تعتبر الانتخابات إحدى النتائج التي تترتب على علاقة المواطنة التي تربط المواطن بالوطنیة، ولأن المواطنة تعني العلاقة القانونیة القائمة بین بلد ما (الوطن) وبین فرد (المواطن)، ومن شأن هذه العلاقة أن تمكن هذا الفرد أي (المواطن) من اختیار من یمارس السلطة السیاسیة نیابة عنه: لأن الانتخابات هي سلطة ممنوحة بالقانون لأفراد الأمة أي (المواطنین) للمساهمة في الحیاة العامة بالنیابة؛ أي عن طریق الإعراب (الإفصاح) عن إرادتهم فی ما یتعلق بتعيین حكام وتسییر شؤون الحكم. وعلیه تعتبر الانتخابات من أهم وسائل إسناد السلطة السیاسیة في الدول الديمقراطية لأنها تعني المشاركة الفعلیة للأفراد في الحیاة السیاسیة وتكوين حكومة دیمقراطیة تستند إلى إرادة شعبیة.

وتشكل الانتخابات محطة أساسية في المسلسل الديمقراطي لأي دولة، نظرا لكونها نقطة ارتكاز تؤسس لإنتاج نخب مستقبلية قادرة على حمل هموم وانتظارات الطبقة الاجتماعية، وقادرة على بلورة استراتيجيات تنموية تصب في مصلحة البلاد. فالانتخابات ليست فقط مرحلة يجب نسيانها أو تناسيها، وإنما هي مرآة عاكسة للتوجهات والخطط والنهج الذي سيعتمده الفاعل السياسي طيلة مدة انتخابه. فخلال هذه المدة سترهن البلاد وستكون إما فأل خير عليها أو عكس ذلك، وهو ما يرجع بالأساس لمدى إنتاج نخب سياسية قادرة على تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقها، تتحلى بالكفاءة والجودة، وذات رصيد كاف من التراكمات المرحلية، وذات تصور جاد لمختلف الضروريات التي تتطلبها تنمية البلاد. فكيف يمكن الحديث عن حكامة الشأن الانتخابي ببلادنا في أفق الاستحقاقات الانتخابية القادمة؟

أولا: الإرادة الملكية وحكامة الشأن الانتخابي بالمغرب

لقد أكد رئيس الدولة منذ اعتلائه العرش، على ضرورة العمل على التجسيد الحقيقي لانتخابات خالية من كافة الشوائب وأوجه الفساد أو التزوير، وهو ما أكده سنة 2001 من خلال قوله: “أن نجعل من نزاهة الانتخابات المدخل الأساسي لمصداقية المؤسسات التشريعية وأن تتحمل السلطات العمومية والأحزاب السياسية مسؤوليتها كاملة في توفير الضمانات القانونية والقضائية والإدارية لنزاهة الاقتراع وتخليق المسلسل الانتخابي”.

وقد جاء خطاب رئيس الدولة التاريخي يوم 9 مارس 2011، من زاوية جرأة المضامين المعلنة وقوة المبادئ الكبرى المقدمة كأرضية مرجعية لبناء هندسة دستورية جديدة، تقطع مع الخارطة التي اعتمدها المغرب منذ ولوجه زمن الدسترة عام 1962 وإلى حدود 1996، وينطلق هذا الخطاب في بناء دستوري بمنطق مغاير يعتمد مبدأ فصل السلط، وفكرة ربط السلطة بالمسؤولية والمحاسبة والمراقبة، وحكامة العملية الانتخابية ببلادنا.

هذا بالإضافة إلى الخطاب الذي أكد من خلاله رئيس الدولة أيضا، على ضرورة تحلي الفاعلين السياسيين بالنزاهة والتجرد، وتجاوز الخلافات السياسية التي تؤثر على المسار التنموي الذي تعيشه البلاد، داعيا في نفس الوقت جميع السياسيين إلى التنافس الجاد والشفاف من أجل خدمة الوطن والمواطنين، وهو ما يستشف من خلال قوله: “وكما تعلمون، فإن هذه السنة ستكون حافلة أيضا باستحقاقات هامة وفي مقدمتها إقامة الجهوية المتقدمة. وعلى بعد أقل من سنة، على الانتخابات المحلية والجهوية، أتوجه إلى جميع الفاعلين السياسيين: ماذا أعددتم من نخب وبرامج، للنهوض بتدبير الشأن العام؟ إن التحدي الكبير الذي يواجه مغرب اليوم، لا يتعلق فقط بتوزيع السلط، بين المركز والجهات والجماعات المحلية، وإنما بحسن ممارسة هذه السلط، وجعلها في خدمة الموطن. ومن هنا، فإن الانتخابات المقبلة، لا ينبغي أن تكون غاية في حد ذاتها. وإنما يجب أن تكون مجالا للتنافس السياسي، بين البرامج والنخب. وليس حلبة للمزايدات والصراعات السياسوية”.

إن الإرادة الملكية في خلق انتخابات نزيهة وشفافة، يطبعها جو من المنافسة الجادة، أحد أركان الانتقال إلى المرحلة الديمقراطية في المسلسل الانتخابي، فرغبة رئيس الدولة في القطع من جميع الأشكال الضارة بالممارسة الانتخابية، تنبع من الدور المهم والأساسي الذي تلعبه هذه العملية في خلق نخب قادرة على ممارسة ولعب أدوارها الطلائعية في تجويد العمل السياسي في بلادنا، وفي خلق جو من الثقة بين المواطن والدولة من جهة، وخلق جو من الثقة بين المواطن والمنتخب من جهة أخرى، حتى ترقى العملية السياسة بالمغرب لمستوى التطلعات.

ثانيا: دستور 2011 وسؤال حكامة الشأن الانتخابي

لقد حاول دستور 2011 الاستجابة لمعايير الدساتير الديمقراطية، سواء من حيث الإعداد والشكل أو المضمون، بحيث لا يمكن تصور دستور ديمقراطي في غياب آليات وهيئات ومؤسسات تكرس للمبادئ الكبرى الناظمة للعملية الانتخابية وللفعل الانتخابي بصفة عامة. إذ جاء دستور 2011 بالعديد من الآليات والهيئات، التي تؤسس من حيث تأليفها وأهدافها، إحدى لبنات بناء الدولة الديمقراطية الحديثة، جاءت لتعطي منحى آخر للتوجهات العامة وللسياسات الكبرى للبلاد، ناظمة لمجموعة من المؤسسات، وحاملة لمجموعة من المعطيات التي تكرس لمنحى جديد في التعاطي مع الإكراهات الداخلية، والتي من بينها مسألة حكامة الشأن الانتخابي بمغرب ما بعد دستور 2011.

وقد حدد الفصل 11 من الدستور، أساسيات الفعل الانتخابي بالمغرب، المبني على الشفافية والنزاهة والحياد التام بين المرشحين، والوسائل التي يمكنها أن تشكل موردا إضافيا بالنسبة للأحزاب السياسية، سواء تلك التي تدخل في نطاق وسائل الإعلام العمومية، والممارسة الكاملة للحريات والحقوق المرتبطة بالحملة الانتخابية، هذا بالإضافة إلى الوسائل التي يمكنها أن تشكل أداة ملاحظة ورقابة على العملية الانتخابية، إلى جانب الآليات المرتبطة بكيفية جذب المواطنات والمواطنين من أجل الانخراط الفعلي والفعال في الانتخابات.
إلى جانب ما حدده الفصل 11 من الدستور، فقد خول الفصل 30 منه لكل مواطن ومواطنة الحق في التصويت وفي الترشح بشرط بلوغ السن القانونية المحددة في 18 سنة، إلى جانب تكافؤ الفرص بين الرجال والنساء في ولوج الوظائف الانتخابية (أحدث بحسب الفصل 19 من نفس الدستور هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز، من أجل تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء)، واعتبر التصويت حقا شخصيا وواجبا وطنيا، كما خول للأجانب المقيمين بالمغرب المشاركة في الانتخابات المحلية.

كما عمل دستور 2011 على وضع هيئات ومؤسسات تهدف بالأساس إلى تخليق الحياة العامة من ظواهر تشكل بقع سوداء تضر بصورة المغرب على الصعيد الدولي، وهي في الآن ذاته وسائل ناجعة من أجل تخليق وحماية العملية الانتخابية من ظواهر الفساد التي تؤثر بشكل كبير على المسار الديمقراطي لهذه العملية. لذلك، عمل المشرع المغربي على إحداث الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، وتم تغيير هذه التسمية بمقتضى الفصل 36 من الدستور إلى “هيئة وطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها”، حيث تتولى هذه الهيئة مهام المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد، وتلقي ونشر المعلومات في هذا المجال، والمساهمة في تخليق الحياة العامة، وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، وثقافة المرفق العام، وقيم المواطنة المسؤولة.

ويمكن القول بأن الانتخابات بالمغرب عرفت تحولا جذريا وواضحا بالمقارنة مع فترة ما قبل دستور 2011، الشيء الذي يحسب للعاهل المغربي الذي ساهم في ترسيخ جو انتخابي تنافسي مرهون بمبادئ الشفافية والنزاهة والجودة، وهو شيء يحسب أيضا للمشرع المغربي من خلال تنصيصه على عدد من القوانين التي أعطت للعملية الانتخابية ببلادنا معنى جديد مرتبط بالحكامة الجيدة وبالمبادئ الكبرى لدستور 2011، وشكل قطيعة مع الفترة السابقة المتسمة بالتزوير والفساد الانتخابي، والتي كانت تضر بشكل أو بآخر بصورة المغرب على الصعيد الدولي. لكن، هذا لا يمنع من القول بأننا لازلنا لم نصل بعد للمبتغى والهدف الكامن في وجود عملية انتخابية ديمقراطية نزيهة وشفافة، نظرا لاستمرارية وجود خروقات كامنة في استعمال المال، وطريقة منح التزكيات، ووجود نخب ضعيفة تخدم فقط نفسها، ولا تنظر إلى الأمام وإلى مستقبل البلاد، إلى جانب ضعف الإقبال الشعبي على التصويت خصوصا في جانب الشباب، الشيء الذي يجب معه العمل على تشديد الرقابة على العملية الانتخابية وفي طريقة التعامل معها.

hespress.com