مقدمة:

من المسلم به أن الجريمة باعتبارها ظاهرة اجتماعية، ليست وليدة العصر الحالي، وإنما يرتبط ظهورها بظهور الإنسان نفسه، ومن تم بدأت هذه الظاهرة الإجرامية تتطور بتطور الإنسان، وتتنوع بتنوع وتعدد أنماط حياته، ذلك أن الجريمة في الوسط الحضري ليست نفسها المرتكبة في المجالات القروية، وهكذا دواليك إلى أن استحدثت جرائم جديدة في الوقت الراهن، تخطت كل الحدود الجغرافية للدولة الواحدة، بفعل التطور الحاصل على المستوى التكنولوجي والمعلوماتي. مما دفع وبإلحاح المنتظم الدولي إلى التعاون في هذا المجال لكبح الإجرام العابر للقارات، وأيضا إيمانا منه بأهمية المحافظة على حق الإنسان في العيش، وفي سلامته الجسدية.

وفي هذا السياق ظهرت جريمة حديثة باتت تهدد البلاد والعباد، ونقصد هنا الإتجار بالأعضاء البشرية التي تمس اقتصاد الدولة وكيانها السياسي، وتشكل انتهاكا صارخا لحرية وكرامة الأفراد. إذ يعتبر هؤلاء بمثابة سلعة تباع وتشترى، أو ما قد نصطلح عليه بالتجارة في قطع الغيار البشرية. وبالتالي فالحديث عن حقوق الإنسان يستدعي بالضرورة الوقوف عن الانتهاكات والجرائم التي تستهدف جسم الإنسان، وتنال منه تحت أية دريعة كانت أو أي مسمى.

وجدير بنا في هذه المناسبة التذكير بأن تجارة الأعضاء البشرية أخذت في الانتشار على نطاق واسع في الداخل والخارج، وأضحت تقودها مافيات، ومنظمات إجرامية أنشأت لها سوقا أسوداء، تجني من وراء هذه التجارة الأموال الطائلة، ضاربة عرض الحائط المبادئ الكونية، والحقوق الأساسية التي يحيا ويعيش عليها الإنسان.

وتماشيا مع هذا الوضع المقلق، وحرصا على حقوق أفراد مجتمعه، ونظرا لخطورة تجارة الأعضاء البشرية، وانعكاساتها السلبية والوخيمة، قام المغرب بالتفطن لهذه الآثار والسلوكات الذميمة، وسارع إلى التصدي لهذه الظاهرة، عبر إصدار قانون الإتجار بالبشر الغني بالمقتضيات الزجرية، لكنه لطف من هذه الحدة، وقلص شيئا ما من نطاق ودائرة التجريم، بأن أصدر قانون يتعلق بالتبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية.

فكيف واجه المشرع المغربي جريمة الإتجار بالأعضاء البشرية، وما هي الآليات التي رصدها لذلك؟

وما هي الأحوال التي أباح فيها زرع والتبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية؟

للإجابة عن هذين السؤالين يتطلب منا الأمر التطرق لآليات المكافحة (أولا)، ثم نرجئ الحديث عن إباحة التبرع بالأعضاء في نقطة ثانية (ثانيا).

أولا: آليات مكافحة الإتجار بالأعضاء البشرية.

اثنان لا يختلفان في كون جريمة الإتجار بالّأعضاء البشرية تشكل انتهاكا صارخا لكافة معاني الإنسانية، لاستهدافها سلامة الجسد وأعضاءه التي تعمل بتكامل لأداء الوظائف الحيوية، كما أنها – الإتجار بالأعضاء البشرية – تصنف ضمن الجرائم العابرة للقارات، أي ذات بعد دولي، ويشترك في تنفيذها أكثر من جاني تحت أسماء ومسميات مختلفة ومتعددة (بائع، مشتري، سمسار، زبون…)، لهذا انخرطت المملكة المغربية مع الجهود الدولية للتصدي للجريمة بإصباغ الصفة الجرمية على الإتجار بالأعضاء البشرية، ورصدت لمكافحتها عدة آليات، من أهمها آلية التشريع، كما سخرت مختلف مكونات المجتمع المدني، والإعلام بكل أنواعه للقيام بالتوعية والتحسيس بخطورة وجسامة الآثار التي تنتج عن المتاجرة بالأعضاء البشرية.

هذا، وبعد أن أصدر المغرب قانون الإتجار بالبشر رقم 2714 في 25 غشت2016، فقد أورد ضمن ما أورد فيه تجريم الإتجار بالأعضاء البشرية، حيث اعتبر هذه التجارة صورة متميزة من صور الإتجار بالبشر، وهو ما يستشف من مضمون الفصل 1-448 الذي جاء فيه “…يشمل الاستغلال جميع أشكال الاستغلال الجنسي، لاسيما استغلال دعارة الغير، والاستغلال عن طريق الموارد الإباحية بما في ذلك وسائل الاتصال والتواصل المعلوماتي، ويشمل أيضا الاستغلال عن طريق العمل القسري أو السخرة أو التوسل أو الاسترقاق أو الممارسة الشبيهة بالرق أو زرع الأعضاء أو نزع الأنسجة البشرية أو بيعها أو الاستغلال عن طريق إجراء التجارب الطبية على الأحياء…”

وبعد أن تستجمع جريمة الإتجار بالأعضاء البشرية لكافة شروطها وأركانها المتطلبة قانونا. فإن المشرع قابلها بجزاء جنائي يتناسب مع جسامتها، حيث نص على نوعين من العقوبة، العقوبة في صورتها العادية، وعقوبة في صورتها المشددة، أما الصورة الأولى فهي التي تضمنها الفصل 2-448 من مجموعة القانون الجنائي والمعاقب عليها بالسجن من خمس إلى عشر سنوات وبغرامة من 10000 إلى 500000 درهم. أما الثانية فهي التي نص عليها الفصل 3-448 من نفس القانون والذي رفعها إلى السجن من عشر إلى عشرين سنة وغرامة من 100000 إلى 1000000 درهم.

ولم يقف المشرع عند هذا الحد بل أصدر في 2018 مرسوم يتعلق بتشكيل لجنة وطنية تقوم بتنسيق إجراءات مكافحة الإتجار بالبشر والوقاية منه، وقد تم تنصيب هذه اللجنة الوطنية من طرف رئيس الحكومة في 23 ماي 2019.

ونشد الانتباه هنا بالقول أن جريمة الإتجار بالأعضاء البشرية وكما مر معنا أعلاه، هي جريمة في حقيقتها إتجار بالبشر مما يجري عليها يجري على كافة الجرائم التي نظمها القانون 27.14، والذي ستعنى اللجنة الوطنية بتنسيق مكافحتها.

وتتلخص عموما أدوار اللجنة الوطنية فيما ذهبت إليه المادة السادسة من القانون 27.14 أعلاه، ونعني هنا تقديم اللجنة مقترحات للحكومة، والتنسيق والتعاون مع باقي السلطات العمومية، والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية التي تعنى بمكافحة الإتجار بالبشر، وكذا اقتراح التدابير اللازمة لمشاريع مساعدة ضحايا الإتجار بالبشر، وإعداد قاعدة بيانات، أو المساعدة في إعدادها لتجميع المعطيات والمعلومات المتعلقة بمنع الإتجار بالبشر…

ثانيا: إباحة التبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية.

إن التشريع الوطني حريص كل الحرص على التصدي ومكافحة كل ما من شأنه المساس بحرمة جسد الإنسان وكرامته، وهو ما يظهر من خلال مضامين القانون 27.14 السالف الذكر/ والذي تعرض لتجريم الإتجار بالأعضاء البشرية، لكنه ولضرورات معينة، وحماية لحياة أشخاص آخرين في حاجة ماسة لأنسجة وأعضاء بشرية، تم رفع التجريم في هذه الحالة، ونظم ذلك بموجب القانون رقم 16.98 المتعلق بالتبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية وأخذها وزرعها، الصادر في 25 غشت 1999.

وعيله فقد تعامل المشرع المغربي مع عملية زرع أو نقل الأعضاء والتبرع بها معاملة صارمة، بأن سطر واشترط شروط جوهرية في القانون 16.98. والتي تستوجب في مجملها الموافقة الصريحة من المتبرع على تبرعه وقبول المتبرع له زرع الأعضاء، وذلك برعاية رئيس المحكمة الابتدائية، أو قاضي منتدب معين من طرف رئيس المحكمة الابتدائية الكائن بدائرتها محل إقامة المتبرع، بالإضافة إلى ضرورة حضور طبيبين معينين من طرف وزير الصحة يقترحهما المجلي الوطني لهيئة الأطباء الوطنية، مع التأكيد على أنه لا يجوز أخذ عضو بشري من شخص حي للتبرع به إلى من أجل المصلحة العلاجية لمتبرع له معين، ويجب كذلك أن تتم عملية الزرع والأخذ في مستشفى عمومي معتمد.

كما نضيف في هذه النقطة أنه لا يجوز أخذ عضو لأجل زرعه من شخص حي قاصر، أو راشد يخضع لإجراء من إجراءات الحماية القانونية، إلا في حالة ضيقة وهي انعدام بديل علاجي.

والمشرع المغربي في القانون 16.98 عندما أباح ورخص بزرع الأعضاء البشرية لم يقصر ذلك على الأحياء، بل خص نصوص حتى بالأموات كذلك. بعد توفر شروط محددة، من أهمها أن المتبرع يصرح ويعبر وهو على قيد الحياة عن إرادته ترخيصه بأخذ أعضاءه، أو اعضاء معينة منه بعد مماته، حيث يسجل حينها تصريح المتبرع المحتمل لدى رئيس المحكمة التابع لها إقامة المتبرع، أو لدى القاضي المعين خصيصا لهذا الغرض، دون أداء الصوائر لدى كتابة الضبط، التي توجهه إلى جميع المستشفيات المختصة في أخذ الأعضاء من الأموات.

إن الصرامة التي نظم بها المشرع أخذ وزرع الأعضاء البشرية لا تتلخص فقط في سرده للشروط المتطلبة، بل عمل والحالة هاته على سن أحكام زجرية تصل فيها العقوبة إلى الحبس والغرامة وهو ما تم تأكيد بموجب المواد من 30 إلى 41 من القانون 16.98.

خاتمة:

في نهاية دراستنا التي خصصناها لموضوع الإتجار بالأعضاء البشرية نخلص إلى أن هذه الظاهرة باتت تنتشر بشكل غير مسبوق باستغلال الجناة للعوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للضحايا، وجني هؤلاء الجناة لثروات طائلة دونما وضع أي اعتبار لكرامة الإنسان حيا أو ميتا. لذلك سارع المشرع وهو المتشبع بروح التعاون مع المنتظم الدولي والمنخرط في مسلسل كبح الإجرام العابر للحدود، والحريص على حقوق أفراد مجتمعه، إلى تجريم الإتجار بالأعضاء البشرية، مع تخصيص عقوبات زجرية لتحقيق هدف العدالة الجنائية لاسترجاع المراكز الاجتماعية إلى ما كانت عليه. إلا ان المشرع سمح في حالات خاصة، وتحت شروط محددة إباحة زرع الأعضاء البشرية وأخذها لأجل المصلحة العلاجية وفقط، لمتبرع له معين.

دكتور في الحقوق/باحث في العلوم الجنائية

hespress.com