الحرية المنتهكة

ما الذي يعلّمنا الفن؟ إنه يعلمنا العزلة والانعتاق منها في الآن ذاته! نوع من التناقض الذي لا يمكن الانفلات منه، من حيث إن التناقض ليس عيبا في العالم بل إنه جزء من عوالم تقدمه وتطوره، بل إنه حق من حقوق الإنسان كما يخبرنا بودلير، و”إن التناقض الظاهري هو مصدر انفعال المفكر، فالمفكر بلا تناقض [يقول كيركغارد]، أشبه بعاشق بلا شعور”.

ونحن في هذه العزلة الإجبارية، عزلة الكائن الخفي في زمننا المعاصر وألفيتنا الجديدة، نجد أنفسنا إزاء العودة إلى الذات، العودة إلى الأعماق، والغوص بعيدا.. بعيدا في عزلتنا السرية، مشدودين ومنذورين إلى الصراع القائم بين الداخل والخارج، بين الصمت والصخب، بين الأنا والنحن/الـ”هُم”.. وهذا ما نقرأه في العمل الفني المعنون “الحرية المنتهكة؛ 2020″، للفنان التشكيلي عبد الإله الشاهدي، الذي يجمع بين الواقعية المفرطة والسُريالية المتجددة، نوع من حساسيةٍ توضب فوضاها المبعثرة في كون القماشة لتخبرنا بأننا سرنا سجناء هذا العالم المعاصر، الذي يصعب فهمه؛ عالم سائل وغازي.. عصي على إدراك تفاصيله، عالم بقدر ما ينتقد الميتافيزيقا فهو يشيد ميتافيزيقاه الجديدة، لكننا غير قادرين على الهروب منه كذلك العصفور الذي يفضل الموت على أن يُسجن في عزلة القفص.. وإنه ما يخبرنا به هذا الفنان التشكيلي المغربي المعاصر، المنتصر للصباغة دائما، جاعلا من نفسه طائرا سجين العزلة القسرية بفعل هذا الوباء الخفي، كأننا “نطارد شبحا يطاردنا”، لا حل لدينا-إما أن نواجهه أو نموت منعزلين غرباء.. إننا إذن ذلك الطائر، ونحن أيضا تلك الفتاة التي انقلب رأسها وباتت تنظر إلى العالم من الأسفل لعله يعتدل ويعدل عما آل إليه.

الانعطاف والعزلة

إننا ونحن إزاء هذا العمل الفني بالذات نقف عند نقطة انعطاف مهمة في تجربة هذا الصباغي المتعلق بشدة بفن الرسم والصباغة المعاصريْن؛ إذ يُطور بشكل مستمر وبلا انقطاع آليات اشتغاله عبر استحداث تقنياته الخاصة أو تجريب أساليب ومواد خاصة يمزجها والأصباغ الطبيعية والمصطنعة. وقد كان هذا الحدث الإنساني غير المسبوق-الذي نعيشه-عاملا كبيرا في هذا الانعطاف الجمالي في تجربة هذا الفنان، حيث نجد له أثرا كبيرا في أعماله الأخير المشدودة إلى إبراز الجانب العميق في الذات البشرية المنعزلة إلى وحدتها القسرية، هاربة من موت خفي.

يعمل عبد الإله الشاهدي على مواضيع إنسانية تهتم في أغلبها بالمرأة “ثيمةً” واشتغالا، المرأة من حيث إنها الأم والزوجة والأخت وأيضا من حيث إنها نصف المجتمع الذي يقع على عاتقه تربية وتنشئة النصف الثاني. كل هذا عبر أعمال تستند إلى واقعية مفرطة في واقعيتها، لكنها تهرب إلى سريالية خاصة تزاوج بين الواقعي والحُلمي، تنتصر للإنساني-المتعلق بمعاناة المرأة بالخصوص. لهذا نجده في عمل صباغي (رمال الزمن، 2018)، يضع المتلقي أمام ساعة رملية حيث تتسقط رمال وجه فتاة شابة إلى أسفل قارورة الساعة لتُكوّن لنا وجه امرأة عجوز، بينما تسبح الساعة في بحر هائج، يشير إلى تقلبات الزمن وصعوباته التي لا يمكن الهروب منها، فهو سائل وهارب يستعصي علينا دائما إدراكه أو اقتناص لحظاته المنفلتة، لهذا نحن محكمون بظروفه وبالشيخوخة والزوال.. فلا مفر من “الرحيل” كحق ثان إلى جانب التناقض الذي نسيته حقوق الإنسان كما يقول بودلير.

فالشاهدي إذن يقدم لنا سجله الزمني لهيئات وحالات نسائية متغيرة ومختلفة. اهتمامه هذا مردّه إلى ذلك التعلق الكبير الذي ربطه بالأم، وجعله يُكرّمها ويعلي من قدرها (صورتها تحضر في مجموعة من أعماله)، متخذا منها، أي المرأة، مدخلا لمناقشة قيم الحرية والذاتية والاستقلالية… لإنشاد مجتمع الحداثة والتقدم.

الدهشة والتجريب

نقف أمام أعمال هذا الفنان المشدود إلى الدهشة وإلى التجريب كأننا نقف أمام أرض خصبة معطاء ولود، أرض عامرة بالدلالة والعلامات والبؤر البصرية الغنية التي لا تقف عن توليد دلالاتها ومعانيها في تضاعف وتكاثر؛ إذ إن كل صورة بصرية في العمل لديه تغدو أيقونة، ما يجعل منها حاملة لقدسية خاصة. حيث تغيب نساؤه وسط الحمام والعصافير والرمال والمياه والفراشات وهيولى الصباغة (السديم)… وكلها مرئيات لها ما لها من قدسية في تاريخ الفن الطويل. هذا وتتداخل في أعماله ملامح فنية عدة تتشابك فيها التصويرية الصباغية المفرطة والسريالية بالتقنية وأبعادها اللامرئية؛ إذ تتحول إلى إبداعية تتعلق بتحول أنطولوجي مرتبط بأفق ميتافيزيقي للتقنية، وأفق الفن المعاصر بكل ما يستدعي معه من تحكم بكل ما هو بصري.

رأب الصدع

تحكم يعزى إلى سعي الفنان لاستحداث تجربة خاصة تمزج بين المرئي وما فوقه، بين الواقعي وما فوق الواقعي، في محاولة لتصوير اللامرئي والغائب عن إدراكاتنا البصرية، تلك الميتافيزيقيات التي نتعايش معها ولا نستطيع أن نضعها إزاء مقياس محدد، كالحرية مثلا.

وليست أعمال عبد الإله الشاهدي الجديدة آثارا فنية تصويرية تتبع مآزق الكلاسيكية وهندسيتها وحساباتها الأولمبية، التي تجعل الفن حبيس حسابات دقيقة، لا تترك للفنان متسعا من اللهو واللعب والمرح، الذي يجعل العمل منبثقا من الذات الإنسانية الفنانة، باعتبارها منطلق الفن لا العالم الخارجي، فالفنان المعاصر لا يسعى إلى المحاكاة، بل إلى إعادة الصياغة والتشكيل والخلق، أي إعادة ترتيب الشظايا وفوضى هذا الكون فوق القماشة.

فالأثر الفني كما يخبرنا جاك دريدا، هو “رأب للصدع والتشقق وضمد الجراح وعلاج للذات المتشظية”. وهذا ما نجح فيه هذا الفنان وهو يعرج نحو انعطافه الاستتيقي الجديد متأثرا، كما غيره من الفنانين المحدثين والمعاصرين المشدودين إلى رغبة التجديد والتجريب، بالظرفية العالمية والإنسانية الجديدة التي يتحكم فيها كائن “لا مرئي” يستحيل “القبض عليه”… وككيميائي في مختبره، يجرب عبد الإله الشاهدي صباغاته المتجددة ليعيد تركيب نسيج هذا الكون عبر تلك المشاهد التي تضعنا أمام حالات إنسانية حق الوقوف عندها وتأملها مليا في ظل ما نعيشه الآن.

التتويج المتعدد

بعد مسار حافل بالبحث غير المنقطع في عوالم اللون والصباغة والمادة، إذن، وبعد أن عدّدَ تجاربه وآليات اشتغاله في المشهد البصري والتشكيلي المغربي، تُوّج الفنان التشكيلي المغربي المعاصر عبد الإله الشاهدي، عن استحقاق كامل، بالميدالية الذهبية للإبداع (Médaille d’or-créativité)، عن الجائزة الدولية لمحترفي الفن (IAPA)، في دورتها الأخيرة لسنة 2020، التابعة لمؤسسة “الأكاديمية العالمية للفن” (Mondial Academia art). إن الهدف من هذه الجائزة، كما يوضح القائمون عليها، هو إعطاء شعلة عرفانا واعترافا بإبداع المتوجين بها في الحقل التشكيلي في العالم ككل، حيث إنه قد عرفت هذه الدورة تباري وتنافس مرشحين من القارات الخمس، لكل مساره الخاص وتجربته المتفردة، في ظل تحكيم لمجموعة كبرى لرؤساء ومديري أروقة عالمية.

يأتي هذا التتويج الذي حظي به عبد الإله الشاهدي، “بعد انعطاف جمالي نحو تجربة جديدة ومتجددة من حيث الاشتغال والموضوع، عمادها الزمن والمرأة موضوعا والسريالية والواقعية المفرطة توجها، في الوقت عينه”، مع الاعتماد على كثافة اللون والمادة الصباغة التي يعمل عليها عبر بحث خاص، ما يقدم للوحة لديه حضورا باهرا في الساحة التشكيلية المغربية والعالمية.

وقد سبق أن توّج الفنان “تتويجا مزدوجا” قبل ثلاث سنوات في الآن نفسه؛ إذ فاز بالجائزة الأولى للفنون التشكيلية التي تسلمها الأكاديمية الإيطالية للفنون العالمية، وجائزة “فيكتور هيغو” التي تمنحها المؤسسة نفسها للفنانين الذين تتضمن أعمالهم رسائل إنسانية وتدافع عن قضايا عادلة.

هذا ويحرص عبد الإله الشاهدي على ابتكار مواده الخاصة في مختبره/ورشته، عبر تلك الأصباغ التي يأتي بها من الصحراء والجنوب المغربي، بالإضافة لمواد صناعية وطبيعية أخرى، ما يمنح للعمل لديه عمرا طويلا في الإنجاز وكثافة مادية تصير بدنا حيا فوق القماش. فهذا المبدع يؤسس مشروعه الجمالي على تيمة الجسد-الأنثوي خاصة-بكل ما تتيحه له من إمكانيات وإبدالات ودلالات ورموز وما تقدمه للقارئ من تأويلات.

شاعر وباحث جمالي

hespress.com