أكره التلفزيون وأحب السينما. أقول هذا هكذا بشكل واضح ومباشر. ويمكنني أن أزعم أكثر من ذلك أن علاقتي بالحياة ذاتها تمر عبر السينما. كل شيء في السينما جميل، وممتع بشكل لا يقاوم، حتى الكتابة عنها.
إن السينما هي أحد أوجه الحضارة المعاصرة. وهي أحد المؤشرات التي يقاس بها تقدم المجتمعات. فلا يمكن تصور سينما متطورة في مجتمع متخلف. تطور السينما رهين بتطور المجتمع والاقتصاد والسياسة. تاريخ السينما شاهد على ذلك. وإذا ظهر فيلم كبير سينمائيا في أحد بلدان الجنوب فإنه يبقى استثناء وليس قاعدة.
ثم إن القاعات السينمائية الهامة والكبرى توجد في الدول المتقدمة خاصة في تلك التي تتوفر على تقاليد سينمائية راسخة وتزداد ترسخا. في بلدان الجنوب تبقى القاعات السينمائية محدودة جدا، سواء من حيث عددها، أو من حيث طاقتها الاستيعابية. وأخشى ما يخشاه السينوفيلي في هذه المجتمعات أن يأتي يوم يجد فيه القاعات السينمائية التي أعتاد على ارتيادها قد أغلقت أبوابها دون سابق إعلان.
إن الأفلام السينمائية تُنتج لتعرض في القاعات السينمائية، لكن في المغرب، كما في غيره من بلدان الجنوب، تقل القاعات السينمائية بل وتنعدم في الكثير من المدن خاصة الصغيرة منها والمتوسطة. ففي مدينة ورزازات، وهي توصف عادة بأنها “هوليود المغرب”، لكون الكثير من الأفلام السينمائية العالمية صورت في رحابها، لا توجد فيها، في الوقت الراهن، أي قاعة سينمائية تفتح أبوابها أمام الجمهور. أقصد قبل حلول كورونا.
وبالموازاة مع ذلك هناك انتشار يزداد حدة، وشيئا فشيئا، لظاهرة القرصنة، التي أصبحت سوقا بضاعتها رائجة. يُمكنك ببساطة، بفضل القراصنة الجدد، أن تشاهد أفلاما بعضها لا يزال في يوم عرضه العالمي الأول. هذه الظاهرة، في الواقع، هي جريمة يعاقب عليها القانون، لكنها ظاهرة، رغم سلبياتها، لها، في نظر المدافعين عنها والمتعاطفين مع أصحابها، ميزتان إيجابيتان على الأقل: أولهما أنها تتيح لمحدودي الدخل مشاهدة أفلام عالمية بأثمنة بخسة، وثانيهما أنها تجعل رقابة السلطة على محتوى الأفلام دون جدوى. فحتى الأفلام الممنوعة تُباع في أسواق القرصنة، لأن هذا السوق، في حد ذاته، غير قانوني.
في الواقع، إن المتضرر كثيرا من سوق القرصنة هو الأفلام السينمائية الوطنية على قلتها، أما الأفلام السينمائية الدولية فأسواقها الكبرى لا توجد في بلدان الجنوب ولذلك فهي لا تتأثر كثيرا بنشاط القراصنة. بعض الأفلام، في الولايات المتحدة مثلا، تسترجع المبالغ التي صُرفت في إنتاجها، وكذا مبالغ ربح ضخمة في الأيام الأولى من عرضها. وطبعا هذا القول هو للتذكير فقط، وليس مبررا لقرصنة الأفلام بشكل خاص، وكل الأعمال الفنية الأخرى بشكل عام.
وتحتاج السينما إلى النقد. النقد يساهم في تطور السينما وازدهارها. النُقَاد هم الذين يحددون القيمة الفنية-الجمالية للفيلم. وهم بذلك يوجدون في منتصف الطريق بين الفيلم وجمهوره. وبوسعهم أن يساعدوا الناس على اختيار الأفلام الجيدة، وبوسعهم أيضا دفع السينمائيين إلى تطوير قدراتهم وإلى تجديد أدوات اشتغالهم. النقد السينمائي، في الوقت الراهن، يحتاج بدوره إلى نقد. والحال لا يخص النقد السينمائي وحده، وإنما يشمل النقد الفني بشكل عام، سواء تعلق الأمر بالنقد الموسيقي، أو النقد الأدبي، أو النقد التشكيلي.
أضف إلى ذلك أن الجمهور بات عنصرا فاعلا وفعَالا في الصناعة السينمائية. إن تذاكر السينما يحسب لها حسابات دقيقة من قبل صُناع السينما. لا يهم أحيانا إلا النجاح الجماهيري. كل صناعة تهدف إلى الربح، وصناعة السينما ليست استثناء. لا أعتقد أن هناك مُخرجا لا يضع في حسبانه أبدا شباك التذاكر.
وكأي بضاعة تُعرض على الناس بات من اللازم على صُناع السينما أن يعتمدوا على سياسة تسويقية مُحكمة، يشرف عليها خبراء يتفننون في دفع الناس دفعا إلى القاعات السينمائية. وهم يجددون على الدوام وسائلهم، وآليات اشتغالهم، للوصول إلى أكبر قدر من الناس/الجمهور. لكل هذا وغيره توجد أفلام ضعيفة سينمائيا لكنها ناجحة جماهيريا، وتحسب أرباحها بملايين الدولارات. وبالمقابل هناك أفلام سينمائية تتوفر فيها مقومات تقنية وفنية كثيرة لكنها، لسبب ما، قد يكون هو ضعف عملية التسويق أو فشلها، لا تنال حظها من النجاح (المادي طبعا).
كما أن الجوائز السينمائية العالمية ليست بريئة دائما. في بعض الأحيان على الأقل، يُسجل تدخل كبير لشركات الإنتاج الكبرى للتأثير، بطريقة أو بأخرى، في قرارات الاختيار، وفي تحديد الفائزين بالجوائز، إضافة طبعا إلى الحسابات السياسية، التي تؤثر، إلى هذا الحد أو ذاك، في الاختيارات. والرجوع إلى تاريخ المهرجانات السينمائية العالمية يوضح هذه العلاقة الملتبسة بين السينما والسياسة.
ومن المعلوم أن ثمة فرقا كبيرا بين أن تقرأ السينما وأن تُشاهد السينما. القراءة تفكير وبحث والمشاهدة تلذذ ومتعة. القارئ المحب للسينما يعرف بشكل مسبق أن أي قراءة يقدمها لأي فيلم هي قراءة ممكنة، تُحاول أن تضع الفيلم في سياقاته المختلفة، وتناقشه من زوايا متنوعة، وتناقش به ومن خلاله أفلاما أخرى، وتثير قضايا مختلفة. وباختصار، هي قراءة شغوفة تتلذذ بالفيلم، ويحدوها طموح العمق والشمولية، لكنها لا تدعيهما.
ومن المعلوم أيضا أن الأفلام القديمة لا تُعرض في القاعات السينمائية لأن الهاجس الطاغي هو الجديد. ويوجد بين الباحثين من يتحدث عن “باطولوجيا الجديد”. الجديد في كل شيء هو المطلوب: في الموضة والموسيقى… والسينما. ولا أعرف بالضبط لماذا لا يُعاد، بين الفينة والأخرى على الأقل، عرض الأفلام القديمة في القاعات السينمائية، خاصة تلك التي تُعتبر تحفا سينمائية، وهي دون شك كثيرة؟!
بيد أن بعض الأفلام القديمة تُعرض في بعض المناسبات، كما في المهرجانات الكبرى، حيث يتم الاحتفاء بممثل معين، أو بمخرج معين، من خلال عرض بعض أفلامه. البعض من هؤلاء الممثلين أو المخرجين المُحتفى بهم، تُمنح لهم جوائز على مجمل أعمالهم، والبعض الآخر يُحتفى بهم بعد موتهم. إن إنشاء قاعات للسينما خاصة بالأفلام القديمة يبدو مشروعا متفائلا. آمل تحققه في يوم من الأيام. وبما أن هذا المشروع لم يُفعَل بعد، فإنه لا بأس في أن تُشاهد الأفلام السينمائية القديمة على أقراص “د ف د” (DVD)، في بيتك وحدك، أو مع من يتقاسم معك حب الحياة، وحب الناس، وحب الخير، وحب السينما.
وفي جميع الحالات عندما تشاهد فيلما سينمائيا وتحبه، ويدفعك الشغف به إلى إعادة مشاهداته، فاعلم أننا، حتى وإن لم نكن على معرفة مسبقة، قد صرنا، أنا وأنت، أصدقاء، بل إخوة في السينما.