الأربعاء 3 مارس 2021 – 02:08
القوانين الانتخابية صورة من صور العملية السياسية، والعملية السياسية صورة من صور الرؤية الثقافية التي يصدرها كل بلد، ويعبر من خلالها، عن مخزونه النظري والقيمي، وعن مستوى أطيافه التي تشتغل بالسياسة تحليلا وتدبيرا، وعن مختلف تحولات خطابها، وبالأخص، حين تنتقل من لغة البلاغات الشفوية والكتابية إلى مباشرة الإشكالات اليومية للمواطنات والمواطنين، حيث تقف وجها لوجه أمام الاختبار الأصعب في مجال السياسة، اختبار القيم.
يسهل أن نلاحظ، أن بعض الحماسة التي ترافق مناقشة القوانين الانتخابية، بالنسبة إلى الكثير من الفرقاء لا تعني الانتصار للقيم الثقافية، ولا تعني إعادة الاعتبار للأفكار التي تؤسس للمعنى النبيل للسياسة، ما يؤكد أن الرغبة في الظفر بالأصوات وفي الاستحواذ على الكراسي وفي توسيع دوائر النفوذ، تبقى هي الغالبة، ويبقى سؤال القيم في السياسة مؤجلا بالنسبة لأكثر الفرقاء، ومعلوم أن الفرق كبير والبون شاسع، بين منطق القيم ومنطق الأصوات والمواقع، في عالم السياسة، فالأول ينتصر للمعنى والثاني ينتصر للغنيمة.
السياسة بالقيم، تجتهد من أجل إنتاج الأفكار، وتهتم بإعداد الأطاريح والبدائل، وتبحث عن الإنجاز الفعلي والناجع والمقنع والمشروع في واقع الناس، والسياسة بالغنيمة، تبحث عن ربح المواقع وتصدر الصفوف، بغاية حماية الأنانيات وحراسة المصالح الشخصية والحزبية، عبر تجميع أكبر عدد من الأصوات ورئاسة الجمعيات والهيئات، ولا تعوزها الحيل، وتعرف طريقها ومسالكها، نحو هذا الهدف.
السياسة بالقيم، تناقش الأفكار وتمحص البدائل، وتدير الخلاف بعلم السياسة، وتعارض التدابير بأدب الحوار وشروط السجال الخلاق، فلا تعادي الأشخاص ولا تخاصم الهيئات والذوات، ولا ترتد إلى لغة السوقة والدهماء، أما السياسة بالغنيمة، فلا تملك من البرامج والأطاريح إلا الأسماء والكلمات ولا يهمها إلا حيازة المقاعد والمواقع، عبر كل الوسائل، غير المشروعة طبعا، والمؤسف أنها تجد لذلك أعوانا كثر، رسميا واجتماعيا، وهنا بالضبط، يكمن جزء كبير من الجواب عن السؤال المؤرق أو ما نسميه، بالعزوف عن السياسة، فالشأن السياسي كغيره من القطاعات الاجتماعية، كلما كان أقرب إلى النظر العلمي وإلى الالتزام الجدي فكريا وتدبيريا، كلما حاز اهتمام المواطنات والمواطنين، وكلما ابتعد عن منطق العلم والعقل والقيم والفعل وتحول إلى مرتع للثرثارين والمتاجرين، كلما تعرض للرفض والصد والتبخيس، ولن نعدم أمثلة من تاريخنا السياسي، قديمه وحديثه، إذا أردنا التدليل.
ليست مشكلتنا الأساس في جنس وسن من سيدبر، ومن سيراقب، أهم الرجال أم النساء، الذكور أم الإناث، الشباب أم الكهول، كما ليست مشكلتنا الأساس في شكل اللوائح، وطنية أو جهوية، فليست هذه في النهاية إلا تفاصيل جزئية، وهوامش على الجنبات، يسهل حلها متى ما عادت للسياسة معانيها، واسترجعت قيمها ونبلها، وعانقت حقيقتها الأولى، بما هي دراسة وبحث وعلم ونظر، وبما هي اختيار واقتناع، وبما هي سجال جدي ونقاش عاقل، يروم تمحيص البدائل والبرامج، وبما هي تدبير يومي يعقبه حساب دقيق ومسؤول، يتولاه المواطنات والمواطنون. آنذاك، ستحضر السياسة وسيقل السياسيون، وستنقرض من قواميسنا عبارات العزوف والتبخيس والتنقيص، وما إليها، وستأخذ كلمة الديمقراطية مكانتها بيننا، وبالطبع، تحقيق كل هذا، يحتاج إلى إرادات جديدة تتجه رأسا إلى عمق الاشكالات، ويهمها أساسا، الاشتغال على معنى السياسة وما يصح أن تكون عليه وتصدر عنه من قيم.