انتهى وَهمُ تطويع الطبيعة لتمنح البشر السعادة والمال والحرية، حين أصبح الشغف بالاستهلاك والشهرة والقوة هو الموضوع المسيطر على الحياة، ولمّا غدت المتعة في تلبية الرغبات والامتلاك السّمة التي تطبع المجتمعات، فإنّ الإنسان المعاصر لم يعد باستطاعته فهم روح مجتمع لا يتأسّس على الجشع.
يحمل التقدّم الصناعي والاقتصادي والتقني في طيّاته مخاطر قد تقضي على الحضارة الإنسانية، لأنّ تحكّمه في تفكير ومشاعر وذوق الإنسان قد يجعل هذا الأخير لا إنسانيا. لقد صنعت التغيّرات الاجتماعية إنسانا جديداً ومجتمعا جديداً. وتغيّر الطبع المجتمعي المُشجّع على الأنانية الذاتية التي تقود إلى الصّراع الطبقي اللاّنهائي. وإذا فضّل المرء نفسه وغدت الأنانية أساساً من الأسس الأخلاقية، سُفّه البشر وسُلبت منه القدرة على اتباع مصلحته الحقيقية.
يقدّم بعض الأشخاص الذاتيين وأيضا السياسيين، نظرياً، تدابير ناجعة لتجنّب الكارثة، لكنهم ربما لم يشغّلوا في الوضع المتأزّم الحالي أهمّ وأكبر غريزة، وهي غريزة حب البقاء، ولم يقوموا بأيّ شيء يذكر لتجنّب الخطر المحدق بالإنسان. فهل هناك من بديل عن الكارثة؟
ناقش المفكر والمحلّل النفسي الألماني إيريك فروم هذه الأفكار وغيرها في آخرِ كتابٍ ألّفه قبل وفاته في نهاية سبعينيات القرن الماضي. ويعدّ نجاح كتابه المذكور والمعنون بـ”الامتلاك أو الوجود” والذي عَرف رواجا قياسيا منذ نشره عام 1976 وإلى حدود يومنا هذا، دليلاً على الحاجة الماسّة إلى الفكر لمحاولة تجاوز الوضع الحالي في العالم. فما وصل إليه الإنسان اليوم هو حضارة تشجّع على هدم الإنسان لذاته بذاته، وإذا لم يعِ هذا الأمر ويتحرّر من الإكراهات البدنية والنفسية والاجتماعية ومن استهلاكه الأعمى لكلّ ما يساهم في تبليده، وإذا لم يمر إلى مرحلة جديدة في تطوّره ليصبح عاقلا لا مالكا لأشياء تملكه، فإنه منقرض لا محالة.
تطلّبت ترجمة كتاب “الامتلاك أو الوجود” (جداول 2019) إلى اللغة العربية، من المترجم والباحث المغربي حميد لشهب أكثر من سنتين عكف خلالها على الاهتمام بالوفاء للترجمة والتزام الحياد العلمي ووضع أسئلة ملحة على كلّ وارث شرعي لتركة فروم الفكرية. فهذا الكتاب المهم الذي يعدّ عُصارة فِكر فروم يحمل رسالة عظمى تفتح أفقا شاسعا لوعي القارئ وتستوجب تسليمها له بكل أمانة.
ميّز فروم في الجزء الأول من الكتاب بين الامتلاك والوجود، متسائلاً كيف يمكن أن يكون هناك اختيار بين الامتلاك والوجود في حضارة هدفها الأسمى الامتلاك أكثر فأكثر محدّدة قيمة الفرد بالمادة، ليبدو وكأن جوهر الوجود هو الامتلاك، ومن لا يملك شيئا لا يساوي شيئا؟! فالامتلاك والوجود أساسا نمطان مختلفان للتجربة الإنسانية، وقوة كلّ واحد على حدة هي التي تحدّد الاختلافات بين طباع الأفراد وبين الطباع الاجتماعية المغايرة.
يتأسّس المجتمع على ركائز ثلاث، الملكية الخاصة والربح والسلطة، إنه مجتمع موجّه نحو الربح كأساس لنمط الحياة الامتلاكي. يذهب فروم في تحليله للفروق الأساسية بين نمط الحياة الامتلاكي والوجودي في الجزء الثاني من كتاب “الامتلاك أو الوجود”، إلى توضيح المبدأ الشائع في هذا المجال وهو: “ليس من حق أيّ كان أن يسألني أين وكيف حصلت على ما أملكه أو ماذا أعمل به. إنّ حقي في هذا الإطار غير محدود ومطلق، ما دمت لا أقوم بشيء ضد القانون”. لكن حسب فروم فإن الأغلبية الساحقة لا تملك أيّ شيء، وهنا يطرح السؤال العويص، المتمثل في كيفية تطوير البشر الذين ليس لهم مِلك لشغف الحصول على مِلكٍ ما والمحافظة عليه؟ كيف يمكنهم الشعور بأنهم مالكون من دون أن يكون لهم مِلك؟
يرى فروم بأن غالبية الناس تعرف الكثير عن نمط الحياة الامتلاكي مقارنة بنظيره الوجودي، وذلك لارتباط الامتلاك بالأشياء والوجود بالتجربة، فالبنية أو التركيب السيكولوجي للشخصية متفرّدة ويستحيل فيها التماثل بين كائن وغيره، مع استحالة الإحاطة بالفعل السلوكي الواحد. يصل المرء إلى الوجود حين يفهمه عبر إزاحة القناع وتجاوز القشور وبلوغ الحقيقة.
يسمّي فروم نتيجة التفاعل بين الأساس النفسي الفردي والأساس السوسيو-اقتصادي بالطبع المجتمعي، وهو الذي يمنح النظام الاجتماعي استقرارا، كما قد يقدّم مادة متفجرة تقضي عليه.
يلخّص إيريك فروم في الجزء الثالث من الكتاب، استنتاجات الفلاسفة والمنظرين في ما يخصّ الوضع الراهن للعالم. فالكوكب اكتظّ بالسكان وتعسّرت إمكانيات البشرية في إنتاج ما يكفيها من الغذاء، ولم يعد بالإمكان إيقاف تلوّث البيئة وارتفع احتمال ظهور أوبئة قاتلة في العالم واندلاع الحروب. وكلّ هذا قد يؤدي في الأخير إلى القضاء على الحضارة، بل محو الإنسان من على وجه الأرض.
وضع فروم في الجزأين الرابع والخامس شروطاً بإمكانها دفع التوجّه الامتلاكي إلى التراجع لصالح نظيره الوجودي، وبالتالي إنقاذ الإنسانية من كارثة نفسية واقتصادية. مؤكداً على اقتناعه بأنه في الإمكان أن يتغير طبع الإنسان بالفعل، إذا توافرت تلك الشروط المتمثّلة في وعيه هذا العناء والتعرّف على أسبابه والتطلّع إلى إمكانية تجاوزه وفهم لزوم اكتساب معايير سلوكية محددة وتغيير طريقة عيشه الحالية. ستكون النتيجة بناء مجتمع جديد تتجلّى الخطوة الحاسمة لبلوغه في توجيه الإنتاج الصناعي إلى “استهلاك صحي وعقلاني”.