قال الأديب سعد سرحان إن منظمة “اليونيسكو” كانت قد قررت، في مؤتمرها العام المنعقد في باريس يوم 26 نونبر 2019، “اعتماد 14 مارس يوما عالميا للرياضيات، وكان الاحتفال به لأول مرة رسميا، وفي مختلف دول العالم، سينطلق في 2020، لولا أن اعتراض “كوفيد- 19” كان حاسما”، مضيفا أن “الأرجح أنه سيكون كذلك حتى هذه السنة، فيفوت على أهل الرياضيات يوما من الزهو بالنفس”.

وتابع سرحان، في مقال له بعنوان “الرياضيات: الركن الخامس للحياة”، “قبل مقترح الاتحاد الدولي للرياضيات واستجابة “اليونيسكو”، جرى الاحتفال بالرياضيات في غير ما بلد، وفي أيام مختلفة تحيل جميعها على العدد π”، موضحا أن “من دشن هذه الاحتفالات هو عالم الفيزياء الأمريكي لاري شون، الذي أطلق عليه اسم اليوم العالمي للعدد بِّي، إذ احتفى به أول مرة يوم 14 مارس 1988”.

وبطريقته الماتعة الخاصة، استطاع سعد سرحان، في مقاله، تفكيك خيوط اليوم العالمي للرياضيات، انطلاقا من تحديد اليوم والشعار المختار وباقي العناصر المرتبطة باليوم العالمي للرياضيات، خاتما مقاربته بالإشارة إلى أن “الأرقام تتخلل العناصر المذكورة، فإذا هي العنصر الخفي الذي يضمن لها الوجود الجلي، لذلك يجوز لنا أن نقول: الرياضيات هي الركن الخامس للحياة”.

وهذا نص المقال:

استجابةً لمقترحٍ تقدَّم به الاتحاد الدَّولي للرّياضيات، قرَّرت منظمة “اليونيسكو”، في مؤتمرها العامّ المنعقد في باريس يوم 26 نونبر 2019، اعتمادَ 14 مارس يومًا عالميًّا للرّياضيّات. وكان الاحتفال به لأوَّل مرَّة رسميًّا، وفي مختلف دول العالم، سينطلق في 2020 تحت شعار: الرّياضيّات في كل مكان، لولا أنَّ اعتراض “كوفيد- 19” كان حاسمًا. والأرجح أنَّه سيكون كذلك حتى هذه السنة، فيُفَوِّت على أهل الرّياضيّات يومًا من الزُّهوِّ بالنَّفس، خصوصًا أنَّ شعار الاحتفال هذه المرَّة هو: الرّياضيّات من أجل عالم أفضل.

أمَّا لماذا اليوم الرابع عشر (14) من شهر مارس (3)، فلأنَّ كتابته بالأرقام تُذكِّر على الفور بالعدد بّي، الثابت الأشهر، الذي له أفضال عريقة على الرياضيات، هو الذي يفوق عمره 4000 سنة، عرف خلالها قِيَمًا تقريبيَّةً عديدة، قبل أن ينتهي إلى الرَّمز المعروف به الآن π، والذي استخدمه أول مرَّة الرياضي الإنجليزي وليام جونز عام 1706، قبل أن يتعمَّم استعماله بعد أن تبنَّاه العالم الريّاضي السويسري المعروف أولير سنة 1737.

قبل مقترح الاتحاد الدولي للرياضيات واستجابة “اليونيسكو”، جرى الاحتفال بالرياضيات في غير ما بلد، وفي أيّام مختلفةٍ تُحيل جميعُها على العدد π.

وكان من دشَّن هذه الاحتفالات هو عالم الفيزياء الأمريكي لاري شون، الذي أطلق عليه اسم اليوم العالمي للعدد بِّي، إذ احتفى به أول مرَّة يوم 14 مارس 1988.

أمّا الأيَّام الأخرى التي وقع عليها الاختيار في هذا البلد أو ذاك فهي على سبيل المثال:

الأربعاء (4) الأول (1) من مارس (3)، وهذا يذكِّر بأشهر قيمة تقريبيَّة للعدد π.

يوم (22) من شهر يوليوز (7)، والكَسْر 22 على 7 (7/22) هو أبسط كسر يُمثِّل العدد بِّي.

يوم 10 نونبر (أو 9 منه في السنة الكبيسة)، لأنَّه يوافق مرور 314 يومًا من السنة.

ويعرف الاحتفال بهذا اليوم ندواتٍ فكريةً حول الرياضيات، وعروضًا إبداعيَّةً من وَحْيِها، ومسابقاتٍ في بعض تحدِّياتها تصل أحيانًا حدَّ الغرابة.

قلتُ: الغرابة؟

أَجَلْ.

فلئن كان من الصَّعب تصديق أنَّ عدد الأرقام المعروفة حتى الآن في الجزء العشري للعدد π يتجاوز 1240 مليار رقم، يمكن للمرء أن يجد بينها جملةً من أرقامه الشخصيّة، فكيف نُصدِّق وجود شخص يحفظ منها أكثر من 100000؟ أمّا هذا الشَّخص فهو المهندس الياباني أكيرا هاراغوتشي، وقد فعل ذلك في إطار ما يُعرف، يا للغرابة، برياضة π.

وللتَّذكير فقط، فالعدد π تنزَّل من بين صُلبِ وترائبِ الدَّائرة، الشكلِ الأكملِ والأكثرِ مثاليَّةً في الهندسة. لذلك، فهو يوجد في الصّميم من قوس المكان ودورة الزّمن ومدارات الكواكب، من خلال حضوره المركزيّ في علوم المساحة والتَّوقيت والفَلَك، وهي الأبعاد التي يَسْتَتِبُّ لِمَعْلَمِها، مَعْلَمِ الوجود، جلالةُ الكون بأسره.

فهل بعد كلِّ هذا نستكثر على π أن يتقدَّم رفاقَه في درب الرِّياضيات، وهو لا يقِلُّ ضوءًا عن درب التَّبَّانة، نحو مِنصَّة الاحتفال؟

حسنًا فعلتِ “اليونيسكو”، إذن، بأن وحَّدت أيام الاحتفال بالرياضيات في يوم واحد، وبأنِ اختارت اليومَ الرَّابع عشر من مارس تحديدًا. فهي بذلك تُكرِّم قيدوم عناصر الرياضيات، مثلما تُذكِّر، يا للمصادفة، بأشهر عالمين في التاريخ المعاصر: آلبرت آينشتاين وستيف هوكينغ. فيوم 14 مارس يوافق ذكرى ميلاد الأول كما يوافق ذكرى رحيل الثاني.

أعود إلى الشِّعار، الرياضيات في كلِّ مكان، فأقول: إنَّ المكان نفسه مفهومٌ رياضي، فمن صِفاته التَّسَطُّح والتَّحَدُّب والتَّقَعُّر، وعلى أساس هذه الصِّفات نهضت أكثر من هندسة. فإذا كان المكان خاليًّا، فهو يعجُّ بالأعداد والأشكال والحجوم والمساحات، فهذه العناصر هي ما يجعله يتجلَّى فيُسمَّى. فما الجبل لولا ارتفاعه، وما الصحراء لولا مساحتها، وما الغابة لولا عدد الأشجار… أمَّا إذا أدركه العُمران، فما من بناء به تقوم له قائمة، من حجر الزَّاوية إلى السَّطح، دون أن يكون التَّجسيدَ الحيَّ لتاريخ الهندسة.

لذلك، ليست الرياضيات ممَّا يُبحث عنه في المكان، وإنَّما هي مِمَّا لا يُحصى فيه. ومن كان له رأيٌ آخر، فليُحاول أن يُحصي فقط عدد الزّوايا القائمة في بيته، وسيُفاجَأُ بأنَّ رصيده من الحياة لا يكفي لرفع هذا التَّحدِّي.

وبخصوص الشِّعار الآخر، الرياضيات من أجل عالم أفضل، فيجب التَّمييز بين الظَّاهر منها والمُستتر. فإذا كانت الرياضيات تتجلَّى كأقوى ما تفعل في العُمران والثروة، وهما ممَّا لا يخطئه البصر، فإنَّ حدًّا أدنى من البصيرة لا بدّ منه لرؤية ما تُسدي في الخفاء.

فالسُّرعة مثلًا، وهي من نِعَم العصر بما تضيف من زمن إلى عمر الإنسان، ما كان لها أن تصل إلى ما وصلت إليه، لولا قوَّة المحرِّكات وسلاسةُ الطُّرُق ومدُّ الجسور وإحداثُ الأنفاق، وحسبي أنَّ هذه من بنات الرياضيّات النَّجيبات.

ولجهة سرعة البحث والتَّواصل والمُعامَلات…، فإنَّ الضَّغط على تشكيلة من الأزرار يستجيب له عباقرة وادي السِّليكون بتلبيَّة الطَّلب، وبأسرع ممَّا يستطيع حتّى مارِد المِصباح. ولولا الألطافُ الخفيَّةُ للرِّياضيات، لَمَا كان لهم ولما صار لنا من ذلك شيء. فغوغل وأَتْرابُه في ذلك الوادي العجيب ليس لهم أسلافٌ في كهف الخرافة، وإنَّما لهم كنزٌ في مغارة الضَّوء حيث تتلألأ الخَوارِزْميَّات كما لم تفعل لآلِئ خلفَ صخرة سِمسم.

على أنَّ عالمًا أفضل لا يمكنه أن يكون كذلك بدون فنِّ العيش، وما يستلزمه من رِياشٍ بديع كالموسيقى والعطور والملابس والحدائق والسينما والرَّقص والتَّشكيل والسِّباحة الفنِّية… وما من سَيْل لهذه ليس له نبع في الرياضيات، وإلّا من أين جاءت بالتَّناظر والتَّماثل والإسقاط والتَّقايس والتَّحاكي والدَّوَران والتَّناسب والإزاحة، وسوى ذلك من أسرار الدَّهشة والجمال؟

وعلى ذكر الجمال، في الإنسان والحيوان والنبات، كما في الإبداعات العظيمة من لوحاتٍ وتماثيل وصروحٍ خالدة، فإنَّ له سِرًّا أزليًّا ذائعًا يُقال له العدد الذَّهبي ϕ، أنصح بالقراءة عنه لِما له من بريق.

وكما يجدر بالعدد π أن يُمثِّل الرياضيات في يومها العالمي، يجدر بالرياضيات أن تنوب عن غيرها من العلوم في أثناء الاحتفال.

فلئن كانتِ العلومُ هي تاجَ المعرفة، فإنَّ الريّاضياتِ هي جوهرة هذا التّاج. لذلك، فإنَّ وضْعها الاعتباري، في كلّ الجغرافيّات والعصور، هو وضع كبيرِ العائلة: أفضالُه لا تُعَدُّ ودُيونه لا تُرَدّ.

ولا عجب أن تشترك الريّاضيات والرّياضة في معظم الحروف: فهذه للعضلات وتلك للذهن، ولا تصل هذه إلى الألعاب الأولمبية إلّا كما تصل تلك إلى أولمبياد الرياضيات. أمّا أبطالهما، فمنهم من يسعى بين العالم والناس بشهرة أين منها شهرة آلهة الأولمب.

يختصر المغاربة الرياضيَّات في الحساب، ذلك أنّه هو الجزء الظَّاهر من جبل الجليد المغمور بالتاريخ. فعند الإنسان أنَّ كلَّ شيء بحساب: من حساب الحمل حتى يوم الحساب، مرورًا بحساب الأيّام والشّهور، وحساب الرِّبح والخسارة، وبالحسابات الشَّخصيَّة والبنكيَّة، ودفع الحساب ساعة الحساب… حتى أنَّ المِحسبة أصبحت كامِنة في المحمول والساعة والحاسوب…

لا وجود لشيء، أيّ شيء، خارج شكله ومساحته وحجمه… لا فرق في ذلك بين الحيوان والنباتْ، ولا بين الجبل والحصاةْ… فالأبعاد، وهي من بنات الهندسة، ما يجعل عناصر العالم قيد الإدراك.

فما كان الإنسان ليكون في أحسن تقويم لولا أنَّه يملك مِحورَ تماثلٍ خفيّ، مثله مثل الفراشة والحصان والزَّنبقة…

وما كان له أن يسعى في الأرض بيقينٍ لولا أنَّ له مركزيْ ثِقل، واحدًا في الجسد والآخر في الروح.

وغير بعيد عن الإنسان، حدِّقوا فقط في زهرة عبَّاد الشمس، حدّقوا فيها جيّدًا. لا تخشَوْا أشِعَّتها، إنَّها محض بتلات. هل ترَوْن مركز تماثلها؟ فحَوْله تدور مجرّة من الذهب. هل تروْن مَحَاوِر تماثلها؟ إنَّها حقًّا بلا عدد.

ثُمَّ،

من يستطيع أن يجمع أرقام الإنسان الواحد إلى بعضها؟

من رقم الحذاء إلى رقم النظّارات، مرورًا بمقاس الحزامْ،

ومن النَّبض إلى الحرارة إلى تشكيلة العظامْ

ومن عدد الخلايا إلى رصيد الشَّعر إلى جيشٍ أحمر في ثكنات الدّماءْ

ومن تاريخ الميلاد إلى النُّقط الدّراسيّة إلى معدّل الذّكاءْ

ومن الأفكار السّوداء إلى الأحلام الزّرقاء إلى لحظات الفرح والبكاءْ

ومن الكتلة إلى المساحة إلى الحجم إلى الحركات والسّكنات إلى طول الأعصاب والشّرايين والأمعاءْ

من يستطيع أن يجمع أرقام هويَّاته وعقوده وبطائقه وسيّارته وهاتفه وجواز سفره وحاسوبه…؟

من يستطيع أن يجمع أرقام الإنسان الواحد، العلنيَّة منها والسريَّة؟

أليس الإنسان رقميًّا منذ بدء الخليقة؟

ألا يتحرّك الواحد منّا كمدوَّنة رقميّة هائلة، لو رأتها اللّانهاية نفسها لفغرت فمها من الدهشة:

حقّا إنّ الإنسان لَهُوَ الواحد الذي لا يحصى.

قديمًا حصر الفلاسفة أركانَ الحياة في أربعة: الماء والهواء والتراب والنار.

أما الماء فقِوَامُ الجُزئية منه ذرة من الأوكسجين وضعفها من الهيدروجين. وأمّا الهواء فنِسَبٌ معلومة من الأوكسجين والآزوت والشّوائب. وأمّا التّراب فلا خصوبة له ولا حياة فيه بغير مقادير مُقدّرة من الأملاح والمعادن. وأمّا النار فدرجات تُرتقى من الدفء إلى الغليان حتى صهر الرمل والحديد…

هكذا، إذن، تتخلَّلُ الأرقامُ هذه العناصر، فإذا هي العنصر الخَفِيّ الذي يضمن لها الوجودَ الجَلِيّ. لذلك يجوز لنا أن نقول: الرياضيات هي الرُّكن الخامس للحياة.

hespress.com