متى يتكلّم المثقف؟ هل عندما تكون السلطة في حالة اندفاع قصوى؟ أم عندما تكون الأجواء سالمة وهادئة؟ هل بمقدور المثقف أن يعلن استسلامه أمام جمهوره بسبب لحظة إحباط فردية، أو بسبب غياب الأفق؟ وهل يرهن المثقف علاقته بالمجتمع وقضاياه وهمومه وارتباطه بالأسئلة الكبرى (حقوق الإنسان، العدالة، الوعي..) بكسب شرعية سياسية أو محاولة للاقتراب من السّلطة؟.
سياق هذه الأسئلة حديث المفكّر والأكاديمي المغربي حسن أوريد عما اعتبرها “هزيمة” مدوّية مني بها هو شخصيا في طريقه الشّاق لتحقيق الثورة الثقافية المنشودة. هي لحظة استسلام “حّط فيها أوريد السّلاح” إذ قال: “أنا شخصيا حْطيت السلاح. ينبغي أن ينكب الجيل الحالي على تحقيق ما كنا ننادي به، وينبغي أن تستوي بنْية الدولة وأن تكون هناك ثقافة مطابقة للمعايير الكونية”.
حالة “الإحباط” التي عبّر عنها أوريد لا يمكن فصلها عن السياق العام لوضعية الثّقافة والمثقفين في المغرب، وهي وضعية زادت من حدتها جائحة “كورونا” التي تسبّبت في إخضاع الصناعات الثقافية لمنطق “الإغلاق”، بحيث لا يمكن للمثقف أن يواجه السّلطة ويحدث الضّجيج المطلوب لمواجهة “الفراغ” بدون عناصر مكتملة تلعب هي الأخرى دورها في عملية الثتقيف، من دور سينما ومسارح ومعارض فنية.
لكن خفوت صوت “المثقف”، خاصّة خلال جائحة “كورونا” وما شهدته من “تغول” للسّلطوية “الفجّة” على حساب الحريات، يدفع إلى التساؤل: “هل كان على المثقف المغربي أن يغلق عليه الباب ويطيل في تأمّله، فقط لأن السّلطة أمرت بذلك من باب الاحتياط الصّحي؟ أم كان عليه التمرد والخروج عن “الإجماع” لانتقاد توجهات الدولة وتصحيح مساراتها؟”.
هناك مفهوم أساسي أطلقه السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو في رصده لدور المثقف داخل المجتمع، وهو “المثقف الجماعي”، الذي اعتبره ضمير الإنسان والمتكلم الرسمي باسم المجتمع، بينما في المغرب لا يمكن الحديث عن “المثقف الجماعي”، بالنظر إلى طبيعة وتركيبة المجتمع التي تضم أطيافا متنوعة، وبالتالي فإن فكرة الدفاع عن وجهة نظر ضيقة داخل المجتمع قد تخندق المثقف في زاوية معيّنة.
الدولة تكبت صوت المثقّف
في جوابه عن سؤال خفوت “صوت” المثقّف المغربي خلال الجائحة، يقول إسماعيل العلوي، الوزير السّابق والقيادي في حزب التقدم والاشتراكية: “سنكون قد ظلمنا المثقف بشكل عام إذا ما قلنا إن صوته خفت، لأنّه يكفي العودة إلى ما ينشر وما يكتب.. على المستوى الشّعري مثلا فإن المثقفين في بلادنا يواكبون الأوضاع. كما أن هناك مقالات كُتبت ومقترحات قدمت في إطار انعكاسات الوباء على الوضع الاجتماعي والاقتصادي”.
صاحب كتاب “النضال الديمقراطي في المغرب..رهانات الماضي وأسئلة الحاضر” أقرّ في تصريحات لجريدة هسبريس الإلكترونية بأن “هؤلاء المثقفين قد يكونوا منتسبين إلى هيئات سياسية أو مدنية، هي بنفسها يمكن أن يجتمع حولها مثقفو المجتمع، كما يمكن أن تضمّ كتابا مستقلين يعبّرون عما يخالج المجتمع من هموم وشجون”.
ويشدّد العلوي على أن “الوباء وما ترتّب عنه من حجر صحي وغير ذلك أثّر سلبا على الاقتصاد، بينما الحلول التي قدمتها الدولة للمجتمع لم تكن كافية ولن تكفي”، مردفا: “يجب أن ننظر إلى الأمور في عمقها. النموذج الاقتصادي الحالي لن يؤدي بنا إلى شاطئ النجاة؛ بينما هناك لجنة منكبة حاليا في صياغة نموذج تنموي جديد”.
وعند سؤاله عما إذا كان تواجد المثقف ضمن لجنة النموذج التنموي يعكس اتكاله على الدولة لضمان حضور دائم في مخيال الناس، يقول السياسي المغربي إن “ذلك غير صحيح، فهناك لقاءات تعقد وأفكار تنشر على عدد من الصحف، وهناك حركية يقودها المثقفون”، وزاد: “المثقف لا يمكنه أن ينتظر الضوء الأخضر من الدولة ليتكلم، فهو يتكلم بحرية، بصراحة، حتى إن كانت الدولة تسعى إلى كبت هذه الحرية في عدد من الحالات”.
واعتبر العلوي أن “المثقف” يدافع عن الصوت “الغائب”، عن المعتقلين في السّجون وعن الصحافيين المسجونين، مضيفا: “صحيح أن هناك تجاوزات كثيرة، لكن الكلمة الأخيرة للقضاء. وحتى بالنسبة للعدالة فهناك من يشكك في نزاهة عدد من القضاة، وذلك يقال بنوع من الصراحة والجرأة”.
ويعتبر السياسي المغربي أن “كثافة المواضيع المطروحة على الرأي العام الوطني تعطي ارتساما بأن المثقف لا يقوم بعمله”، متابعا: “نحن ظلمنا المثقف وساهمنا في تبخيس عمله داخل المجتمع، كما ندفع العديد من الناس إلى اليأس. أصبحنا نلاحظ مؤخرا هجرة الأطباء مثلاً، إذ يوجد حوالي 7000 طبيب مغربي في الخارج؛ كما أن شباب المغرب لا يطمحون إلا إلى مغادرة الوطن، وهذا أمر مؤلم ومؤسف. علينا أن نراجع أوضاعنا بشكل دقيق وأن نستجيب لمطالب الشباب”.
ويقف العلوي عند شعور أوريد بالهزيمة واستسلام المثقف المغربي، قائلا: “المثقف مهما كان نوعه وفي أيّ وطن كان لا يمكنه أبدا أن يستسلم، لا يجب أن يضع السّلاح، لا بد أن يظل يقظا وينادي بتغيير إيجابي؛ ولا يمكنه أيضا الادعاء بأنه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة، وإلا سيسقط في الغرور”، وتابع في وصفه حالة أوريد: “هو رد فعل ذاتي، ربما شعر بالإعياء ويحتاج إلى استراحة.. هو يكتب كثيرا. وكما يقول الفرنسيون Un état d’ame ..ربما رأى أن الأفق مسدود، وليس هناك وضوح، لذلك يجب عليه أن يعيد النظر في الأدوات التي يستعملها في التحليل من أجل تجاوز هذه المرحلة”.
وأطلق العلوي رسالة إلى أوريد دعاه فيها إلى بذل المزيد ومراجعة الذات والرّؤية التي نحياها، موردا: “إنه من بين المثقفين الذين يكتبون كثيرا، والمثقف ليس بالضرورة كاتبا ولا شاعرا، هو فقط من له هاجس.. لا أعرف الظروف الذاتية لحسن أوريد، لكنه سيسائل نفسه يوما ما: لماذا؟ وهل أحتاج إلى استراحة؟ هل المجتمع قابل للتغيير؟”.
القناطر والأسلحة لا تكفي..الثّقافة أولا
يختلف الكاتب المغربي مصطفى البوهندي عن نظيره إسماعيل العلوي في رؤيته لدور المثقف في المجتمع، لكنه يتقابل معه في الاعتراف بوجود أزمة بل أزمات متعددة في البلاد، موردا أن هناك ثورة كبيرة في التقنية جعلت الناس “مترابطين” في ما بينهم، خاصة على مستوى التواصل الاجتماعي، وأن المثقف ليس وحده من أصبح يأخذ الكلمة، بل كل من يعثر على مساحة للتّعبير، ويعبّر عن حاجات المجتمع، ويضيف في رصده لمعايير شخصية المثقف: “قد يكون هناك طفل أو شخص عادي لكنه أصبح مثقّفا في جانب ما وأصبح له صوت وجمهور. الفوارق لم تعد واضحة”.
ويضيف الباحث المغربي وأستاذ مقارنة الأديان في حديث مع هسبريس أن “المثقف هو صاحب مشروع يشتغل عليه ويؤلف فيه”، مردفا: “الكتاب مازال يحظى بقيمته رغم أن الناس تستهلك السّريع من قبيل المقالات والشرائط الصوتية”؛ بينما يقف عند ما يصطلح عليه بـ”كثرة الانفتاح وفقدان المعنى”، وزاد موضحا: “الكل أصبح بإمكانه وضع قناة خاصة به وأن يكون له جمهور عريض، ويأخذ دور المثقف، ليس بالمفهوم التقليدي”.
وعند سؤاله حول “استسلام” أوريد وتأثيرات ذلك على باقي الطبقة المثقفة المغربية يقول الباحث: “هذا رأي أوريد، يخصّه هو.. ربما وصل إلى حالة إعياء لكن هناك أشخاص آخرين مازالوا يصارعون.. لا يمكنه أن يكون نموذجا للحكم على عامة المثقفين المغاربة، فدور المثقف مازال قائما، والناس رغم أنهم يتطلعون إلى كل ما هو بسيط وسريع الاستهلاك فإنهم دائما ما يبحثون عن كل ما هو عميق. وعندما يكون المجتمع في حالة انتظار فإن المثقف هو الذي يأخذ الكلمة”.
وتطرّق البوهندي إلى موضوع الصّحراء بالقول: “في الجانب الثقافي هناك استعداد لتقبل الهزيمة وتخوين كل عمل ناجح. هناك مجموعة من الأفكار المتراكمة في الثقافة تجعل لغة الجلد والنقد هي السّائدة”، بينما تساءل: “لماذا لا يكتب المثقفون المغاربة عن مسيرة السوداء التي طرد فيها الرّئيس الجزائري 350 ألف مغربي في يوم واحد؟.. قضايا الوطن في الحرب والسلم يجب أن تشغل بال المثقف. وهناك أشباه مثقفين يملؤون الساحة والإعلام، وهذا أمر غير مقبول”.
وزاد الباحث ذاته: “المثقف يشارك وله مكانه في الفضاء العمومي، والوطن يحتاجه، فهو الذي يقوم بأعمال ذات جودة عالية، لأن له مؤهلات. وللمثقف قدرة على التحليل واستشراف المستقبل، فلا يمكن أن نسير بالإنجازات المادية وشراء الأسلحة وبناء القناطر.. يجب أن تكون هناك نهضة ثقافية في المسارح والشعر والموسيقى”.
الدولة وتطفّل المثقف
أما الشّاعر الشاب محمد بايحيا فيعترف هو الآخر بأننا “نعيش أزمة مثقفين ولا نعيش أزمة ثقافة، وإن تقاربت وتقاطعت الأزمتان، فالثقافة تسكن الكتب بتعدد مواضيعها والمجلات والجرائد والصحف والبرامج… وتلك أمور لا تنقص عيشتنا، وإنما الذي ينقصها هم المهتمون بها ليصيروا مثقفين بها”، وفق تعبيره.
ويضيف الشاعر الشّاب في حديث مع هسبريس أن “الثقافة لا تبحث عمن تثقف بل المثقف يبحث عما يثقفه، فهو الباحث وهي المبحوث، وهو الطالب وهي المطلوب”، مردفا: “مادمنا نعيش أزمة مثقفين فليس لنا من يعارض قرار الدولة ساعة كورونا، وحتى لو كان لنا بعضهم فلهم النصح والنقد والإرشاد بالتي هي أحسن، وليس لهم الصمت والتمرد، فالوضع حساس للغاية والبلد على شفا حفرة الانهيار أو شفا جرف هار، فبين رمشة وطرفة أو بين رأي وآخر ينزل البلد إلى زاوية ليس لها قرار، لذلك كان الحذر والحرص قفلا لأفواه أولئك المثقفين”.
كما قال الشاعر المغربي: “إن دولة الحق والقانون تقر بشرعية الإنسان قانونيا لا فكريا، لذا فاهتمام المثقف بقضايا الأمة تسميه الدولة تطفلا واهتمامه بالأمور السياسية تسميه تمردا، أما الاقتراب من السلطة فتدفعه نار المجتمع للتقدم في إصلاحه ويمنعه لهيب الإكراهات التي سيواجهها لتحقيق ذلك، ونيران لكم في من مضى عبرة، ومثل حدود سلطة المثقف الحديث عن غير المحظورات الممنوعات المحرمات بمعنى مثقف محدود، غير حر ليحرر أفكاره وتتحرر بها العقول المقفلة، أما امتلاكه للسلطة فليس عاجزا بل قادرا شريطة امتلاكها بغير صفة المثقف؛ فنحن في مجتمع لا يصنف الثقافة ولا يرتبها في سلم السلطة ولا في درج السياسة”.