للسينما سحرها الخاص. سحر لم ينج منه أحد ولج قاعة سينما، وخضع له وهو يتابع تفاصيل قصة توابلها من فاكهة الحلم لا علاقة له بواقعه: مسدس لا يفرغ فؤاده من خراطيش، وبطل يقاتل من أجل الانفراد بفاتنة، وعادل يطارد الحراميين…

سحر يمسك بروح كل الأجيال من الملصق إلى اللقطات التي تقبع خلف واجهة زجاجية ببهو كل قاعة سينمائية كأنما لتلهب خيال الصغار والشاب، فتدفع بهم إلى البحث عن ثمن التذكرة، كما قال أحدهم، “من الهند أو السند”.

من منا لم يحلم أن يصبح ممثلا، أن يؤدي أدوارا تشبه تلك التي يؤديها كبار الممثلين بالغرب الأمريكي؟ من لا يذكر ما قاله الفنان توفيق الحكيم في الموضوع، وكيف مثل وأصدقاء له لقطات وهم يحلمون بأن يصبحوا ممثلين؟ أما تمثل هوليود الذراع الثقافية الأمريكية عبر العالم، بالإضافة إلى المسلسلات التلفزيونية؟

ما سلم أنور مجيد من هذا السحر، خاصة أن طنجة احتضنت أولى القاعات السينمائية بالمملكة، ولذلك سحرته السينما وأمريكا، وهز كيانه الفيلم الأيقونة: “الطيب والشرس والقبيح” لسيرجيو ليوني، وشخصياته الثلاث المثيرة (بلوندي، وتوكو، وسينتنزا)، فقرر دراسة السينما، والوقوف على أسرارها ليصبح مخرجا.

رحل إلى أمريكا يعانق حلمه، والتحق بـ”مدرسة الفنون البصرية” بنيويورك، ودرس ما طاب له، لكن عصف بحلمه حب الأدب والفكر.. ثم يعصف الواقع بالأحلام والأوهام، بعد قرابة أربعة عقود، ويحط الرحال عند قناعة أن “أشهد أن لا وطن إلا المغرب”. ألا تكون أمريكا بلد الأوهام والخيبات؟

أمريكا التي افتقدتها..

لقد نشأت في الأراضي المغربية البعيدة، على الشاطئ الجنوبي لمضيق جبل طارق، وهو ممر مائي- وقد أخبرني به كبار السن الذين نكن لهم كامل المهابة، ويتمتعون بالرزانة والحلم- كان قد فتح أمام حركة الملاحة البحرية، والاتصال بين البشر، وأنواع أخرى من الاكتشافات لا يمكن تحديد عددها وطبيعتها، وذلك عندما قام هرقل بفصل أوروبا عن إفريقيا.

وقد بقي هرقل يخلد إلى الراحة في طنجة مثل جميع الآلهة القدامى والفنانين البوهيميين في العصر الحديث، ويتحدى سكان المدينة إلى الأبد أن يستطيعوا أن يرقوا إلى مستوى مآثره البطولية ووضعه غير التقليدي، وغير المسبوق.

عندما كنت طفلا كنت أحلم بالسفر إلى مساكن الشجعان، لذلك عندما رأيت بلوندي في فيلم سيرجيو ليوني، “الطيب والشرس والقبيح”، عرفت أني عثرت على مكاني المحدد.

حزمت حقائبي وسافرت على متن طائرة من شركة “إيبيريا” متوجهة إلى مدينة نيويورك. وما إن هبطت من السماء وجثمت على الأرض حتى عُرض عليّ فنجان من القهوة قبل مغادرة المكان.

فنجان زين بنقوش تتلاءم بشكل مناسب مع الموضوعات اليونانية. وكان جميع من يقدمون وجبات طعام العشاء في المطاعم ويديرونها أيضا يونانيين. كان العالم القديم قد وجد له مكانا في قلب صخب التفاحة (Apple) الجذابة والباذخة.

بيد أنني سرعان ما أدركت أنني ذهبت إلى أرض لم تطأها قدما هرقل أبدا. ولم يكن بإمكان الإله اليوناني أن يضاهي ناطحات السحاب وينافسها في المدينة؛ إلا كما يمكن لقرد مثل “كينغ كونغ” أن يتعامل مع أبراج بابل الأمريكية.

كان الناس في حالة نوبة جنون حادة، يطاردون المال والشهرة، ويهددون بدفع بعضهم البعض إلى الإفلاس والإفساد عبر توكيل محامين. وسمعت أن بعض سكان نيويورك من بروكلين وكوينز يتمتعون بقوى وسلطات أخرى.

كان كل واحد منهم يريد أن يفوز، ولا أحد يريد أن يخسر أو يموت. وأعلن مكتب بريد بفخر أنه “لا الثلج ولا المطر ولا الحرارة ولا كآبة الليل” يمكن أن توقف تسليم البريد أو تحول دون ذلك. وأعلنت أغنية شهيرة أن المدينة طائشة، لا تنام. كان الأمر مثيرا للانتباه.

ومرت السنوات وبدأت أسمع الحديث عن أشخاص يطالبون بمبالغ ضخمة من المال لحرق أنفسهم بالقهوة، والإلقاء بأنفسهم في فناء بيت أحدهم، والانزعاج من مجرد التعرض للمضايقة بسبب حدث من الأحداث.

إذا غرق شخص ما في المحيط، وجب سن قانون جديد. وهكذا تحمل الأميركيون التعساء، بالتدريج، مسؤولية ما يعتبره الآخرون المخاطر الطبيعية للحياة ومجازفاتها.

وهكذا ظهر تزمت أو تطهير جديد- لا علاق له بتطهير الروح- يحرم العيوب ويحظرها، ويدين كل الأخطاء، ويعاقب كل التعديات والتجاوزات. لقد ولد، من جديد، عالم من الفاتحين الغزاة الأقوياء كفردوس للملائكة.

ومن المفهوم أن الملائكة خاضوا الحرب على كافة الحماقات البشرية. ونشأ نظام عالمي جديد من الأحياء البرية وأحياء مدن البلد. وتم تشجيع الناس على الاعتراف بخطاياهم، ومراقبة كلماتهم، وإدانة أسلافهم والأجداد، وإدانة الحرب، والتكفير عن الذنب على مذبح السلام العالمي.

ولتجنب الوقوع بين الأشخاص الذين يختطفهم الموت، كان على المرء أن يتجنب التدخين، ويربط أحزمة السلامة أو الأمان، ويجري باستمرار في كل الاتجاهات ونحو العمل إلى الأبد، ويفقد الوزن، ويقتني المراهم الواقية من الشمس، ويحرص على تحديد مواعيد الفحوصات الطبية وجدولتها، وينخرط في نظام التأمين على الحياة، ويحرص على التأكيد على السلامة أولا. ثم وجب التعامل مع التحذيرات حول الإرهابيين، والسفر، والأعاصير كمراسيم إلهية.

لم يكن أحد متأكداً من العدد الصحيح والمعقول من الأطفال الذين يجب إنجابهم أو يعرف أحد ما يجب أن يأكله بالضبط. ولم تستطع هيئة محلفين مكونة من الخبراء اتخاذ قرار بشأن ما إذا كان استهلاك القهوة والنبيذ مفيدا للمواطنين.

وهجر الشباب الكنائس، ووشموا أجسادهم، فبدوا كأنهم ينتمون إلى قبيلة بدائية لم يسبق لهم أن قابلوا أفرادها أبدا. ووجد آخرون منابع الراحة والسكينة في تدخين الماريخوانا، وأدخلوا على أنفسهم الفرح بممارسة اليوغا. وتوقف الناس عن التسوق بالمتاجر، ولجؤوا إلى شراء الطعام عبر الإنترنت، بل إن البعض منهم خططوا لرحلات سياحية على ظهر كواكب أخرى.

أعلن أحد أساتذة جامعة هارفارد أننا نعيش في أفضل الأوقات حتى في الوقت الذي كان عانى فيه الكثير من الناس من حالات طويلة من الانهيارات العصبية منخفضة الشدة بسبب السياسات المتبعة. ووجد نفسه، سمسار عقارات وتاجر في نيويورك، وقد أصبح رئيسا لدولة، في قلب عاصفة شملت الروس، ونجوم الإباحية، وعارضات أزياء بمجلة “بلاي بوي”.

وقد فرض تعريفات جمركية، على أي حال، وصافح القائد الأعلى لكوريا الشمالية في سنغافورة. ووفقًا لقائمة متزايدة من التقارير، فقد ضل الرجال طريقهم ووجدوا بطلا جديدا في كندا كان على استعداد للتحديق في قوى الظلام من الفوضى.

وظهرت آلهة جديدة في عالم الإنترنت الغامض: إذا ضايقتها وأزعجتها أو حاولت أن تعبث بها سيسكنك جيش من الشياطين ويظل يطاردك. لا يوجد غفران في هذا العالم. أفعالك تتبعك حتى آخر الزمان.

بعد أكثر من ثمانية وثلاثين عاما من الانغماس في العيش في هذا الحلم، أدركت أنني وصلت إلى مفترق طرق آخر. كان الوقت ينفد وينضب، وكان أبطالي قد هلكوا أو تحولوا إلى مخلوقات ديزني. لقد تحولت أرضي الموعودة إلى أمة من المواطنين العاجزين والأشخاص المرتبكين الذين يحتاجون إلى التوجيه الدائم والمستمر.

لم يكن هذا مكان بلوندي. كان بإمكاني رؤيته ينضم إلى شريكه، الذي غيبه الموت، توكو في الحياة الآخرة، يدخن سيجاره في يوم الموتى، ويشكو المكسيكي من الأموال التي فقدها بعد أن فك قيود نفسه وشق طريقه للخروج من المقبرة. لن يقول بلوندي كلمة واحدة، بل يقدم فقط نفحة من العزاء إلى قاطع الطرق غير المحظوظ.

(هامش: يحكي الفيلم قصة ثلاثة رجال يبحثون عن صندوق يحتوي على 200.000 دولار من القطع الذهبية سرقت من جيش الجنوب خلال الحرب الأهلية. كان توكو يعرف أن الكنز يوجد بمقبرة، بينما يعرف جو الاسم المكتوب على شاهد القبر الذي يحتوي على الكنز. ويعرف كل من الطرفين أنه في حاجة إلى الآخر. لكن شخصا ثالثا دخل حلبة السباق: سينتنزا.. لا يتردد في قتل النساء والأطفال لبلوغ أهدافه).

hespress.com