مع بداية سنة 2021 ( فاتح يناير 2021) يجد المرء نفسه حائرا أمام العديد من المستجدات والتحديات غير العادية وغير المتوقعة. وضعية اكتست طابعا عالميا فرضت علينا ولا زالت تفرض نفسها بقوة على الإنسانية أينما وجدت. وضعية حتمت علينا، كيفما كان مستوانا الاجتماعي والاقتصادي والاعتباري، إعادة النظر في كثير من المسلمات الحياتية والبديهية التي كانت تشغل بالنا وتتمثل في البحث عن العيش الكريم.
كان شغلنا الشاغل هو العمل من أجل المزيد من الديموقراطية وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية وتحقيق المناصفة بين الجنسين وحرية التعبير وتشجيع كل السبل التي يمكن أن تؤدي إلى التنمية المستدامة من شغل لائق وتعليم جيد وتغطية صحية للجميع وسكن تتوفر فيه الشروط الإنسانية التي تحترم الخصوصيات الثقافية المغربية …
كنا نواجه ضغوطات العولمة الشرسة ورغبتها في فرض نموذج اقتصادي قوي وهجين لاتهمها الخصوصيات الثقافية والحضارية للشعوب، بل همها الوحيد هو الرفع من الإنتاج المادي والسيطرة على الأسواق ذات الربح الكثير. هذه الوضعية أدت إلى حروب اقتصادية وتجارية بين القوى العالمية الكبرى. ورغم شراستها فقد استطاع العالم التكيف مع متطلباتها المتعددة. ولا زالت الدول الفقيرة والسائرة في طريق النمو تؤدي فاتورتها إلى حد اليوم ( 2021).
ولكن … ما لم يكن في حسبان العالم بأكمله هو ظهور وباء فتاك، بداية من أواخر سنة 2019 بمدينة وهان بالصين سمي في حينه ب فيروس” كورونا” أو بـ” كوفيد-19 ” “Covid-19 ” . مما جعل السؤال ينتقل من البحث عن مصادر تحقيق العيش الكريم إلى سؤال وجودي أكثر عمقا ودلالة يمكن اختصاره بعد تطور الوباء وشراسته وفتكه وعجز العلم بكفاءاته ومختبراته في مواجهته فأصبح السؤال ” هل سأعيش؟”.
إن ما يميز الإنسان عن باقي المخلوقات المتواجدة على الكرة الأرضية هو قدرته على التكيف مع المستجدات كيما كان نوعها. فلولا هذه القدرة لنقرض الإنسان منذ زمن بعيد كما هو الشأن لمجموعة من الحيوانات التي لم تستطع مواجهة بعض الأمراض أو التغيرات المناخية الفجائية. إن الله عز وجل أكرم الإنسان بهذه الخاصية – القدرة على التكيف – وزوده بذكاء خارق يختلف مستواه من فرد إلى آخر مما يجعل الذكاء الجماعي للإنسانية قادرا على تجاوز المستجدات كيفما كان نوعها، سواء كانت من صنع الإنسان مثل الحروب أو ناتجة عن ظواهر طبيعية غير منتظرة. وهذا ما يزرع الأمل في الحياة والاستمرار في العمل من أجل العيش الكريم.
لذلك فالجواب حول السؤال ” هل سأعيش؟ أقول بدون تردد ” نعم سأعيش” وأنا واثق بأن سنة 2021 ستكون أحسن بكثير ليس فقط من سنة 2020 ولكن من جميع السنوات التي مرت. فالزمن الجميل هي اللحظة التي أعيشها الآن. علي باستثمارها والاستمتاع بها لأنها إذا مرت فلن تعود مرة أخرى مصداقا لقوله عز وجل “ولك الساعة التي انت فيها”. أما الماضي فقد مر بمحاسنه ومساوئه ولن يعود، أما المستقبل فهو غامض ولا أتحكم فيه “ولا يعلم الغيب إلا الله”.
فمنذ ظهور وباء كورونا انخرط العالم في حرب جماعية ضده بحثا عن دواء فعال لمواجهة هذا المرض. واستطاع العلماء في المختبرات من انتاج لقاحات تحمي الإنسانية من هذا العدو الفتاك. إنها حرب جماعية للإنسانية جمعاء ضد عدو غير مرئي يريد الفتك بها. واستطاع الذكاء الجماعي فعلا أن ينتصر وقد بدأت أغلب الدول، إن لم أقل كلها، تتوصل بالجرعات الضرورية للتلقيح منذ أواخر دجنبر 2020 وبداية يناير 2021. وهذا ما يضمن استمرارية الحياة البشرية وقدرة الإنسان على التكيف مع الظروف المؤلمة التي خلقتها جائحة كورونا.
فما العمل إذن؟
ربما الجواب على هذا السؤال ليس سهلا كما يظن البعض. فهو مرتبط بالأساس بسلوكات وتصرفات الإنسان مع نفسه أولا ثم مع الآخرين ثانيا.
وفي هذا السياق يمكننا اعتبار جائحة كورونا فرصة ثمينة لخلخلة الأفكار وإظهار أن كل ما انتجه البشر وما وصل اليه من تقدم علمي وتكنولوجي غير قادر على مواجهة جرثومة بسيطة في حجمها لكنها قوية في فعلها لا ترى بالعين المجردة، موجودة في كل مكان وتنتقل بشكل سريع بين البشر. ففي ظرف وجيز أغلقت المدارس والمعاهد والجامعات وأغلقت الأجواء على حركة الطيران وأوقفت الإنتاج الاقتصادي والنشاط التجاري وفرضت الحجر الصحي وفرقت بين الأسر وأرغمت علينا التخلي عن سلوكاتنا الحميمية والعاطفية المعتادة مخافة الابتلاء بالوباء…
إن العالم يتجه اليوم إلى إرساء سبل العيش المشترك بين مكوناته البشرية على سطح الكرة الأرضية بعد أن أظهرت جائحة كورونا أن الإنسان ضعيف أمام الكوارث الطبيعية مهما وصل من تقدم في المجال العلمي والتكنولوجي ومهما توفر لديه من جاه. هذا المعطى يحتم على الجميع مراجعة مجموعة من القناعات التي يومن بها ومجموعة من السلوكات التي يستعملها لترجمة هذه القناعات.
كل هذا جعلنا نتساءل إلى متى سيبقى العبث سائدا في الكون؟ هذا العبث المتمثل في التفنن في إنتاج أسلحة الضمار الشامل وفي تسخير العلم وكفاءات العلماء في اختراع وسائل أكثر شراسة وفاعلية في القضاء على الآخر وفي خلق بؤر التوتر والحروب في مختلف مناطق العالم وفي استغلال ثروات شعوب مستضعفة ونشر المجاعة بها وفي تغدية الصراعات الاثنية وتشجيع ثقافة الإقصاء ومحاربة التحرر من مخلفات الاستعمار وطمس الهويات وكل ما هو حضاري مشرق مرتبط بالتاريخ …..
لذا حان الوقت أن يتشكل ذكاء جماعي جديد يتخلى عن ثقافة المؤامرة والانتقام والإقصاء والرغبة الجامحة في السيطرة وزع الخوف من المجهول…، ويحل محله ذكاء إنساني متشبع بقيم الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والمساوات والحرية والتضامن والتسامح… وكل ما يمكن أن يساهم في تحرير طاقات الأفراد والجماعات من معتقدات خرافية تكبلها وذلك لجعلها منتجة من أجل تحقيق التنمية وإرساء اسس الأمل في الحياة والثقة في الحياة.
وفي هذا السياق فإن التربية ومختلف العلوم المرتبطة بها هي المدخل الأساس لبناء مجموعة من الممارسات السلوكية التي تضمن لنا التفكير الجماعي في سبل العيش المشترك عبر ممارسة مهارات حياتية تنبعث من واقع من حضارتنا وثقافتنا الخاصة وكذلك من الجوانب المشرقة من الحضارة والثقافة الإنسانية بصفة عامة.