أصدر الأكاديمي المغربي محمد نور الدين أفاية كتابا جديدا اختار له عنوان “النهضة المُعلَّقة” عن المركز الثقافي للكتاب (432 ص). وقد انطلق المؤلف من اعتبار أن العديد من التحولات في الفكر والتاريخ تُبين أن مفاهيم المعرفة والحداثة والنهضة في حاجة مستمرة إلى مراجعة وإلى إعادة تحديد، حسب السياقات والتجارب؛ كما هي في حاجة إلى الاجتهاد لإزاحة بعض الأبعاد الرومانسية و”السحرية” التي كثيرا ما تحضر، بأشكال مختلفة، عند التوق إلى مشروع نهضوي، أو إلى مجتمع يتطلع إلى الصعود.

ويرى أفاية أنه إذا كانت النهضة هي الوعي بالتأخر والدعوة إلى تخطيه، فإن الإصلاح هو بالوعي بالاختلالات التي تعتري مجتمعا من المجتمعات، وبالفساد الذي يستشري فيه، والعمل على تجاوزه، خصوصا أن النهضة أو الإصلاح يستلزم توافر مشروع ونزعة إرادية تعمل على خلخلة أوضاع تاريخية قصد إحداث التغييرات المطلوبة.

ويلح صاحب الكتاب، في أكثر من فصل، على أن فعل التفكير في النهضة أقرب إلى الانخراط العملي منه إلى الاعتبار المعرفي المحض، مهما كانت الأهمية التأسيسية لهذا الاعتبار. وهذا هو الهمّ الناظم لفصول كتاب “النهضة المعلقة”، الذي يلاحظ صاحبه أن الفكر العربي لم يكف عن المطالبة، طيلة القرن العشرين، بنقد النماذج التكرارية التي تعيد إنتاج الماضي، والدعوة إلى بيئة حاضنة للإبداع؛ غير أن واقع الأمر يثبت أن مجتمعاتنا تعاني من خصاص كبير على هذا الصعيد، لأن أطر استقبال الحداثة يغلب عليها التقليد، المتمثل في الذهنيات، وفي التشكيلة الاجتماعية، وفي التسلطية، وفي العلاقة بالمرأة، وبفوضى المدينة، وفي النقص الظاهر في الثقافة العصرية، وفي مختلف مظاهر مقاومة تلقّي الجديد.

وتوقف محمد نور الدين أفاية عند ما أسماه بمفاجآت التاريخ التي لا تسعف، بالضرورة، إرادة النهضوي أو الإصلاحي في مشروعه بسبب تضافر قوى اقتصادية واجتماعية وسياسية فاعلة تعرقل مسار الإصلاح، أو بسبب ضغوطات القوى الخارجية؛ ملاحظا أن الوعي النهضوي تشكَّل، منذ البدء ولا يزال، على قاعدة وعي شقي بالفارق بين مختلف تجليات التأخر وواقع النهضة التي يقدمها لهم الآخر، كيفما كان هذا الآخر، بطرق لا تتوقف عن التجدد.

وتُبين فصول كتاب “النهضة المُعلَّقة” التي عالجت موضوعات من قبيل التأخر والإصلاح والدولة، وصور الآخر، والتواصل والتعددية والمجال العام، والتواصل الثقافي وأبعاده السياسية، والوعي المدني وقضايا المدينة، وتحولات الإبدال المعرفي ومسألة النهضة، معتبرا أننا نعيش واقعًا تاريخيًا وسياسيًا لا نملك تَرَف قبوله أو رفضه، فضلا عن أنه يبرز، بوضوح، أنه لا رجاء على من يركن إلى الدعوة إلى بناء الحاضر والمستقبل اعتمادا على الماضي، أو من يراهن على التقليد. كما أنه بقدر ما يتعين استنكار التضخم الكبير للدولة على حساب المجتمع يجب الاحتراس، في الآن نفسه، من مخاطر “لغة السوق” أو منح الأفضلية للخاص على العام، أو الدخول في عملية “إصلاح” سياسي سطحي تحت عنوان “الديمقراطية”، أو التعويل على المجتمع المدني فقط، أو الاكتفاء بإدماج مبادئ حقوق الإنسان. فالأمر يبدو، حسب ما يعرضه الكتاب، أكثر تعقيدا من مجرد إطلاق شعارات، حتى ولو كانت تنويرية أو ذات منزع تحديثي.

من هنا، ارتأى محمد نور الدين أفاية من الضروري مساءلة موضوع النهضة، وإدخال ما يلزم من النسبية على الفهم “المثالي” الذي يمنحها لها بعض المفكرين والمثقفين؛ لأن الاختراقات والتحولات الجذرية التي وقعت على أنماط الحياة والمؤسسات والممارسات وعلى مرجعيات التفكير في الوجود الاجتماعي والسياسي والثقافي المغربي والعربي، لم تعد -هذه التحولات- تسمح بقبول خطابات التشاؤم المطلق.

لذلك، يتعين الإقرار، حسب الكتاب، بأن ما شهدته مجتمعاتنا من تغيرات طيلة القرن العشرين وعقدي القرن الجاري، مهما كانت مصادرها وعواملها الداخلية منها والخارجية، سمحت بنوع من أنواع التقدم في مجالات بعينها. ولذلك، لا بد من التخفيف من نزعة التشاؤم.

من جهة أخرى، لم يعد من الممكن حسب الأكاديمي أفاية قبول خطابات التبرير الساذجة التي تحتفل بـ”إنجازات” تاريخية للخروج من التأخر والتخلف، باعتبار أن ما نعرفه فيما تبقى من العالم العربي من تَغوُّل للاستبداد وإهانة الكائن في حالات، ومن خراب في وضعيات أخرى، أو من انصياع لسياسات تدمير مقدرات العالم العربي بالعودة به إلى ما قبل الدولة، بفعل تدخلات قوى إقليمية ودولية شرسة، وتواطؤ أنظمة محلية في حالات ثالثة.

في ضوء هذه المعطيات كافة، يرى الكتاب أنه لم يعد ممكنا إعادة صياغة نفس مفردات خطاب النهضة، ذات النزعة الرومانسية والمُتخيلة منها بالخصوص، بقدر ما يتعين تفكيك عناصرها على ضوء الوقائع ومتغيرات أنماط التفكير، والانخراط جديا وبشكل إرادي، بالرغم من كل العوامل السلبية الموجودة فعلا، في جعل المستقبل مرغوبًا فيه.

hespress.com