قال عبد الكريم إبنوعتيق، وزير سابق وعضو مركز الدراسات الدبلوماسية والإستراتيجية بباريس، إن بريطانيا التحقت بالاتحاد الأوروبي سنة 1973 بجانب كل من إيرلندا والدانمارك. وفي يونيو 2016، عبّر الناخبون في بريطانيا عن رغبتهم في مغادرة الاتحاد الأوروبي بنسبة بلغت 52.9 في المائة، مذكّرا بأن “العلاقة بين لندن وبروكسيل شكلت قديما نقاشا مستمرا في أوساط النخب السياسية البريطانية، سواء داخل حزب المحافظين أو ضمن قيادات الحزب العمالي، هذا الجدال السياسي الدائم يتغير حسب المنعرجات التي تمر منها العلاقة مع الشريك الأوروبي”.

وتناول الكاتب ذاته، في مقال له بعنوان “البريكسيت أو أكثر من أربعين سنة من العلاقات الصعبة والمعقدة”، ما أسماه “المسار التاريخي الصعب” المرتبط بالعلاقات الملتبسة بين لندن وشركائها الأوروبيين، مذكّرا في هذا السياق بمجموعة من التواريخ المهمة في العلاقات الدولية بين سنتي 1950 و1975، قبل أن يتطرق لـ”بداية المواجهة” وما واكبها من تطورات منذ 1979 إلى 2017.

وتطرق عبد الكريم إبنوعتيق، ضمن المقال ذاته، إلى أهم ما عرفته الفترة بين الاستفتاء والتوصل إلى توقيع الاتفاق، خاصة على مستوى “انقسام في المجتمع البريطاني”، حيث أشار إلى أن “الاستفتاء أحدث حسب العارفين بالمجتمع البريطاني انقساما واضحا على المستوى الترابي والاجتماعي حيث تصدرت، في المدن الكبرى، أصوات الناخبين شرائح المطالبين بالبقاء ضمن حظيرة الاتحاد الأوروبي؛ في حين أن المدن الصغرى والمناطق القروية صوّتت بكثافة لصالح مغادرة المشروع الوحدوي الأوروبي”.

وهذا نص المقال:

في يونيو 2016، عبّر الناخبون في بريطانيا عن رغبتهم في مغادرة الاتحاد الأوروبي بنسبة بلغت 52.9%، واضعين بذلك حدا لعلاقة استمرت أكثر من أربعين سنة، بريطانيا التحقت بالاتحاد الأوروبي سنة 1973 بجانب كل من إيرلندا والدانمارك، بعدما رفعت فرنسا الفيتو ضد لندن عندما غادر الرئيس دوغول الحكم وحل محله جورج بومبيدو، الذي مهد الطريق لهذا الالتحاق. يجب التذكير هنا بأن بريطانيا لم تكن عضوا عاديا، بل كانت دائما شريكا صعبا داخل الاتحاد الأوروبي؛ فالعلاقة بين لندن وبروكسيل شكلت نقاشا مستمرا في أوساط النخب السياسية البريطانية، سواء داخل حزب المحافظين أو ضمن قيادات الحزب العمالي. هذا الجدال السياسي الدائم يتغير حسب المنعرجات التي تمر منها العلاقة مع الشريك الأوروبي.

حسب المادة 50 من اتفاقية لشبونة الموقعة من طرف أعضاء الاتحاد الأوروبي، فإن أيّ عضو عبّر عن رغبته مغادرة سفينة الوحدة الأوروبية مطالب بوضع طلب لدى هيئات الاتحاد مع الأخذ بعين الاعتبار أن مدة الحسم النهائي يجب أن لا تتعدى في أقصى تقدير سنتين. العلاقة الصعبة بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي أنتجت ملفات معقدة، لم يستطيع خبراء الطرفين الحسم فيها خلال المدة المطلوبة قانونا؛ وهو ما أدى إلى تأخر كاد أن يعصف بالتوازنات الكبرى ليس فقط التجارية بل كذلك الجيوإستراتيجية لكل القارة العجوز.

مسار تاريخي صعب

لنعد إلى تاريخ العلاقات الملتبسة بين لندن وشركائها الأوروبيين. خلال مرحلة الوزير الأول البريطاني كليمون أتلي Clement Attlee ، برزت إلى الوجود مبادرات أوروبية أدت إلى خلق ما يسمى بالمجموعة الأوروبية للفحم والحديد. آنذاك، أتلي اعتبر أن الشريك والحليف الوحيد لبريطانيا هي الولايات المتحدة الأمريكية وليست أوروبا؛ لكن لندن كانت تلمح بين الفينة والأخرى إلى أنها مستعدة للانخراط في عمل وحدوي شريطة التوفر على موقع خاص وبضمانات استثنائية.

جون موني Jean Monnet ، وزير خارجية فرنسا والذي كان في قلب مسلسل المفاوضات الأولى لبناء الاتحاد الأوروبي، أعلن الحرب على لغة الامتيازات رافضا أي تنازل، معتبرا أن الدول الراغبة في الانخراط في المبادرات الجنينية الأولى لها نفس الحقوق وعليها نفس الواجبات، وأن المفاوضات هي السبيل الوحيد للوصول إلى توافقات متفق عليها ومقبولة من طرف الجميع.

في بداية يونيو 1950، جون موني توصل إلى اتفاق مع مجموعة من الدول الأوروبية، أصدروا بلاغا مشتركا تضمن مقترح مشروع ميثاق أوروبي يعرض للمصادقة على برلمانات الدول المساهمة في صياغة هذا الميثاق.

في 3 يونيو من السنة نفسها، أعلنت ست دول أوروبية عن موافقتها على تأسيس ما سمي فيما بعد بالمجموعة الأوروبية للفحم والحديد؛ هذه الدول هي: فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولاندا ثم الليكسمبورغ.

الجواب البريطاني كان سياسيا، صدر في 13 يونيو 1950 من طرف الحزب العمالي، هذا الأخير رفض المبادرة الوحدوية معتبرا منطلقاتها بعيدة عن المرتكزات الاشتراكية، مضيفا بأن الأولوية يجب أن تعطى للعلاقة القائمة مع دول الكومنويلث والولايات المتحدة الأمريكية.

خلال الولاية الثانية للشخصية الكاريزمية ونستون تشرشلWinston Churchill والتي استمرت ما بين 1951 إلى 1955، ظهرت مبادرة أطلق عليها مشروع “إذن” Eden ” انطلاقا من صاحبها أنطوني إذن Anthony Eden ” ، وزير خارجية بريطانيا، والمقدمة بمناسبة الاجتماع العاشر لمجلس وزراء الدول الست المنعقد في 19 مارس 1952. بعد دراسة المشروع، أقر الجميع بأن الحكومة البريطانية غير جدية في التعامل مع المشروع الوحدوي الأوروبي.

في سنة 1955، سيصبح أنطوني إذن سيصبح وزيرا أول لبريطانيا، أزمة قناة السويس والخلاف الجوهري مع الولايات المتحدة الأمريكية سيدفع المسؤول البريطاني إلى إعادة قراءة العلاقات مع الجيران الأوروبيين، لا سيما أن خلفه على رأس الحكومة البريطانية سنة 1957، هارولد ماكملان Harold Macmillan ، سيعيش لحظة أساسية ضمن البناء المؤسساتي الأوروبي، ونقصد بذلك ظهور ما سمي آنذاك بالاتحاد الاقتصادي الأوروبي، ثم بروز هيئة الاتحاد الأوروبي الخاصة بالطاقة النووية. بعد ذلك، جاء التوقيع على ميثاق روما في 25 مارس 1957 من طرف الدول الست المؤسسة والمتحكمة في البناء الأوروبي الجديد.

من هنا، لاحظ ماكملان أن لندن قد تتعرض لعزلة في محيطها الأوروبي، خاصة في سياق جيو إستراتيجي تميز ببداية العد العكسي لنهاية المرحلة الاستعمارية.

انطلاقا من هذه الخلفيات، تقدم بأول طلب للانخراط في غشت 1961، بدعم من الحكومة ومن حزب المحافظين وبموافقة مجلس العموم البريطاني. في 3 غشت من السنة نفسها، انطلقت المفاوضات بين الجانبين في ظروف صعبة؛ ذلك أن بريطانيا ظلت متشبثة بمسألة الاستثناءات فيما يخص الرسوم الجمركية حفاظا على علاقتها مع دول الكومنويلت، خمس دول مؤسسة للنواة الأولى للمبادرة الوحدوية الأوروبية أظهرت ليونة في شروط التفاوض لالتحاق لندن بمشروع الشراكة الأوروبية، باريس عارضت ذلك بواسطة فيتو رئيس الجمهورية الجنيرال دوغول في 14 يناير 1963.

رئيس الوزراء هارول ويلسون Harol Wilson ، الذي ترأس الجهاز التنفيذي البريطاني ما بين 1964 و1970، قدم طلبا جديدا للانخراط في المجموعة الأوروبية. بدأ سلسلة مفاوضات مع الدول الست الأعضاء. في 26 ماي 1967، الرئيس الفرنسي شارل دوغول يعلن بأن باريس لا رغبة لها في اتخاذ قرار فيتو ثانٍ ضد التحاق لندن بمبادرة الشراكة الأوروبية. وفي سنة 1969، فرنسا تنتخب رئيسا جديدا هو جورج بونبيدو Georges Pompidou ، هذا الأخير بمجرد تسلمه السلطة ودخوله قصر الإيليزي، شجع لندن على استئناف المفاوضات للالتحاق بالمشروع الوحدوي الأوروبي. لم يقتصر على ذلك؛ بل إن القمة الأوروبية المنعقدة في بداية دجنبر 1969 بلاهاي عبّرت علانية عن دعم فكرة توسيع المشروع الأوروبي ليشمل دولا أخرى، منها بريطانيا.

المفاوضات انطلقت تحت إشراف رئيس الحكومة إيدوارد هورت Edward Heath خلال فترة ولايته ما بين 1970 و1974. في 28 أكتوبر 1971، مجلس العموم البريطاني يعطي الضوء الأخضر لانخراط بريطانيا في المجموعة الأوروبية وسط انقسام في أوساط الرأي العام بين مؤيد ومعارض. في 22 يناير 1972، رئيس الحكومة إيدوارد هورد يوقع على مرسوم الالتحاق بدون أي استشارة استفتائية، بالرغم من أن استطلاعا للرأي أنجزته مؤسسة “غالوب” ” Gallup ” سنة 1970 أكد أن 55% من البريطانيين لا يرغبون في الانضمام إلى المجموعة الأوروبية. لندن التحقت رسميا بالمجموعة الأوروبية في يناير 1973، بالرغم من رفض عدد كبير من السياسيين؛ وهو ما اضطر هارولد ويلسون، الذي عاد إلى رئاسة الحكومة، إلى الإعلان سنة 1975 على تنظيم استفتاء لمعرفة هل البلد سيبقى في الاتحاد الأوروبي أم سيغادره. وبالفعل، التزم بوعده وقاد حملة نعم تاركا لوزرائه حرية التعبير عن اختياراتهم خلال الحملة الاستفتائية. من أهم رموز الحزب العمالي الرافضة آنذاك البقاء في الاتحاد نجد طوني بن Tony Benn ، وزير الصناعة رفقة وزير التشغيل مكائيل فوت Michael Foot . النتائج كانت واضحة انتصار الداعمين للبقاء ضمن حظيرة المجموعة الأوروبية بـ67 في المائة مقابل 33 في المائة. تجب الإشارة هنا إلى أن صناع القرار في لندن انتظروا سنتين بعد دخولهم لتنظيم هذا الاستفتاء الشعبي، مما يؤكد الارتباك الحاصل آنذاك داخل أوساط النخب السياسية، بيمينها ويسارها. زد على هذا، أن دخول البريطانيين إلى السوق الأوروبية المشتركة تزامن مع نهاية المرحلة الذهبية لتطور اقتصاديات أوروبا.

بداية المواجهة

خلال ولاية ماركاريت تاتشر Margaret Thatcher ما بين 1979 و1990، لاحظت المرأة الحديدية أن المساهمة البريطانية في ميزانية الاتحاد الأوروبي تفوق بكثير ما تتلقاه لندن من تمويلات لقطاعات أساسية خاصة الفلاحة، هذا ما عبرت عنه في اجتماع القمة الأوروبية أيام 29 و30 نونبر 1979 بدوبلان، بمداخلتها الشهيرة ” I want my money Back ” محققة أول مكتسب يقضي بتخفيض مساهمة بريطانيا في ميزانية الاتحاد الأوروبي.

منعرج آخر قادته تاتشر داخل المجال الأوروبي، تجلى ذلك في تأثيرها لإعادة صياغة ميثاق الوحدة الأوروبية، محاولة فرض رؤية نيو ليبرالية خوفا من أن يتحول الاتحاد إلى دولة فيدرالية مما يتنافى مع خياراتها السياسية والاقتصادية.

ما بين 1990 و1997 وخلال ولاية جون ميجر John Major ، جرى التوقيع في 7 فبراير 1992 على اتفاقية “ماستريخت”، تستطاع رئيس الوزراء البريطاني التفاوض على مجموعة من الاستثناءات على المستويين الاجتماعي والنقدي؛ فقد رفضت بريطانيا الانخراط في العملة الموحدة الأورو مفضلة الحفاظ على عملتها الوطنية. كما فاوض مايجر على إزاحة مفهوم “أوروبا الفيدرالية”، مطالبا ببقاء السياسة الخارجية والدفاع ضمن المجالات السيادية الخاضعة للتعاون بين الحكومات الأوروبية دون تدخل بروكسيل، وصل الأمر برئيس وزراء بريطانيا إلى رفض سنة 1994 تعيين جون لوك ديان Jean-Luc Dehaene رئيسا للمفوضية الأوروبية، نظرا لإيمان هذا الأخير بأوروبا ذات عمق فيدرالي.

طيلة التسعينيات من القرن الماضي، ظلت بريطانيا تشكل حسب الملاحظين والمختصين عائقا أمام اندماج أوربي حقيقي.

ما بين سنة 1997 و2007، حزب العمال يعود إلى الحكم، طوني بليير Tony Blair حاول الحفاظ على علاقات جيدة مع بروكسيل، مركزا على ضرورة مفاوضات جديدة حول ميزانية الاتحاد، لا سيما الشطر المتعلق بالسياسة الفلاحية المشتركة التي تستفيد منها دول على حساب أخرى؛ لكن عندما تولى دافيد كاميرون David Cameron دفة الحكم سنة 2010 مواقف لندن أصبحت أكثر تشددا اتجاه الاتحاد الأوروبي. رفض كاميرون التوقيع على ميثاق الميزانية المصادق عليه من طرف المجلس الأوروبي المنعقد في 9 دجنبر 2011 مهددا سنة 2013، باستعمال الفيتو ضد ميزانية الاتحاد الأوروبي لسنوات 2011 / 2020.

بعد ذلك، أعلن أنه في حالة استحالة القيام بإصلاحات عميقة تمس مؤسسات وهياكل الاتحاد الأوروبي بأجمعها فإنه سيضطر إذا ما تم إعادة انتخابه سنة 2015 إلى استشارة الشعب البريطاني حول البقاء أو مغادرة سفينة بروكسيل. البعض اعتقد آنذاك أنها مجرد إستراتيجية انتخابية الهدف منها البحث عن أغلبية منسجمة داخل حزب المحافظين، ثم الوقوف أمام المد الصاعد لحزب ” UKIP” ” United Kingdom Independence Party ” المعارض لتوجهات الاتحاد الأوروبي والمنافس الشرس لحزب المحافظين.

قبل ذلك في ماي 2013، حزب المحافظين يقدم مقترح قانون حول الاستفتاء لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هذا المشروع المدعم من طرف رئيس الوزراء دافيد كامرون لم يستطع الحصول على الدعم نظرا لتحفظ الحزب العمالي بالإضافة إلى الليبراليين الديمقراطيين. جواب بروكسيل على هذه المبادرة هو تقديم طلب للحكومة البريطانية للمساهمة في ميزانية الاتحاد بمليارين من الأورو. رئيس حكومة بريطانيا رفض ذلك معتبرا أن الأمر غير مقبول، مؤكدا أن لندن لن تلتزم بدفع ما قرره صناع القرار داخل الاتحاد الأوروبي، هذا الموقف المتشدد من طرف كامرون خلق تعاطفا كبيرا في أوساط الناخبين، بحيث استطاع حزب المحافظين الحصول على أغلبية مريحة في انتخابات 7 ماي 2015.

من هنا، اقتنع الوزير الأول بضرورة الالتزام بالوعد الانتخابي المتمثل في تنظيم استفتاء شعبي حول البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي، هذا ما حصل عندما قدمت الحكومة البريطانية في 28 ماي 2015 مشروع قانون لتنظيم الاستفتاء مع تحديد تاريخ 23 يونيو 2016 يوما للاقتراع. النتائج النهائية لهذه الاستشارة الشعبية أكدت أن 51.9 في المائة من البريطانيين يحبذون مغادرة بروكسيل. رئيس الوزراء التزم باحترام إرادة الشعب البريطاني، مقدما استقالته تاركا لمن سيأتي بعده مسؤولية تحضير شروط الانسحاب النهائي من الاتحاد الأوروبي. في هذه الفترة، حزب المحافظين يختار تريزا ماي Theresa May ، وزيرة الداخلية السابقة، رئيسة للحكومة البريطانية. هذه الأخيرة بمجرد تحمل مسؤولياتها التنفيذية صرحت بأن الانسحاب يجب أن يكون شاملا، بدءا من السوق الأوروبية المشتركة مرورا بالاتحاد الجمركي وصولا إلى محكمة العدل الأوروبية، مؤكدة أن مجلس العموم البريطاني مطالب هو الآخر بالتصويت على عملية “البريكسيت”.

في 26 يناير 2017، رئيسة الوزراء تقوم بزيارة لواشنطن تلتقي خلالها بالرئيس الأمريكي ترامب المتحمس والمدعم لعميلة “البركسيت”.
في خضم هذه الأحداث، البرلمان البريطاني يصوّت على مشروع القانون الذي يسمح للحكومة بتفعيل المادة 50 من ميثاق الوحدة الأوروبية بأغلبية مطلقة وصلت إلى 494 صوتا مقابل 122.

بين الاستفتاء والتوصل إلى توقيع الاتفاق، انقسام في المجتمع البريطاني

الاستفتاء أحدث، حسب العارفين بالمجتمع البريطاني، انقساما واضحا على المستويين الترابي والاجتماعي؛ ففي المدن الكبرى، تصدرت أصوات الناخبين شرائح المطالبين بالبقاء ضمن حظيرة الاتحاد الأوروبي. في حين أن المدن الصغرى والمناطق القروية صوتت بكثافة لصالح مغادرة المشروع الوحدوي الأوروبي. بالإضافة إلى هذا الانقسام السوسيو عمراني، هناك كذلك شرخ على مستوى الفئات العمرية؛ ذلك أن أقل من 45 سنة، لا سيما ما بين 18 و24 سنة، صوتوا لصالح ” Remain ” أي البقاء في الاتحاد. في حين أن الفئة العمرية لأكثر من 65 سنة، كانت متحمسة لمغادرة الاتحاد بكل مؤسساته ” Le Leave ” أي الخروج. كذلك الأطر العليا الذين يمثلون الفئات المتوسطة لسكان الأحياء الراقية صوتوا لصالح البقاء، عكس سكان المناطق المعروفة بكثافة عمالية وبحضور قوي لأحياء السكن الاجتماعي صوتوا من أجل مغادرة الاتحاد الأوروبي.

وأخيرا البريطانيون ذوو الأصول الأجنبية المختلفة جزء كبير منهم تعبئوا لصالح البقاء ضمن حظيرة الشراكة الأوروبية، زد على هذا أن الحملة الاستفتائية انصبت أساسا على مواضيع خلافية تهم بالخصوص قضايا الهجرة والمشاكل الاقتصادية ثم إشكالية الهوية.

ثلاثة اتجاهات برزت إلى الوجود خلال الحملة الانتخابية: تيار مدافع عن “البريكسيت” معارض لمبدأ السوق الأوروبية المشتركة، رافض لكل مؤسسة الاتحاد، يطالب بوضع يشبه الوضع الحالي للدولة السويسرية.

ثم اتجاه ثانٍ يلح على ضرورة القطيعة مع المشروع الأوروبي، يتبنى ثقافة حماية الحدود الوطنية، معارض لكل أنواع الهجرة، له خطاب شعبوي يعتمد على زرع الشك والخوف في أوساط المواطنين، لا سيما الفئات الهشة اقتصاديا واجتماعيا.

وأخيرا مقاربة تمثل الاتجاه الثالث برزت مع بوريس جونسون، الوزير الأول الحالي، تعتمد على براغماتية نيو ليبرالية بخطاب تقنوقراطي تعتبر الاتحاد الأوروبي بنية بيروقراطية جامدة غير قادرة على مسايرة الديناميكية الاقتصادية. هذه الأخيرة يجب أن ترتكز في نظرهم على قليل من الدولة، وذلك بإتاحة الفرصة لمنافسة قوية مع التركيز على توقيع اتفاقيات تجارية صالحة لكل الأطراف تعتمد على مبدأ المناقشة الصريحة والشفافة دفاعا على مصالح كل الأطراف.

منذ استفتاء البريكسيت في يونيو 2016 إلى حدود إيجاد اتفاق بين الطرفين في 24 دجنبر من السنة الماضية، أربع سنوات ونصف السنة من المفاوضات الصعبة والشاقة في جل الأحيان، ثلاثة رؤساء حكومات ببريطانية تعاقبوا على الحكم قبل هذا الاتفاق، رئيس المفوضية الأوروبية السابق جون كلود جانكير Jean-Claude Junkerهو من اقترح الفرنسي ميشال بارني Michel Barnier على رأس الفريق الأوروبي لقيادة المفاوضات مع الجانب البريطاني، هذا الأخير يعرف جيدا خريطة الحكم في لندن، هو الذي أشرف باسم بروكسيل على وضع اللمسات النهائية على مشروع تقنين القطاع المالي والبنكي الأوروبي بعد أزمة 2008، كان وزيرا للفلاحة ثم وزيرا للخارجية في فرنسا، محسوب على الاتجاه المرتبط بإرث ومرجعية الجنيرال دوغول، يميني معتدل له علاقات جيدة مع مجموعة من رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي، الجانب البريطاني وبعد استقالة دافيد كامرون الذي تعرض بالمناسبة حسب الملاحظين لضربة سياسية موجعة، ذلك أنه دعم طيلة حملة الاستفتاء بقاء بريطانيا في حظيرة المجموعة الأوروبية، إلا أن الجناح المؤيد لخروج لندن والطلاق مع بروكسيل بقيادة كل من بوريس جونسن قبل أن يكون وزيرا أول ومكايل كوف لم يتوقعا الانتصار الاستفتائي، بدليل عدم توفرهم على أي مشروع لمواجهة مرحلة المفاوضات، لذلك فضلا ترك المجال لتريزا ماي والتي سقطت بدورها في ارتباك سياسي بعدما أعلنت عن تنظيم انتخابات سابقة لأوانها معتقدة أنها ستحصل على أغلبية مريحة تساعدها على تمرير مشروع “البريكست”.

النتيجة كانت عكسية، بحيث تقوى حزب العمال وأصبحت هي سجينة لأحزاب عديدة تحتاجها لتكوين أغلبية داعمة لحكومتها.

عندما وصل بوريس جونسون إلى قيادة الجهاز التنفيذي في بريطانيا، تصرف بتشدد لكن برؤية برغماتية منطلقا من مرجعياته النيو ليبرالية البعيدة عن الدوغمائية الإيديولوجية، هدفه تحقق عندما أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية الألمانية إيرسولا فاندر ليين” ” Ursula Vonder Leyen ” عن التوصل إلى اتفاق تبادل حر بين بروكسيل ولندن والذي أعتبر تاريخيا بكل المقاييس، 700 مليار أورو هي قيمة المبادلات التجارية السنوية التي ستترتب عن هذا الاتفاق والذي يعد حسب المختصين الأول من نوعه بين الاتحاد الأوروبي وشركاء آخرين. الطرفان في نهاية المطاف توصلا إلى توافق متجاوزين النقط الخلافية والتي تمحورت أساسا حول تخوف الأوروبيين من منافسة بريطانية تجارية غير متساوية، وبالتالي ضرورة التزام لندن بالمعايير الاجتماعية والبيئية المطبقة في دول الاتحاد الأوروبي. الخلاف الثاني تمثل في ضرورة معالجة إشكالية الصيد البحري الذي يعد اقتصاديا مسألة رمزية لا تتعدى قيمتها 650 مليون أورو، بحيث لا يشكل هذا القطاع إلا 0.1 في المائة من الناتج الداخلي الخام في بريطانيا و1.5 في المائة من الناتج الداخلي الخام لدول الاتحاد الأوروبي؛ لكنه ملف يحمل في طياته دلالات سياسية، فبريطانيا كانت تطالب بسيادة كاملة على خيراتها البحرية، في حين أن الأوروبيين فاوضوا بشراسة حتى لا تتحول المياه البريطانية المليئة ببعض أنواع الأسماك إلى فضاء صيد بريطاني محض.

في نهاية المطاف الاتفاق الموقع أكد أن 25 في المائة من الأسماك المصطادة ولمدة 5 سنوات ونصف السنة ستبقى لصالح لندن، هذه الأخيرة كانت تطالب بنسبة 60 في المائة. في مجال آخر، الاتحاد الأوروبي سيسمح بدخول السلع البريطانية إلى أسواقه بدون تعريفة جمركية وبدون كوطة محددة سلفا؛ لكن بعودة الإجراءات الجمركية التي تم إلغاؤها منذ سنة 1993. يجب التأكيد هنا على أن السوق الأوروبية تتعدى 450 مليون مستهلك مع التذكير أن 54 في المائة من الصادرات البريطانية تتوجه أساسا نحو الأسواق الأوروبية، نهاية حرية التنقل بين الفضاء الأوروبي وبريطانيا ابتداء من فاتح يناير 2021. الأوروبيون مطالبون بالتوفر على عقد عمل وعلى أجر سنوي يتعدى 29.500 أورو، أما بالنسبة لأربعة ملايين من الأوروبيين المقيمين ببريطانيا فإنهم حسب الاتفاق سيحتفظون بمناصب شغلهم وبإقامتهم ونفس الشيء بالنسبة للبريطانيين، نهاية ما كان يسمى بالجواز المالي الأوروبي، الذي كان يميز ويعطي قوة تنافسية لأول مركز مالي في أوروبا ونقصد بذلك لندن.

من هنا، فإن المؤسسات المالية والبنكية الموجودة في مركز لندن لا تستطيع بيع منتوجاتها ابتداء من فاتح يناير الحالي، مما يعني أن البنوك وصناديق الاستثمار مطالبة بفتح مقرات جديدة لها في دول الاتحاد الأوروبي، مع العلم أن المركز المالي في لندن يشغل حاليا أكثر من عشرة ألاف إطار.

على المستوى المعرفي والعلمي، طلبة الاتحاد الأوروبي ملزمون ابتداء من فاتح يناير الحالي بتأدية رسوم التسجيل في المدارس والمعاهد الجامعية البريطانية.

الاتحاد الأوروبي خرج بانتصار مستقبلي من المفاوضات مع بريطانيا، العديد كان يتوقع أزمة داخلية قد تعصف بمكتسبات الوحدة الأوروبية، العكس هو الذي حصل كل الدول الأعضاء فضلوا التكتل وراء الفريق المفاوض، كانوا على وعي بأن الخلافات حول الملفات الحساسة مثل الهجرة ما زالت حاضرة بقوة في أدهان الرأي العام الأوروبي، وبالتالي كل عمل فردي أو أحادي قد يؤدي إلى إضعاف المشروع الوحدوي، عملية البريكسيت جعلت بروكسيل تعجل بالموافقة الأولية على الاتفاق مع بكين حول دخول الاستثمارات الأوروبية للأسواق الصينية.

hespress.com