفراح والأتراح. تستشار في النوازل وتقصد في الشدائد. وإذا مشت في الشارع تشرئب إليها الأنظار، تتسارع أفواه الصغار والشباب لتقبيل يدها، والمسنين لتقبيل رأسها، وتهرع الأيادي لتحمل عنها قفة تبضعها اليومي من السوق خارج حي مسكنها، كأنهم يتبركون خفية بقديسة لا تريد أن تكشف عن كنهها.

كان تواضعها مع الكل يفضح حنانها ودعواتها الخيرة لكل من يستجديها الدعاء ولكل من يلاقيها في طريقها. كانت تحتاج لقطع مسافة، يقطعها غيرها في دقائق، إلى ساعات، تفشي السلام على كل من رآها ومن لم يرها، تمنح جميع الناس الوقت والحديث الطيب، الذي” لا يشبع الواحد منه”، وتجبر الخاطر وتشجع المرتاب وتزرع العزيمة في الخائر واليرع، لا تشيح بوجهها عن أحد، وكل من لاقاها يشعر أنه الاهم في حياتها.

لسان يعوض الدية

كانت ترعى الحي بأناسه وتبادر في سرية تامة إلى فك المستعصي من يومياتهم ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. كان الأطفال يحبونها حبا جما لأن لهم عندها دائما زلفى. كانت تهديهم ما توفر في يدها من مال أو حلوى وقبلات ودعوات مباركة تصحبهم إلى أوكارهم.

كانت لها عينا ثالثة، تبصر من خلالها المحتاجين، الذين يبدون من التعفف إغناء، فعينها الثالثة تعرفهم بسيماهم، تعرف أنهم لا يسألون الناس إلحافا، فتعطيهم ما في يدها، وإن لم يكن استعارته أحيانا من أجلهم، حتى لا تردهم خائبين. تنفق إنفاق من لا يخشى فاقة. كان لها ورد طعام يومي يخرج من بيتها إلى بائع النعناع وإلى البقال وإلى صاحب الحليب وإلى نساء الحمام وإلى  الفران وغيرهم، غير المتسولين، الذين يطرقون كل يوم بابها المفتوح، بل يدخلونه دون تردد أو أحيانا دون استئذان.

كان حبها لا يطول الإنسان فقط، بل الحيوان أيضا. كانت دارها حديقة حيوانات صغيرة تعيش فيها القطط والحمام والسلاحف واليمام والأرانب. كانت لها قطة أهدتها اسم منية. محبوبة من كل سكان الحي مثل صاحبتها.

كانت الرسائل تفد من الفجاج البعيدة حاملة السلام والثناء الجميل إلى أمي الغالية ولا تغفل تحيتها وسؤالها عن منية. قطة ذكية لا تستجيب لأحد إذا ناداها ولا تطيع إلا أمي الغالية. حين كانت منية ترى صاحبتها قد عادت من حفل ما، وهي تلبس ثياب الاحتفال، تدرك أنها عادت ومعها شيء من الحلويات، التي من عادة النساء أن يجمعنها في منديل أثناء الحفل حتى ينال أولادهن نصيبا منها. فتلح منية وتدور من حولها وتموء ولا تدعها لحظة حتى تحصل على نصيبها هي الأخرى بالتساوي ودون تمييز بينها وبين الأولاد الآخرين. فلا غرابة في ذلك فأمي الغالية كانت تقول لأولادها: منية هي أختكم.

كانت في شخصية أمي الغالية شخصيات لا واحدة. كانت مرهفة الحس، لينة المشاعر تبكي لأقل حادث محزن، تبكي لألم غيرها ولمعاناتهم بكاء مريرا، تبكي بمشاعر إنسانية تزيدها حبا واحتراما. وتفرح لأفراح الناس وسعادتهم بدرجة عالية وابتهاج ثرّ حتى تسيل دموعها. وحين كان يحصل خطب جلل أو حادثة جادة يفقد على إثرها الحاضرون، نساء كنّ أم رجالا، وعيهم وثباتهم، تجدها رابطة الجأش، قوية الإرادة، ممسكة بزمام الأمور. كانت لها ثروة لغوية شعبية بلسان من اللطافة والتعبير الجميل كما يقول المثل: “لسان يعطى في الدية” أو “إذا وضع على الجرح يبرئ”.

اعقلها وتوكل

كانت امرأة عصرية ذات ثقة في نفسها وفي فعلها، تتقبل الجديد تغربله، تأخذ الإيجابي فيه وتدع قشوره ملقاة طعما لمرتع النسيان، من غير أن تفرط في القديم، الذي تتشبث بإيجابياته وتنفر من خوائه وترهاته.

لم تكن تأبه بما يقول الناس وإنما بما يمليه عليها ضميرها وحكمتها. ذات مرة أخذت زمام أمور عرس أحد أبناء الحي، الذي كانت تربطها بعائلته روابط أسرية قوية، وكانت عائلة العريس تنتمي إلى الطائفة الحمدوشية الدغوغية.

حين أمرت أمي الغالية ابنها البكر أن يكتري باسمها ثوب خيمة عريض (الباش) لتجعله غطاء فوق سطح المنزل، الذي ستقام فيه احتفالات العرس تحسبا لهطول المطر، لأن الفصل كان ربيعا، ارتأت أم العروس أن إجراء أمي الغالية الوقائي مبالغ فيه: “ببركة الله وسيدي أحمد الدغوغي لن يهطل المطر”. فردت أمي الغالية: “اعتمدي أنت على بركة سيدك احمد الدغوغي، أما أنا فسوف أعتمد على بركة الله وثوب الخيمة. واعقلها وتوكل”. وأثناء مجريات العرس جاء سيل من المطر القوي ولولا احتياطات أمي الغالية لتحول العرس إلى عصيدة.

كانت دارها لا تخلو من حفيدة أو حفيد جاء من مدينة بعيدة ليدرس في جامعة سيدي محمد بن عبد الله أو كما يسميها سكان فاس ظهر المهراس أو طالب تربطه صداقة بأحد أبنائها. فيتزايد اعتناؤها بهذا الطالب، تهيئ له أجواء راحة لا يسعه معها إلا الاهتمام بدراسته، ترافقه إلى النزهة، وإلى حضور عروض المسرح، مما يجعله بعد نهاية مرحلة دراسته والعودة إلى مدينته يفارق أمي الغالية على مضض، وهو يحمل معه ذكريات أيام أمي الغالية الجميلة، ناسجا حكايتها في أحاديثه، يرويها لأبنائه كإرث إنساني، مرددا مع إِيَاس بن الْقَائِف:

إذا زرت أرضا بعد طول اجتنابها * فقدت حبيبا والبلاد كما هي

hespress.com