كاتبٌ هادئٌ بقلمٍ يغلي، هكذا وصف الأديب سعد سرحان نفسه في هذا المقال الذي جاء ردًّا على ردّ إدريس الأزمي الإدريسي عمدة فاس عليه.. رسالة مفتوحة من شاعر إلى عمدة المدينة التي أنجبته.

الرسالة مكتوبة بلغة سرحان التي يتداخل فيها التمكُّن من أسرار اللغة العربية وذاكرتها التراثية وقدرته الجميلة على الالتقاطات الدقيقة للتفاصيل والمفارقات..

جَناب العُمدة المحترم..

أمّا أنا فقد كتبتُ ورقتي عن فاس ذات خميس وفي وقت فراغي، وأمّا أنت فوضعتَ منشورك عنها على صفحتك في “فيسبوك” على الساعة الثالثة بعد الزّوال من يوم نشرها، الذي هو الجمعة؛ فمتى كتبته؟ إذا كنت قد فعلت صباحًا فإنّك سخّرت وقت النّاس لنفسك، وإذا كنت فوّضت أمر الردّ لأحد مرؤوسيك فإنّك سخّرت موردًا بشريًّا لمصلحة شخصيّة، وإذا كنت فعلت في فترة الصّلاة، وحسبي أنّك تصلّي، فقد لَغَوْت، وإذا كنت قد أتيتَ ما أتيتَ بُعَيْدَ الصّلاة، فإنها لعبقريّة من أيّ كان أن يقرأ عن كاتب لا يعرفه، وأن يُغَوْغِلَ عليه، وأن يقرأ له، وأن يحتطب من عناوينه غير الشّائكة ما يصلح لموقد الرّد، وأن يردّ عليه، وأن يعطيه الدّروس حتى… وكلّ ذلك في نصف ساعة وبدون معلّم. فما يَضيرك، سيدي، أن تتجاوب مع مطالب السّاكنة بنفس السّرعة التي أجبت بها على ما افترضْتَه نقدًا لك، ألستَ من المدينة، وكرامتُها من كرامتك؟.

ولمناسبة كهذه يذكر الناس الخليفةَ عمر بن عبد العزيز، فقد كان الرّجل يوقد الشّمع من بيت مال المسلمين للسّهر على شؤونهم، ويوقد الشّمع من جيبه لأمور بيته. وعندي أنّ شمع أولئك ليس أغلى من وقت هؤلاء، وأنّ شمع هؤلاء لا يقلّ عِبرة.

جناب العمدة المحترم..

جاء في مستهلّ منشورك أنّه لم يسبق لك أن قرأت لي. لقد أكْبَرْتُ فيك صراحتك، وجزاءً لك عليها أذكّرك بأنّ القراءة، فضلًا عن كونها أمرًا إلهيًّا، فهي نعمةٌ، والله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده. مثلما أذكّرك بأنّ فاس، التي أنتَ عمدتُها إلى حين، يعيش بها كتّاب كبار من حملة جائزة المغرب للكتاب، وجائزة الأرݣانة العالميّة، وجائزة الأطلس الكبير، وسواها من الجوائز العربيّة والدّولية المرموقة، وليس من اللّباقة ولا من اللّياقة في شيءٍ ألّا تعرفهم وتعرف عنهم، ففي ذلك شرفٌ لك لا لهم. أمّا أنا فلم أنزعج أبدًا، ذلك أنّه لم يسبق لي أن فتحتُ حسابًا في بنك الأوهام حتى أتوهّم نفسي معروفًا حتى من “اللّاقُرّاء”.

جناب العمدة المحترم..

لقد وصفتَ شخصي المؤدّب، ولا أحتاج شهودًا على ذلك، بقلّة الأدب. ومع أنّ ترجمتها إلى أيّ لغة تجعلها شتيمة موصوفة، فقد اعتبرتُها فلتة ظهر منك، ولم أشأ أن أنافسك فيها احترامًا لنفسي ولأنوف القرّاء، وفضّلت على ذلك ثواب الكاظمين الغيظ. أمّا إذا كان قد أنبأك بها فاسق من حولك، فأنت أصبتني بجهالة، وهو عندي السّفيه الذي نطق بما فيه…ولأنّ الشّهامة تقتضي من الرّجل أن يمدّ يده حتّى إلى غريمه كي يُنهِضه، وأنت قطعًا لست غريمًا لي، فسوف أُقيل عثرتك بترجمة شخصيّة منّي، ترفع عنك الحرج، وتَقيني المذمّة، إِذْ تجعلك على صواب تمامًا. فأنا قليل الأدب فعلًا، بالمعنى السّطحي للكلمة، ذلك أنّ دراستي كانت في شعبة للعلوم، عملت بعدها لنيّف وثلاثين عامًا أستاذًا لمادّة علميّة. ولأنّ الشّعر والأدبْ هما مفخرة العربْ، فقد أصابتني، منذ نعومة أحرفي، نِعمة الكُتُبْ. فالرّحمة على من مات، والشّفاء لمن اعتلّت صحّته، والشّكر لمن مازال حيًّا من باعة المجلّات القديمة والكتب المستعملة، وغيرهم مِمّن ساهموا في تكوين أجيالٍ من قليلي الأدب مثلي.

جناب العمدة المحترم..

أخذتَ عليّ استعمالي عبارة “من هبّ من البشر وما دبّ من الدّواب”، وكنتُ حتى قراءة منشورك أعتقد أنّ الجميع يعرف أنّ الدّواب تدبّ والزواحف تزحف والدّجاج يدجّ والبشر يهبّ ومَنْ للعاقل وما لغير العاقل…ولأنّ البشر وحده يستحق أن تُحفظ كرامته مصداقًا لقوله تعالى: “ولقد كرّمنا بني آدم”، فالأرجح أنّ ما أثار حفيظتك ضدّي تحديدًا هو عبارة “مَن هبّ مِن البشر”، مع أنّ هذا الفعل يستعمله ملايين المغاربة يوميًّا منذ عشرات السّنين، وهم يصدحون بالنّشيد الوطني: هبّ فتاك لبّى نِداك، فهل كان الرّاحل الكبير علي الصّقلي يُهين الفتى المغربي، الذي هو نحن جميعًا، ويتعالى عليه؟ وهل أعذر جهلك باللّغة العربيّة لغةً للقرآن- الله، ولغةً للنّشيد- الوطن، ولغةً للدّستور- الملك. حسنًا، سأفعل. لكن، بالله عليك، ما حكاية أعلى العلياء هذه التي وجدتني أنظر منها إلى الناس، مع أنّ عنواني معروف للجميع، وهو تحديدًا الطّابق الأرضي من المغرب حيث أقضي سحابة عمري؟.

فاعلم، رعاك الله، أنّ العمر محض سحابة، ولكلّ امرئ ما أمطرَتْ سحابتُه في العاجلة، وأضعافَ ذلك خراجًا في الآجلة.

جناب العمدة المحترم..

أخذت عليّ أنّني أهمز وألمز وأسْتَتِر وراء الكلمات، وعذرُك عندي أنّك لا تقرأ، فلو كنت تفعل لعلمت أنّ ذلك يسمّى جِناسًا وطِباقًا واستعارةً وكِنايةً والتفاتًا وكثافةً وسوى ذلك مِمّا ورثناه عن السّلف الفصيح. فهذا مثلًا حسّان بن ثابت، شاعر الرسول يقول:

وإنّي لحلوٌ تعتريني مرارةٌ وإنّي لتَرّاكٌ لِما لَمْ أُعَوَّد

أمّا المرارة، بعضُ المرارة، فقد كتبتُ بها عن فاس ووضعِها المرير، في انتظار أن يحلو حالها فأتناولها بكل ما أملك من حلاوة، وأمّا ترك ما تعوّدتُ عليه فدونَهُ خرطُ القتاد.

جناب العمدة المحترم..

سَاءَكَ منّي أن شبّهتُ دار دبيبغ بدار الدّبغ لجهة الرّائحة، وقفزتَ على تحيّة شاسعة وجّهتها لأهل الدّار، فأَسْقَمْتَ منّي الأنف والأذن والحنجرة دفعةً واحدة، ونصحتني، جازاك الله خيرًا، بمراجعة الطّبيب. وأنا لا أملك سوى أن أردّ النّصيحة بأحسن منها.

أمّا الأنف، فأنصحك بنزهة ليليّة بحديقة الرِّيكس، لتتمتّع بالهواء العليل (من العِلَّة) والروائح المُقرفة (من القَرَف لا من القرْفة)، ولتتفرّج على المشرّدين من مختلف الأعمار وبائعات الهوى من مختلف الأثمان، ولتشهد بعضًا من حفل التخرّج الذي يُحييه يوميًّا خرّيجو فشل التسيير المستمر الذي، للنّزاهة، لا تتحمّل وزره وحدك. فهؤلاء كانوا في مثل عمر أولادك وأولادي، ومنهم من يفوق أبناءنا مادّةً رماديّة، وكان بإمكان الواحد منهم أن يتخرّج من البوليتكنيك لا من السّجن، وأن يسهر في الشانزيلزي لا في قمامة الرّيكس. وإنّي لأذكرهم بغصّة في الحلق، إذ أيّ مصير يلقَوْن الآن ونحن تحت القرّ والحظر؟.

وإذا وجدتَ دعوتي هذه إهانة، فأنت لست أحسن من سيّد الخلق الذي كان يأكل الخبز ويمشي في الأسواق، ولا أحسن من الفاروق الذي كان يتفقّد أحوال الرعيّة ليلًا تنزيلًا لمفهوم السّهر على أحوال الناس.

وأمّا الحنجرة فهي أمُّ الأصواتِ، ورقيّةً في الانتخابات، وهتافاتٍ في المُظاهرات. غير أنّ للحنجرة زوجًا أَكُولًا يُقال له البلعوم، في عنق المرء واحد منه، وفي رقبته غيره، وليس من الإنصاف ولا من الجميل التّضييق عليه، بتحويل بعض حصّته من الجيب إلى جيوب الأغيار.

وأمّا الأذن، فآلةٌ للسّمع، والسّمع حاسّة فقط، بينما الإصغاء فضيلة يُمتِّع بها الله من شاء من عباده. ولا شكّ، سيّدي، أنّ الله حباك بفضائل كباقي خلقه، ليس بينها فضيلة الإصغاء، بدليل تسرّعك في اقتراف ذلك الرّد الرّكيك والمفتقر للكياسة. وعلى العموم، ما من فضيلة تَجُبُّ سوء التّسيير. ولنا في فضائل عثمان بن عفّان رضي الله عنه أوضح عِبرة.

جناب العمدة المحترم..

إن حاسّة السّمع وهبها الله، لجلّ خلقه، مِمّن هبّ ومِمّا دبّ وزحف وطار وقفز وسبح ودجّ… أمّا فضيلة الإصغاء فقد اصطفى لها من خلقِه العاقلِ مَن شاء. وهذه الفضيلة بالذّات، عندي، هي أمّ الفضائل، حتّى إنّها يجب أن تكون على رأس سيرة أيّ مسؤول، إذ ما فائدة أن يُتقن هذا أو ذاك من المسؤولين عدّة لغات أجنبية، فيما هو لا يجيد الإصغاء الوطني ولا المحلّي حتّى؟.

وهنا، اسمح لي أن أذكّرك بأنّ عليًّا كرّم الله وجهه نصحنا بأن نُصغي أكثر ممّا نتكلّم، لامتلاكنا أذنين اثنتين وفمًا واحدًا.

جناب العمدة المحترم..

كتبتَ في منشورك أنّك لا تعرفني، ولهذه المناسبة السّعيدة أقدّم لك نفسي: أنا هو “الإنسان بِأَصْغَرَيْه قلبِه ولسانِه” كما عرّفه السّلف النّبيه، فقلبي حافظ ولساني لافظ، وحسبي ذلك ونِعْم بالله وكيلًا.

جناب العمدة المحترم..

وأنت تقرأ ورقتي عن فاس، وقفتَ مرّة عند “ويل للمصلّين” وأخرى عند “لا تقربوا الصّلاة”. وإذا كان الاجتزاء من كلام الله يحرّفه، فكيف الأمر مع كلام البشر؟ فمع أنّك لم تفهم المعنى والسّياق، وربّ العزّة لم تفعل، فقد وقفتَ عند كلمتيْ الكراهيّة وإبليس، وهما الكلمتان اللّتان كهربتا منك الخطاب، لا لشيء سوى لتماسِّهما في النّص مع كلمة مضيئة: الكرسي، حتّى وأنا لا أقصده كهربائيًّا كذلك الذي استورده ملك الحبشة كاميهاميها الثاني في حكاية مضحكة مُبْكِيّة كحكاية مربط السيّارة الأزرق، وإنّما قصدت كرسي المسؤوليّة الذي تمنّيت، ذات اشتباك قديم، على الشّركات أن تصنع منه نوعًا تسمّيه كراسي طيفال، حتى نضمن ألّا يلتصق بها بعض المسؤولين.

جناب العمدة المحترم..

في ردّك عليّ، أسهبت في الحديث عن القانون، مع أن لا موجب لذلك في ورقتي عن فاس، عدا آفة الفهم السّقيم. لذلك، اسمح لي أن أوضّح لك قليلًا:

في هذا الكون اللّانهائي، هنالك ما لا يُعدّ ولا يحصى من القوانين الإلهيّة والطبيعيّة وغيرها مِمّا لن يكتشفه الإنسان إلّا بعد دهور أخرى. هذه القوانين تُعرَف عادة بالنّواميس، وما من جماعة، على مرّ التاريخ، نظّمت مظاهرة تندّد بالشيخوخة أو بالجاذبية، وما من وقفة احتجاجية احتشد لها الناس ضدّ المدّ والجزر، وما من عريضة تمّ توقيعها لإسقاط الكسوف والخسوف.

وهنالك قوانين تشترك فيها كثير من دول العالم، وهنالك أخرى لكلّ دولة على حِدة، وهكذا نزولًا إلى المدن والفضاءات العامة والخاصّة والمدارس والبيوت… وكلّ هذه القوانين يتمّ تَحْيينها وملاءمتها والأخذ بعين الاعتبار ما آلت إليه الجماعة التي تُطبَّق عليها هذه القوانين، بمشاركة فعليّة منها نقدًا وتنديدًا وصراخًا وتوقيعًا وكتابةً وتمحيصًا. وإذا كان لي أن أضرب لك المثل لعلّك تعقل فلن أجد أبلغ من مدوّنة الأسرة، التي احتاجت إلى سنوات من النّضال، أقول النّضال ولا أقول المظاهرات حتى لا أتّهم بالهمز واللّمز. غير أن مدوّنة الأسرة تم إقرارها بالحكمة والآذان الصاغية من أعلى سلطة في البلاد، فهاتِ حكمتك وأنت في موقف أزرق أين هو من المدوّنة؟.

ولعلّ أروع ما قرأت عن قوانين المدن أنّ واحدة في منتهى الرُّقي تُجَرِّمُ الابتسام في الفضاء العامّ بفم تنقُصُه أكثر من سِنٍّ واحدة. وليس غريبًا عدم انتظام ساكنتها في مجموعات للتصدّي لهذا القانون بالاحتجاج، فمدينتهم توفّر لهم من رَغَدِ العيشِ حتى ترَفَ أن يضحكوا بكامل أسنانهم.

فهل بإمكان طُرُقات فاس أن تبتسم بأقلّ من مئات الحُفر؟ وهل بإمكان مصابيحها، وقد حلّ المساء، أن تقول “مساؤكم” بأقلّ من مِائة ظلامْ؟.

فما قولك في هذا الكلامْ؟.

كنت سأُقيل عثرتك مرّة أخرى، لولا أنّي أعرف فاس كما أعرف أصابع يدي اليمنى، وأزورها خمس مرّات في السّنة، وأجالس يوميًّا خيرة أطرها وأنظفهم يدًا، ولا يفوتني منها الآن سوى ما جدّ من حُفرها بعد الأمطار الأخيرة.

كنت سأفعل، صدّقني، بأن أعزو الأمر لنظريّة المؤامرة، لولا أنّ صُوَرَ فاس وڤيديوهاتها التي تجوب العالم الأزرق غير مُفبركة، لسبب بسيط ومرير في آن، هو أنّ ما مدينة، غير منكوبة، يمكن لأهل فاس أن يَقْتَبِسُوا منها هذا القدر من الفشل، وهو، للأمانة، فشلٌ تمّ تدشينه قبلك بسنوات.

واسمح لي أن أذكّرك بأنّ قانون المدينة ارتكب أكبر الجرائم في التاريخ. فهذه مطرقة أثينا قضت لسقراط بكأس الشَّوْكَرَان، هو الذي كان يقدح عقول شبابها بالأسئلة، فذهب إلى جبل الخلود حيث يراه العالم من أيّ مكان فيه، فيما ذهب قضاة أثينا إلى الرّبع الخالي، عفوًا، إلى الرّبع الخامل من التاريخ. وهذه مطرقة باريس، عاصمة الأنوار، قضت بإعدام لاڤوازييه، أبِ الكيمياء، الذي ابتكر نظامًا لإنارة المدن، فذهب إلى ذات الجبل ليخلد مع نظريّته الشّهيرة حول المادّة، فيما الذين حاكموه يعضّون الآن رفات أصابعهم في قبورٍ دارسة.

في هذا العالم، جناب العمدة، ثمّة مدن كثيرة جارت على أبنائها. وأبناء فاس، الذين عانوا من جورها، إنّما يصرخون الآن لرفع الجور في فترتك.

جناب العمدة المحترم..

في طريق المغرب نحو العدالة الاجتماعية والتّنمية الاقتصاديّة الكثير من الأذى. وإذا لم تكن للمرء القدرة على إماطة الأذى عن الطّريق، فليس أقلّ من أن يملك سبّابة سديدة تشير إليه وتحذّر منه. وحسبي أنّي أفعل، وقلمي سبّابتي. فأنا رجل ليس في بطنه عجين كما يقول أهلي في فاس، ولا بطّيخ أحمر كما يقول أهلي في مراكش، وليس في فمي ماء كما قالت العرب قديمًا… لكنّ في قلمي حبرًا صادقًا، أرجو ألّا يجفّ قبل دمي، أوْقفتُ مُعظمَه على الاشتباك مع ما يحدث في مُدّتي أيًّا تكن أطرافه. فأنا بهذا كاتب هادئ بقلمٍ يغلي، أمّا بغيره، فأنا حصاةٌ تسعى بروح جبل.

جناب العمدة المحترم..

لربّما كنتَ مُحاطًا بالكثير من الرّياء والمُرائين، فوجدتَ في كلامي جرعة زائدة من الصّدق أخرجتك عن جادّة اللّباقة في الردّ، الذي لم تكن في حاجة إليه أصلًا، طالما أنّ ورقتي تخوض في أمر المدينة بشكل عامّ، فأمرك بشكل خاص أهلُ فاس أهلٌ له. ولجهة الصّدق أذكّرك كم كان أبو ذرّ الغفاري مزعجًا في صدقه، ولذلك خلّده الصّادق الأمين بهذا الحديث: “ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجةً من أبي ذرّ”.

جناب العمدة المحترم..

وأنت تردّ عليّ وتتّهمني بأنّي لا أمارس السيّاسة بوجهٍ مكشوف، وتسوق كلمات من قبيل السّياسوي والانتخابوي وسواهما مِمّا يحتاج نُطقُه إلى حَوَلٍ في الفم، اِعلم سيدي أنّني لا أنتمي لا إلى حزب ولا إلى نقابة ولا إلى ودادية سكنية حتّى، وأنّني زاهد في الظّهور، وحتى إذا غادرت بيتي فإلى المقهى قصد القراءة والكتابة وقضاء الحاجة على من يستحقّ من الخلق.

أمّا بالنسبة للسّياسة، فليسمح لي جنابك بأن أعود بك إلى درس الخيمياء، ففي أنبوب الاختبار المغربي يوجد محلول السيّاسة ومسحوق حجر الفلاسفة والحبّة السّوداء والمادّة الرّمادية والصّعيد الطّيّب وغيرها، وهو منذ مدّة في منطقة الانعطاف، أمّا اللُّوَيْنَة الحسّاسة منه فهي الآن سماويّة تمامًا. أقول السّماوي، ولا ألمِّح إلى أزرق الغباء كما قد يُظنّ. فللسّماوي عند المغاربة معنى أرضيّ لا يتبادر إلى الأذهان إلّا مقرونًا بالنّصب والاحتيال، وآخرُ مشتقٌّ من السّماء تلكَ التّي يستمدّ منها البعضْ ليتمكّن في الأرضْ.

جناب العمدة المحترم..

منشورك على “فيسبوك” كان بمتنٍ وحاشيّة. أمّا المتن فهو ردّك الذي أنا بصدده الآن، وأمّا الحاشيّة فهي حاشيّتك، وبعض بطانتك التي لا أعرف أي نتن حال دون شمّها لتلك الرائحة، فراحت تُشَمِّتُك على فلتات الظهر التي بدرت منك عقابًا لأنفي الشاعري.

جناب العمدة المحترم..

وأنت تتصفّح عناويني على هسبريس، وتختار مُغرضًا ما يناسب نار ردّك المسلوق، افتقرت للشّجاعة فلم تذكر عناوين أخرى من قبيل رجال الدولة وصِبيانها، وخدّامها وحُشّامها، وحراك الرّيف، وضريبة الكوارث، وأرامل التاريخ، وعبقرية النّفس… وسوى ذلكْ من الحطب الشائكْ. فقد سبق لي أن اشتبكتُ مع غير قليل من المواضيع التي تهمّ البلدْ، ولم يتوعّدني أحدْ. وفي كلّ اشتباكاتي على مدى أكثر من ربع قرن، همزتُ ولمزتُ، بلا ويلٍ، وغمزتُ مِن كلّ قناة، بلا ثبور… وإذا كنتَ تتساءل: ألم يردّ عليك أحدْ؟ أقول: بلى، فمازالت هناك حكمة في البلدْ. ففي إحدى المرّات جاء الردّ رسوبًا جماعيًّا في امتحان المنارة، وبميزة سخط ملكي.

جناب العمدة المحترم..

حين كانت الدّولة تمرّر إصلاح صندوق التقاعد بمراهم لزجة لم أجبن ولم أسكت، “فلن يقولوا كانت الأزمنة رديئة، بل سيقولون لماذا صمت الشعراء”، كما تركها برتولد بريخت مُدوّيةً. لذلك كتبتُ رسالة مفتوحة للسّيد عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة، فصّلت له فيها تفصيلًا حول المسكوت عنه والمنطوقْ في أمر الصّندوقْ. صحيح أنّ الدستور كان لا يزال بأسنان الحليب، وأنّ فبراير كان لا يزال هو أقسى الشهور، لكنّي مع ذلك فوجئت بالحصافة وسعة الصّدر التي كانت للبلد. فمع أنّ رئيس الحكومة يكبر العمدة كما يكبر موضوع الصندوق الوطني للتقاعد موضوع مواقف السيّارات، فقد قوبلت رسالتي بترحيب سُررت لأمره. ذلك أنّها ما إن نُشرت في هسبريس حتى أخذها عنها الموقع الرّسمي لوزارة الوظيفة العموميّة، وهي تحت إمرة رئيس الحكومة، كما نشرها، يا لرحابة الصّدر، موقع نقابة حزبه.

وأنت؟ ألم تجد حولك من يهمس لك: اِلعن إبليس يا إدريس.

ثمّ قل لي: من أين جئت بهذا القدر الهائل من ضيق الصّدر؟.

لقد صدق من قال: لكلِّ امرئ من اسمه نصيب، أمّا أنا، فأصدقك القول، لا أملك لك نصيحة، فما من طبيب للرّبو السيّاسي. وفي انتظار إحداث هذا التخصّص، وقد بات مطلبًا مُلحًّا، سأصف لك بعضًا من دواء المسلمين في هاتين الحكايتين.

ففي الأولى أنّ عمر بن الخطاب أفتى في أمر الصّداق، وحين خرج من المسجد عارضته إحدى النّساء وأفحمته، فقال: “أخطأ عمر وأصابت امرأة”. وفي مناسبة أخرى قال: “الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا مِلت عدلوني”. وإذا كنت قد سكتُّ عن قولته الشهيرة: “إذا رأيتم منّي اعوِجاجًا فقوموه” فلفرط ما رأيت مِمّن يُعَوِّجون الاستقامة حيثما وجدوها.

وفي الثانية أنَّ أحد الخلفاء دعا أعرابيًّا إلى مائدته، فجعل هذا يأكل من الخروف المشويّ بشراهة، فقال له الخليفة: تأكل منه كأنّ أمّه نطحتك، فردّ عليه الأعرابي: وأنت تأكل منه كأنّ أمّه أرضعتك، فاستلقى الخليفة على ظهره من الضحك، ولم يُلوّح بمطرقة ولا بمنجل، هو الذي كان قادرًا على أن يأمر بالسّيف والنّطع.

جناب العمدة المحترم..

في ورقتي عن فاس أشرتُ إلى العدل الذي كان يخشى أن تعثر بغلة في بغداد، فهل وصل عدالتكم شيء منه، فتخشوْن، والزّمن غير الزمن، أن تعثر سيّارة في فاس، مع أنّ السيّارة ليست بغلة، بل هي إسطبل من الأحصنة.

جناب العمدة المحترم..

أما وأنّ “الدّين العمل”، فأقول لك: اِعمل بخشوع من يتضرّع إلى الله كي يتقبّل صلواته. وأما وأنّ “الدّين النصيحة”، فأنصحك بما نصحنا به الإمام عليّ كرّم الله وجهه: “لا تستوحشوا طريق الحقّ لقلّة سالكيه”. وإذا كانت لي حسنة على هذه النّصيحة، فلك عشرٌ على العمل بها، إذ سيراها الله ورسوله والمؤمنون.

جناب العمدة المحترم..

لقد كنتُ في فاس قُبَيْل الأمطار الأخيرة، ورأيتُ ما رأيت من بؤس مقيم، وسمعت ما سمعت من نِقمة موصوفة… وحين عدت إلى حال سبيلي، واصلت متابعة أحوالها كعادتي، في الصّحافة كما على الشّبكة العنكبوتية… ولا أخفيك، سيدي، فقد لمست ما لمست من كراهيّة لك ولمن سبقوك في تسيير المدينة والسّهر عليها بالنوم ملء جفونهم عن شواردها. وإذا كان الله تعالى يحذرنا من كنز الذهب والفضة، فكيف للمرء أن يكنز الكراهية والبغضاء والحقد وما إلى ذلك من المعادن الخبيثة…

كلمة “كراهيّة” يبدو أنّها أزعجتك كثيرًا. لذلك، أعتذر لك بشدّة، وأعترف لك بأنه تمّ التغرير بي ورأسي كبّة من الشّيب. فبعد يومين من ورقتي عن فاس، خرجت السّاكنة عن بكرة أبيها تندّد بصنيعي وتهتف باسمك. وكم كان رائعًا منها أن تبارك لك بالشّموع صفقة الرّبع قرن. وإذا كان لك من فخر فهو أن تكون عمدة لساكنة بهذه الأناقة، ساكنة مدينة تستحقّ أناقتها التي كانت… أمّا الضّغث على الإبّالة، فهو التّعليقات على منشورك في هسبريس، تلك التي أبانت أنّك لست محبوبًا في فاس وحدها، بل في كلّ ربوع البلاد. أدامها الله عليك محبّةً، وجعلها عابرةً للقارّات، آمين.

جناب العمدة المحترم..

إذا كنتُ قد أسهبتُ في الرّد عليك، فلكي أحظى منك بنعت أرقى: كثرة الأدب، فأكون بذلك قد أجَرتك ممّا لا يليق بك أن تصف به أدباء بلدك، وأكون قد أعطيت المثال بنفسي على أنّ السّطحية تُعدي.

أمّا الذين يعرفونني شاعرًا، وأنت لست واحدًا منهم، فيعرفون قدرتي على الإيجاز. فقد كان بإمكاني، وقد أصَبْتَني بجهالة، أن أردّ عليك ردًّا وخيمًا ومن كلمة واحدة: سلامًا.

جناب العمدة المحترم..

ليس دخول فاس كالخروج منها، فحتّى إذا كنت قد دخلت كمائها، فاعمل، رعاك الله، على ألّا تخرج كمائها.

جناب العمدة المحترم..

ها قد جادلتُك بالتي هي أحسن. وهل عندك أحسن من الله والرسول والصحابة والأبرار؟ فحسبي أنّهم القُدوة والأُسوة، وليسوا مجرّد أسماء بالخطّ العثماني على جدران البيت الكبير.

hespress.com