قال عبد الكريم ابنوعتيق، الوزير السابق، وعضو مركز الدراسات الدبلوماسية والإستراتيجية بباريس، إن “عودة روسيا إلى القارة الإفريقية شكلت منعرجا جديدا في مقاربة موسكو للتعاطي مع التحولات الجارية على المستوى الكوني”، مشيرا إلى أنه “رغم محدودية الآليات الميدانية لترجمة هذه المقاربة على أرض الواقع إلا أن طموحات روسيا بدأت تنمو وتتضح بشكل جلي انطلاقا من القمة الروسية الإفريقية المنعقدة بسوشي في أكتوبر 2019”.

وأضاف المتحدث ذاته، في مقال له بعنوان “عودة روسيا لإفريقيا: تموقع مؤقت أم اختيار إستراتيجي؟”، أن “عودة روسيا إلى القارة الإفريقية، بعد غياب دام على الأقل ثلاثين سنة، قد تؤدي إلى إعادة ترتيب مجموعة من الأوراق في القارة السمراء”.

وتطرق ابنوعتيق للموضوع من خلال مجموعة من المحاور، من بينها “ديناميكية جديدة بمقاربة مغايرة”، و”رهان موسكو على محور القاهرة”، و”روسيا والصين في القارة الإفريقية: تكامل أم منافسة؟”، قبل أن يختم مقاله بالإشارة إلى أنه “عندما أعلنت روسيا رغبتها في العودة إلى القارة الإفريقية فهي حسب المتتبعين محاولة لاستنساخ النموذج الصيني، لكن بفارق أساسي هو أن القمة الروسية الإفريقية لم تعرف التوقيع على مشاريع كبرى، بل تم الاقتصار على التعبير عن النوايا ذات الطابع السياسي المحض”.

وهذا نص المقال:

عودة روسيا إلى القارة الإفريقية شكلت منعرجا جديدا في مقاربة موسكو للتعاطي مع التحولات الجارية على المستوى الكوني، ورغم من محدودية الآليات الميدانية لترجمة هذه المقاربة على أرض الواقع، إلا أن طموحات روسيا بدأت تنمو وتتضح بشكل جلي، انطلاقا من القمة الروسية الإفريقية المنعقدة “بسوشي” في أكتوبر 2019. يجب التأكيد هنا أن هذه العودة بعد غياب دام على الأقل ثلاثين سنة قد تؤدي إلى إعادة ترتيب مجموعة من الأوراق في القارة السمراء، فخلال مرحلة الحرب الباردة كان الاتحاد السوفياتي سابقا حاضرا بقوة، داعما للحكومات الموالية آنذاك للمعسكر الشرقي. ومعلوم أن الروس استفادوا من مرحلة نهاية الاستعمار بشكل متأخر في بعض المناطق، لاسيما تلك التي كانت خاضعة للوجود البرتغالي، مثل أنغولا وموزنبيق وغينيا بساو والرأس الأخضر؛ وذلك بدعم الاتجاهات الماركسية اللينينية أو بتدريب أطر الحزب الوطني الإفريقي “ANC” بإفريقيا الجنوبية أيام الميز العنصري، أو في رودسيا الجنوبية سابقا زينبابوي حاليا، دون أن نغفل الإطاحة بالإمبراطور “هيلا سلاسي” في إثيوبيا سنة 1974، ما أعطى مكانة قوية للحضور السوفياتي في بعض مناطق القارة الإفريقية. أضف إلى هذا التعاون والشراكة مع دول كانت أنظمتها تميل إلى المعسكر الشرقي، مثل الجزائر وليبيا ومالي وكينيا، ما جعل الحضور العسكري في تلك الفترة يتميز بتواجد أكثر من 40 ألف مستشار وخبير عسكري روسي بتحالف مع القوات الكوبية التي وصل عددها إلى 36 ألف جندي في أنغولا سنة 1976.

انهيار الاتحاد السوفياتي غيب روسيا من ساحة الفعل في إفريقيا، ما أدى إلى توقيف الدعم لبرامج عديدة، مثل مشروع إنتاج الفولاذ في منطقة “أجاكوتا” بنيجيريا، رغم أن هذا الإنجاز الكبير كان قد وصل آنذاك إلى مراحله النهائية؛ وبموازاة ذلك تم إغلاق المراكز الثقافية والبعثات القنصلية والتجارية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الرئيس السابق بوريس إيلسن مارس ضغطا على مجموعة من الدول الإفريقية قصد تأدية الديون المتراكمة عليها، ما أدى إلى تأزيم العلاقات مع بعض الحكومات الإفريقية.

ديناميكية جديدة بمقاربة مغايرة

مؤشرات التحول الجديد في التعاطي الروسي مع القارة الإفريقية انطلق منذ 2006، بمجموعة من الزيارات قام بها بوتين، لاسيما إلى إفريقيا الجنوبية والمملكة المغربية، وهي بالمناسبة إشارة إلى رغبة موسكو في التواجد ضمن المحاور الكبرى للتوازنات الإستراتيجية في القارة الإفريقية، وعدم الاقتصار على التحالفات التقليدية، ثم زيارة “ميدمديف” إلى كل من مصر وأنغولا وناميبيا ونجيريا سنة 2009، مرفوقا بوفد هام من رجال الأعمال الروس. تلا ذلك إلغاء الرئيس بوتين سنة 2006 ديون روسيا على الجزائر، التي كانت تقدر بـ4.5 مليارات دولار، في مقابل توقيع هذه الأخيرة على صفقات لشراء أسلحة روسية الصنع. السياسة نفسها تم إتباعها مع ليبيا إبان حكم القذافي، فقد تم التوقيع على مشاريع ضخمة تهم قطاع السكك الحديدية وقطاع الغاز لصالح شركات روسية. وسقوط نظام القذافي لم يضعف الحضور الروسي الذي مازال يشتغل بحس براغماتي وبذكاء التأثير في التوازنات المتحكمة في تدبير خيوط الأزمة الليبية.

ويجب التذكير هنا بأن سياسة إلغاء الديون لصالح إفريقيا كانت في الأصل مبادرة من الدول المنتمية إلى “مجموعة الثمانية G8″، لكن الرئيس الروسي استمر في نهجها في إطار مقاربة رابح رابح. ومن بين نتائج هذه السياسة أن الصادرات الروسية نحو إفريقيا ما بين 209 و2018 وصلت إلى 100 مليار دولار، 80%منها تهم سبع دول هي مصر والجزائر والمغرب وتونس ونيجيريا والسودان وإفريقيا الجنوبية. وعلى رأس الدول المستوردة للسلع الروسية نجد مصر بـ37.5 مليارات دولار، متبوعة بالجزائر بـ25.8 مليارات دولار. كما أن أغلب هذه الصادرات تهم قطاع الأسلحة، ثم الحبوب، فالبترول ومشتقاته، بالإضافة إلى مواد الحديد والصناعات البحرية.

وفي ما يخص تصدير الأسلحة فإن الحضور الروسي في السوق الإفريقية انخفض بالمقارنة مع فترة الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة؛ فالمبيعات الأمريكية من الأسلحة خلال السنوات الخمس الأخيرة تجاوزت المبيعات الروسية بـ76%. وتتقدم إفريقيا الشمالية لائحة هذه المبيعات عن طريق الجزائر ومصر. كما أن أكثر من عشرين اتفاقية جديدة وقعت منذ 2017 بين مجموعة من الدول الإفريقية والوكالة الروسية المكلفة بتصدير الأسلحة، التي بلغت مداخلها 46 مليار دولار، استفادت منها الخزينة الروسية.

موسكو تسعى كذلك إلى التموقع ضمن قطاع المعادن في كل من غينيا وزيمبابوي وأنغولا، مع خلق منطقة صناعية في مصر قادرة على الاستجابة لمتطلبات السوق المصرية. ومع ذلك فإن قراءة سريعة للأرقام تؤكد أن التبادل التجاري بين القارة الإفريقية وروسيا مازال متواضعا بالمقارنة مع دول أخرى مثل الصين وتركيا؛ لكن هذا لا يمنع حسب المختصين من التأكيد أن هناك ديناميكية جديدة توضحها المعطيات الحالية.. 17.2% هي نسبة ارتفاع الصادرات الروسية ما بين 2017 و2018، في المقابل الاستثمارات الروسية مازالت متواضعة بالمقارنة مع استثمارات الصين التي بلغت 130 مليار دولار؛ فبكين ضاعفت صادراتها نحو إفريقيا بـ 17 مرة والهند بـ11 وتركيا بـ9 مرات، في حين أن الشركاء التقليديين للقارة ظلت أرقامهم منخفضة بالمقارنة مع الوافدين الجدد.

رهان موسكو على محور القاهرة

العلاقات المصرية الروسية عرفت تطورات مهمة بعد وصول الرئيس السيسي للحكم، فبالإضافة إلى وجود إرث تاريخي يؤطر هذه الديناميكية الجديدة فإن موسكو تنطلق من قراءة واقعية للأوضاع المعقدة، ما يدفعها إلى البحث عن بدائل بشكل مستمر، لاسيما أن العقوبات الاقتصادية المتخذة من طرف الاتحاد الأوربي بعد ضم منطقة القرم أثرت على إمكانيات روسيا الاقتصادية. هذه العوامل وأخرى أدت إلى تقارب جديد بين موسكو والقاهرة، فمصر كانت تبحث عن موطئ قدم لتستعيد مكانتها التي فقدتها جراء تداعيات أزمة الربيع العربي، وما تلا ذلك من تحولات سياسية داخلية أجبرت القاهرة على الاهتمام بترتيب وضعها الداخلي، في حين أن موسكو ترغب في تقوية علاقاتها في المنطقة، لاسيما بعد تدخلها المباشر والعسكري في سوريا. إذن هو تقارب تمليه ظروف جيو سياسية استثنائية في منطقة الشرق الأوسط.

ويجب ألا ننسى أن العلاقات المصرية الروسية قديمة وليست وليدة المرحلة الناصرية، ففي القرن الثامن عشر عقد علي باي الكبير أول صفقة أسلحة روسية، بعد ذلك دعمت ثورة أكتوبر البلشفية وبشكل سري بعض التنظيمات اليسارية المصرية ما بين سنة 1920 و1930. وعندما أعلن الراحل جمال عبد الناصر سنة 1956 عن قرار تأميم قناة السويس التي كانت تملك أغلبية أسهمها فرنسا وبريطانيا، ما أدى إلى تدخل الجيوش الفرنسية والبريطانية في 29 و30 أكتوبر من السنة نفسها، في تلك اللحظة هدد الرئيس خروشتوف باستعمال الصواريخ النووية الروسية 3SS-، ما دفع بالولايات المتحدة الأمريكية إلى فرض وقف إطلاق النار في 6 نونبر 1956. هذا الموقف الروسي شكل منعطفا حاسما في هندسة العلاقات المصرية الروسية، وترتب عنه تأسيس 37 شركة صناعية من طرف الروس وتشييد سد أسوان ثم المساهمة في مشاريع البنيات التحتية من طرق ومحطات الكهرباء. لكن وصول السادات إلى الحكم ما بين 1970 و1981 أضعف هذا التحالف بانفتاحه على أمريكا وتدشين مرحلة التخلص التدريجي من الخبراء الروس. بعد ذلك حاول الرئيس حسني مبارك إعادة الدفء لهذه العلاقة بزيارات متتالية ما بين سنة 1997 و2001، والتقى الرئيس السيسي في موسكو بالرئيس بوتين يوم كان وزيرا للدفاع في فبراير 2014، أي ثلاثة أشهر على الانتخابات الرئاسية في مصر، وبعد وصوله إلى الحكم اجتمع ثماني مرات بالرئيس بوتين في ظرف خمس سنوات..هناك تطابق في وجهات النظر بين الطرفين في ملفات متعددة على رأسها الملف الليبي، فكلاهما يدعمان المارشال خليفة حفتر رغم أن مصالحهما تختلف، فالقاهرة لها ألف كلم من الحدود البرية المباشرة مع طرابلس، والبرلمان المصري في يوليوز 2020 أذن للقوات المصرية بالتدخل خارج حدود الدولة المصرية، مع السماح منذ 2017 لموسكو بالتواجد في القواعد الجوية المصرية في “سيدي براني” و”مرسى مطروح”، البعيدين بـ 200 كلم عن الحدود المصرية الليبية. وعلى المستوى الاقتصادي تبقى المبادلات التجارية بين البلدين في تطور هام، إذ انتقلت من 2.8 مليارات دولار سنة 2011 إلى 8 مليارات دولار سنة 2018؛ كما أن روسيا أصبحت ثالث شريك للقاهرة بعد الاتحاد الأوربي والصين، و65% من الواردات المصرية من الحبوب مصدرها السوق الروسي.

وفي مجال الطاقة، حصلت الشركة الروسية “روز نفط” “Rosneft” من الشركة الإيطالية “إيني” “ENI ” على 30% من حصة مشروع تطوير حقل الغاز المصري “الزهر”، وهو بالمناسبة أكبر حقول الغاز بالبحر الأبيض المتوسط. وفي ماي 2018 وقعت مصر وروسيا على اتفاق بموجبه ستقوم موسكو بإنجاز منطقة صناعية شرق بور سعيد، إذ من المنتظر أن تستثمر روسيا 6.9 مليارات دولار في هذا المشروع. كما أن مجموعة من الشركات الروسية تعتبر هذا الإنجاز بمثابة بوابة لولوج الأسواق الإفريقية. وعلى المستوى العسكري اقتنى ما بين 2013 و2017 الجيش المصري مجموعة من الأسلحة الروسية، من بينها 46 طائرة حربية وأنظمة جديدة للدفاع الجوي من نوع BUK-ML-2 وS-300 V M ومجموعة من طائرات هيلكوبتر من نوع KA-52، دون أن ننسى التمارين المشتركة بين البحرية الروسية والمصرية في البحر الأسود في أواخر 2020.

يجب التذكير هنا بالحضور القوي للفاعل الروسي في المجال النووي المدني “روزا طوم” “Rosatom”، ففي سنة 2017 وقع هذا الأخير مع الحكومة المصرية على اتفاق لإنشاء محطة نووية في مدينة “دبع” الساحلية في غرب الإسكندرية بأربعة محركات وبتمويل وصل إلى 85%بواسطة قروض ممنوحة من الأبناك الروسية. وسيبدأ العمل بالمحرك الأول في أفق 2024، وبذلك ستكون مصر بفضل الشراكة مع روسيا ثاني دولة تتوفر على محطة نووية لأغراض سلمية بالقارة الإفريقية بعد جنوب إفريقيا.

روسيا والصين في القارة الإفريقية: تكامل أم منافسة؟

في دجنبر 2018 أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن تصور جديد للتعاطي مع قضايا القارة الإفريقية، مؤكدة أن الصين وروسيا تهددان المصالح الأمريكية بالقارة. التأكيد جاء آنذاك على لسان “بولتون”، مستشار الأمن القومي للرئيس السابق ترامب. وإذا كان الحضور الصيني عرف تطورا ملحوظا في القارة الإفريقية، فإن سنة 2000 عرفت عودة روسيا للقارة السمراء؛ هذه العودة لا تنظر إليها واشنطن والاتحاد الأوربي بعين الرضا.

كما أن الاستثمارات الصينية في القارة الإفريقية تمر عبر منتدى التعاون الصيني الإفريقي “F O C AC Forum on China –AfricaCooperation”، إطار يسمح لبكين بمناقشة قضايا اقتصادية وسياسية مع مجموع دول القارة الإفريقية؛ فالإضافة إلى مساهمة بكين في مشاريع البنيات التحتية من طرق ومطارات وموانئ هناك كذلك التبادل التجاري الذي ارتفع بنسبة 20% في السنتين الماضيتين ليصل إلى 208 مليارات دولار سنة 2019.

وفي كل قمة صينية إفريقية يتم توقيع على مشاريع عديدة، جزء كبير منها يمول من طرف الأبناك الصينية، ما أثار قلق مجموعة من الدول الغربية التي تتهم بكين بإثقال كاهل الدول الإفريقية بالديون، ما قد يشكل تهديدا لاستقلالها السياسي والاقتصادي. وكجواب عن هذه الأصوات قامت الصين بمبادرة الرفع من قيمة المساعدات المقدمة للدول الإفريقية، بحيث انتقلت من 5 مليارات دولار إلى 66 مليار دولار سنة 2018.

وعندما أعلنت روسيا سنة 2019 من خلال قمة “سوشي” رغبتها في العودة إلى القارة الإفريقية، فهي حسب المتتبعين محاولة لاستنساخ النموذج الصيني، لكن بفارق أساسي هو أن القمة الروسية الإفريقية لم تعرف التوقيع على مشاريع كبرى، بل تم الاقتصار على التعبير عن النوايا ذات الطابع السياسي المحض، رغم مجهودات إلغاء الديون الروسية المتراكمة على بعض الدول الإفريقية، التي وصلت إلى 20 مليار دولار. وفي يوليوز 2020 تم تنظيم لقاء مفتوح جمع بين خبراء روس يشتغلون بالمراكز المهتمة بإفريقيا وفريق من الأطر الدبلوماسية الصينية، والهدف من هذا اللقاء كان القيام بقراءة للتجربة الصينية في إفريقيا، مع محاولة البحث عن آليات مشتركة للتعاون. الروس فوجئوا برغبة بكين في خلق تكتل صيني روسي، لكن شريطة أن يبقى محصورا في مجال القضايا الجيو السياسية، بعيدا عن الملفات التجارية والمشاريع الاقتصادية الكبرى.

hespress.com