قالت نادية البرنوصي، أستاذة القانون الدستوري وعُضو اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، إن دستور 2011 يضم مناطق ظل كثيرة وحدوداً وأوجه غموض وتردد، على الرغم من مقتضياته التقدمية العديدة.

وذكرت البرنوصي، خلال حديثها ضمن ندوة رقمية حول مرور عقد على الدستور الجديد، في إطار الجامعة المواطنة التي نظمها معهد الدراسات العليا HEM أمس السبت، أن ما جعل الدستور المغربي في هذه الوضعية هو مدة مراجعته القصيرة وهاجس الإجماع الذي رافق هذه العملية.

وأشارت عضو هيئة تحرير المجلة الفرنسية للقانون الدستوري إلى أن الدستور المغربي تمت مراجعته في مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر ونصفا، وهي مدة اعتبرتها البرنوصي غير كافية لوضع دستور مثالي، ناهيك عن هاجس البحث عن الإجماع بين مختلف القوى، مما نتج عن ذلك في النهاية إلغاء النقاش الديمقراطي.

وأوضحت المتخصصة ‬في ‬القانون ‬الدستوري أن مراجعة الدستور تمت في سياق الربيع الديمقراطي وحركة عشرين فبراير، على الرغم من صدور عدة تقارير سابقة مهمة، مثل تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة وتقرير الخمسينية، تضمنت دعوات لتعديل الدستور. لكن هذه الدعوات لم تتحقق، تقول البرنوصي، مشيرة إلى أن هذا المطلب رفع أيضاً من طرف عدد من الأحزاب.

وكان الطلب الديمقراطي، الذي طبع سنة 2011، حسب المتحدثة ذاتها، مقروءاً في الاحتجاجات التي وصل معدلها اليومي آنذاك إلى 50 احتجاجاً، كما كان حاضراً في جلسات الاستماع التي عقدتها اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، إضافة إلى مضامين 200 مذكرة تم التوصل بها.

وأضافت البرنوصي أن شعارات الاحتجاجات ومطالب المذكرات والجلسات كانت تسير في ثلاثة اتجاهات، الأول يهم طبيعة النظام السياسي بالمغرب، من خلال تفكيكه وإعادة بنائه نحو ملكية برلمانية تفصل السلط. فيما كان الاتجاه الثاني منشغلاً بتخليق الحياة العامة، والثالث مهتما بالكرامة من حيث الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية والبيئية.

وبخصوص شعارات الاحتجاجات التي كانت تعرفها شوارع المملكة قبل عقد من الزمن، قالت البرنوصي إن 42 في المائة منها كانت تتعلق بالشغل، و7 في المائة تهم السكن، و6 في المائة التهميش، و5 في المائة فقط تخص الإصلاحات السياسية، و4 في المائة تهم التضامن، و3 في المائة مسألة الأمن.

واعتبرت الخبيرة الدستورية أن السنة الحالية، باعتبارها سنة انتخابات تشريعية، وفي ظل حالة الطوارئ الصحية وانتظار نتائج اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي وإحياء الوحدة الوطنية حول قضية الوحدة الترابية، تدفع كثيرين إلى طرح سؤال مراجعة الدستور بعد عشر سنوات من اعتماده.

وفي تحليلها للوثيقة الدستورية، أوضحت البرنوصي أن ثلث فصوله ركزت على حقوق الإنسان، لكن ظهرت مشاكل عديدة على مستوى التطبيق. وأضافت أن “الدستور تم التصويت عليه، لكن القوانين، مثل القانون الجنائي والنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية ومجموعة من القوانين، لم تتم ملاءمتها مع المقتضيات الجديدة للدستور، وكنتيجة لذلك فإن الفرد في المغرب لم يستطع البروز، كما في السابق، واضطر إلى الاستمرار في مجتمع يسجنه”.

ولاحظت البرنوصي أنه بعد اعتماد الدستور الجديد أصيب الناس بخيبة أمل لأن الكثير منهم اعتقدوا أنه مع وجود دستور جديد سيتم حل المشاكل السوسيواقتصادية، في حين أن الدستور يبقى إطاراً قانونياً، أما الباقي فيتعلق بالسياسات العمومية.

واعتبرت المتحدثة ذاتها أن مضامين الوثيقة الدستورية في المغرب تبقى متقدمة جداً فيما يخص الحقوق والحريات وفصل السلط والديمقراطية التشاركية، قبل أن تستدرك قائلة إن مقتضياتها تطبق اليوم بنخب وثقافة الأمس.

ومعروف أن دستور 2011 تضمن ضمن مقتضياته الجديدة الاعتراف باللغة والثقافة الأمازيغيتين والحسانية والرافد العبري، وحقوق المرأة التي خصص لها 16 مقتضى، إضافة إلى الشباب والأطفال والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة والجالية، ناهيك عن مقتضى الدفع بعدم دستورية القوانين، والالتزام بسمو الاتفاقيات الدولية على التشريع الوطني.
لكن بعد عشر سنوات، تتساءل البرنوصي عن حصيلة تطبيق هذه الحقوق الأساسية، فتجيب قائلةً: “هناك ثلاث إجابات تتعلق بغموض تحريري رجعي، أي إذا راجعنا الدستور الحالي فهناك حاجة لتوضيح العديد من الأمور، وبمُشرع لم يف بوعود الدستور، وتأخر كبير في إخراج الهيئات الدستورية المستقلة المكلفة بالحقوق الأساسية”.

وتشرح البرنوصي، الحاصلة على دكتوراه الدولة في القانون العام سنة 1998 والدكتوراه ‬من ‬جامعة ‬مونبوليي ‬بفرنسا، أن الغموض التحريري يتجلى في عدد من المقتضيات الدستورية، من بينها سمو المواثيق الدولية على التشريع الوطني ومساواة الجنسين في الحقوق، حيث كانت مرفقة بمراجع جعلتها مقيدة، من بينها ثوابت الأمة والهوية الوطنية.

وتقول المتحدثة ذاتها إن “سمو المواثيق والاتفاقيات الدولية يستعمل فقط فيما يخص الصيد البحري والطماطم، أما حين يتم الحديث، مثلاً، عن الإرث والحريات الفردية فلا يبقى هناك أي سمو للمواثيق الدولية، مادام الدستور ينص على أن هذه الاتفاقيات الدولية يجب ألا تمس الهوية الوطنية”.

وأشارت البرنوصي إلى أنه “في الوقت الذي كانت اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور تبدو أكثر علمانية ولائكية، فقد انتهت عمليات التحكيم في الدقائق الأخيرة بالإفراط في المقتضيات المرتبطة بالهوية الوطنية”، حيث لاحظت أن الدساتير السابقة كانت تتضمن 4 إحالات فقط إلى الدين، أما الدستور الحالي فيضم 19 إحالة.

وأوردت الخبيرة الدستورية مثال الفصل 19، الذي ينص على تمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية وفقاً للاتفاقيات والمواثيق الدولية كما صادق عليها المغرب، لكن كل ما سلف يجب أن يتم في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها.

وأضافت بخصوص هذا الفصل “إذا كنا أمام قاض متمسك بالتقاليد سينظر إلى المساواة بين الرجل والمرأة انطلاقاً فقط من القوانين الوطنية وفي حدود الثوابت الوطنية بكل أريحية، أما إذا كان القاضي تقدمي بعض الشيء فسينظر إلى الأمر من ناحية الاجتهاد باستحضار الملاءمة بين الدستور والاتفاقيات الدولية”.

وذكرت المتحدثة ذاتها أن الدساتير تكون بالضرورة مرفقة بالقوانين التنظيمية والعادية، التي تحدد هيكلة المؤسسات وتنظم تنفيذ الحقوق والحريات، مشيرة إلى أن دستور 2011 يتضمن على هذا المستوى حوالي 22 قانونا تنظيميا، إضافة إلى قوانين أخرى عادية.

ولتبرز التناقض بين مقتضيات الدستور والقوانين التنظيمية، ضربت البرنوصي مثالا بالقانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب، الذي أفرز تمثيلية نسائية في حدود 20 في المائة، في الوقت الذي يتحدث الدستور عن المناصفة.

مثال آخر ذكرته البرنوصي، ويتمثل في الفصل 17 من الدستور، الذي ينص على حق التصويت بالنسبة للجالية المغربية انطلاقاً من بلدان الإقامة، لكن القانون التنظيمي، تقول المتحدثة ذاتها، غير ذلك تماماً واعتمد التصويت عبر الوكالة، مشيرة إلى أن الأرقام الخاصة بالانتخابات الأخيرة تفيد بتسجيل تصويتين فقط بالوكالة. وأضافت في هذا الصدد أن تذرع الحكومة بالتبريرات اللوجستيكية لم يعد له معنى ما دامت دول عدة مثل تونس توفر حق التصويت لجاليتها في الخارج.

والشيء نفسه بالنسبة لقانون الدفع بعدم دستورية القوانين، الذي لم يتم التصويت عليه لحد الساعة، على الرغم من أهميته الكبرى لأنه يتيح لأي فرد أمام القضاء أن يقول إن القانون المطبق عليه يمس حقوقه الأساسية، وفي هذه الحالة تبت المحكمة الدستورية في هذا الصدد، وإذا وجدت أن ذلك صحيح يتم تعديل القانون وإطلاق سراح المعني بالأمر، تقول البرنوصي.

ومن أصل 10 هيئات دستورية مستقلة تضمنها الدستور، أحصت البرنوصي خمس منها لا تزال تنتظر الإحداث، منها هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز، والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، والمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، والمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي، ناهيك عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين الذي لم يتم تجديد هياكله منذ أكثر من سنة.

وختمت البرنوصي محاضرتها قائلة: “يحتاج الدستور إلى ملاءمة القوانين الأخرى مع روحه، كما أن هناك مشكلاً كبيراً على مستوى الثقة المؤسساتية التي يجب استرجاعها، وهو ما يتطلب عملاً كبيراً من طرف الأحزاب السياسية من أجل استعادة أصوات الناخبين”.

hespress.com