قصة تراجيدية تقوم على أحداث حقيقية؛ كانت أكادير مسرحا لها؛ حاول الكاتب جردها من معالمها الأصلية ليفرغها في قالب قصصي، تدور وقائعها حول شبكة دولية للاتجار في المخدرات؛ تتزعمها حسناء فرنسية؛ اقترنت بالبشير “الگاوري” اقتران الحب برنين الدولار!

بأحياء مراكش

ألفته بازارات مدينة البهجة؛ كانت زياراته شبه يومية وكأنما هناك عقد شفاهي بات يقضي بولوج البشير إليها مصحوبا بفيالق السياح من جنسيات ألمانية وفرنسية وبلجيكية، تعرفه أحياء مراكش بخفة الظل وظرافة “الگاوري”، كانوا يضفون عليه لقب “الفنا” كمعلمة موغلة في الثقافة الشعبية مما تزخر به ساحة الفنا… كانت ثلاث رايات تترنح فوق الرقاب كطلائع فيالقه، كلما شقت طريقها بشارع أو ساحة إلا وتأخذ أصوات التباعد تتنادى بين المارة: “سيلفوبلي… بليز… بليز أتانسيون”، كإشعار بمرور البشير “الگاوري” مع فيالقه السياحية؛ أعين تتموج بين الأخضر والعسلي والبني؛ كانت مأخوذة بالمعروضات النحاسية والجلدية والنسيجية والخشبية؛ وهي تحتل مداخل وجنبات المحلات، مزهوة بألوان مزركشة أخاذة؛ تلوح من بعيد كلوحات تشكيلية من الفن التجريدي؛ بتموجاتها وملامستها أحيانا لرقاب المارة من السياح وعابري سبيل ومتسكعين ومتسولين… لا تنفك أصابعها تضغط على أزرار الكاميرات لتوثق لهذه اللوحات الحية بلغط المارة أو مروق نشالين سقطت بأيديهم همْزات فزهدوا في الباقي، حيوية نادرة قلما شاهدوها في أوطانهم؛ تختلط فيها الحداثة بالأصالة والبساطة والألوان الزاهية والهرج والمرج..!

إذا ولج بهم ساحة الفنا تطْفق النسانيس في الرقص حبورا وبهجة بقدوم هؤلاء “الگوار” الذين كثيراً ما تنفحها قطعة أو قطعتين من النقود لتسلمها إلى صاحب “الحلْقة” أمام انبهار وإعجاب “انْصارا”.

للبشير “الگاوري” برنامج دقيق ينضبط بعدد الجولات داخل معالم المدينة؛ ينتقيها بعناية تبعا لعاملي الزمن وثقافة السياح؛ ألمانيين كانوا أو فرنسيين وبلاجكة، وكثيرا ما كان يترك فيالقه عند بهو الفندق بعد الظهيرة بقليل لينتظر في الغد حكاية أخرى مع فيالق جديدة.

ظهور الأفعى كاترينا

تظل علاقة البشير “الگاوري” بالسياح مؤطرة بعدة التزامات؛ كان يحرص بشدة على احترامها والتحلي بها حتى باتت تشكل قطعة من سلوكه العام، فلقب بالبشير “الگاوري”.

ذات يوم ومع اقتراب أعياد رأس السنة الميلادية وتقاطر أفواج السائحين على مدينة البهجة، استقر برنامجه على إرشاد فيلق من السائحين الشباب؛ معظمهم من الطالبات الفرنسيات.. قدموا إلى المغرب في رحلة استطلاعية ودراسية في فنون الزخرفة والمعمار؛ لذا جعل من قصر البديع محطته الأولى، ولشد ما كان انبهارهم بالتراث؛ فأخذت كاميراتهم تشقشق بين الفينة والأخرى، تسللت إحداهن من بين الصفوف وقصدت البشير “الگاوري” بسبابة مشيرة إلى سقف هناك: “هل… هؤلاء الحرفيين المهرة مغاربة… أم ..” فقاطعها البشير بصوت لا يخلو من صرامة علمية: “كلهم مغاربة.. أبا عن جد.. وسوف تقفون على أنامل ذهبية موضع انبهار العالم أجمع..!”

* ردت عليه برقة استعذبها البشير “الگاوري” في نفسه: “.. فعلاً تاريخ.. وتراث عالمي خالد”.

لاحظ البشير “الگاوري” أنها كانت دوما تتأخر عن الركب لافتتانها بالنقوش ونمنماتها وانشغالها في آن بتكييف كامرتها الاحترافية، وحتى يخف شعوره بالتأفف من الانتظار؛ همست في أذنه غيرما مرة I found my treasure that I had long searched for: “لقد وجدت الكنز الذي بحثت عنه طويلاً”.

وكثيرا ما لفت انتباهه رقة وعذوبة صوتها الرخيم، حتى باتت تعزف على أوتار مشاعره؛ كلما خلا إلى نفسه واستراح من عناء التجوال وبرْطمته لأسماء الأماكن أو الأطباق بساحة الفنا. لم يتذكر سائحة مثل كاترينا استطاعت في ساعات معدودة أن تخلب مشاعره رغم المئات اللواتي تحفل بهن سجلات إرشاده السياحي، وقبل أن تمتطي الحافلة إلى مطار المنارة حرصت على أن تقدم له وردة ياسمين؛ موشوشة له بأنفاس عطرة :”سأظل على اتصال بك.. وسيكون نجاحي مقترنا بإسمك..”

تمكن كاترينا من قلب البشير الگاوري

ظلت على اتصال بالبشير الگاوري عبر الواتسب؛ تستزيده بأن يبعث لها صورا عن نقوش المساجد والأضرحة، كما كانت تستفتي قلبه بالزواج ما إذا كان راغبا أو عازفا عنه.. ولقيت صورها إقبالا وترحيبا كبيرين من ناد ليلي مختص في شرب الشيشة على وقع تموجات وظلال ألوان زخارفها.

كان يشعر بسعادة غامرة وهو يبعث لها بين الحين والآخر بحزمة من تلك الصور التي كان يلتقطها بحرفية عالية؛ وفي قرارة نفسه أنها ستعزز من فرص نجاحها في اجتياز امتحان تاريخ الفن المعماري؛ تخصص زخرفة دور العبادة؛ على حد قولها.

فاتح والدته ذات يوم في أمر الاقتران بنصرانية واتخاذها شريكة حياته.. وعونا لها داخل المنزل… فكانت ترد باقتضاب: “.. الله.. يعاونك آولدي.. ويرضي عليك امْنين انقدتنا من البرارك… الله يكون معاك..”.

حتى إذا أحست بوثوق صلات التواصل بينهما؛ أشعرته بزيارة ثانية إلى المغرب لعقد الخطوبة على أن تستكمل إجراءات الزواج في فرنسا؛ حالما تتم تسوية الإجراءات القانونية.

داخل فندق المامونية

حلت كاترينا بمطار المنارة، وكان البشير “الگاوري” في استقبالها بالتمر والحليب جريا على عادة البلد… فرجتْه بأن يبادروا توا إلى عقد الخطوبة؛ متذرعة بقصر الزيارة والعودة إلى بوردو بأيام قلائل قبل تقديم أطروحتها.

كان قد آنس منها تعاطيها لشرب الشيشة أحياناً، وكعربون على المحبة والوداد؛ اقترح عليها إمضاء سهرة بأحد نوادي فندق المامونية… وهناك وقف على مقدار شغفها “بحشيشة المغرب” إلى حد الهوس وانتقالها بين طاولات الندماء لتذوق “المعسول” من طرف هذا أو ذاك تحت انفجار قهقهات ضحك مدوية؛ كان البشير “الگاوري” صامتا في مقعده يرمقها ومَن حولها بنظرات لا تخلو من غيرة؛ لكن سرعان ما يعود إليه رشده حينما تنقلب إليه ضاحكة مقهقهة؛ وهي تحاول جاهدة أن تذيقه من شيشة مذهبة تعبق بروائح الياسمين: “.. هيا جرّب… إنها.. إنها لذيذة… خذ يا حبيبي البشير..”.

أمضيا ليلة بإحدى غرف المامونية، كم من مرة استيقظ إلى جوارها قاصدا المغسلة جراء مغص حاد ألمّ به إثر إفراطه في تناول جرعات من الشيشة نزولا عند رغبتها الجامحة، لكن في الغد فاجأته بأن مكالمة هاتفية طارئة تقضي بمقاطعة زيارتها والعودة فورا إلى باريس… ولتسهيل عملية الإجراءات الجمركية طلبت منه اصطحابها إلى داخل المطار.

البشير “الگاوري” بمطار شارل ديگول

التحقت كاترينا فور نزولها بمطار شارل ديگول بالنادي؛ بمعية زبناء، وكم كان ذهولهم شديداً وهم يتذوقون من بضاعة حملتها في حقيبتها بمقدار 1كلغ من “المعسول المعتق”؛ جلبتها من أحد أوكار المامونية.

كان البشير “الگاوري” يتحرق شوقا للالتحاق بدنيا الأنوار كما كانت توحي له كاترينا من خلال سردها لمشاهد ووقائع وشوارع فرنسا.. جعلته يتوق لطلاقه بالمرة مع (كحل الراس)؛ متشوقا إلى اقتحام عالم جديد من الغنى واليسار… فظل يترقب وينتظر إلى حين ذات صباح، ليستيقظ على وقع رناتها بالهاتف لتسِرّ له بخبر أوراق سفريته أنها باتت جاهزة، وسيكون عليه الالتحاق بصحبتها في غضون أسبوعين، كما أصرت على أن ترفق خبرها بمبلغ مالي محترم لاقتناء ملابس له بمواصفاتها الخاصة، وعطايا نقدية إلى موظفي الجمارك. وقد وجدها البشير “الگاوري” فرصة سانحة ليقطع صلته بالكاد بالنصارى والإرشاد السياحي، ويمضي أيامه طليقا بشوارع البهجة مترددا على معالمها الأثرية وبين معلمي البازارات، وكأنه على مشارف توديع حياة واستقبال أخرى أكثر إثارة وإغراء.

البشير وكاترينا على متن الطائرة

كما كان مرسوما له سلفا، حلت كاترينا بمطار البهجة لتعود مساء في نفس الطائرة صحبة زوجها البشير.

كانت تتقاذفه بداخل بهو المطار نظرات رجال الجمارك بنظرات ملؤها الغيرة حينا والغبطة حينا آخر، وكم ألفوا نفحاته وكم منهم من أسرّ إليه:

*”عنْداك آلبشير تنسانا”

*”آدبّار على خوك… ها التلفون ادْيالي”

*”أواعنداك آلبشير تاكل غير بوحدك”

صعد سلم الطائرة يدا في يد مع كاترينا التي كانت تقرأ في اغروراق عينيه بالدموع معاني بعيدة في الارتباط بأرض الأجداد، كان بصره ممتدا خارج رقعة المطار ليخترق معالم المدينة حتى يحط على قمم أوكايمدن الشامخة؛ وهي ما زالت متشحة ببقايا ندف من الثلوج؛ بين الفينة والأخرى كانت تحين منها التفاتة إليه لتطمئن إلى كنزها وذخيرتها وهو غارق في النوم؛ فتتسلل يدها إلى ربطة عنقه لتفكها بتؤدة حرصاً على توفير مزيد من راحته.

كان زمن الطيران من المنارة إلى شارل ديگول مجرد فسحة من توارد الأحلام ودغدغة عواطفه وهو لم يستوعب بعد أن الطائرة تسير الهوينا على المدرج.

تعاظمت مشاعر انبهاره وسعادته وهو يجد في استقبالهما أناسا مهمين ببدلات أنيقة وشياكة؛ ذكرته بقوافله السياحية؛ سيارات فخمة وأشخاص يتسابقون إلى شحن حقائبهم.. وكلمات ترحاب رقيقة، ولم يكن يبالي آنئذ بخفض حزام سرواله الذي كان يضايقه لتعوده على ارتداء “السروال البلدي الفضفاض” الذي يطاوع خطواته مهما اتسعت وامتدت.

البشير “الگاوري” يقتحم عالم المجون

انتهت بهم قافلة السيارات عند بناية فخمة على مشارف نهر السين؛ أشبه بقصر فيكتوري. سألها وهو يهمّ بالولوج إلى طابقه الأول:

* “هل نحن في فندق..؟”

* “لا.. هذا منزلي الذي تحول إلى ملكيتي مؤخراً”

* “تحول إلى ملكيتك.. لم أفهم”

* “ورثته عن والدي الذي قضى نحبه في حادث سيارة”

* “… أنا آسف.. الله يرحمه..”.

وما زالت أسئلته تتناسل وهو مبهور بأجواء الفخامة التي تحيطهم؛

* “ومن هؤلاء الذين رافقونا من المطار؟”

*” إنهم عملاء لوالدي.. ما زالوا لا يترددون في تقديم يد العون كلما لزم الأمر…”.

كانت الساعات الأولى داخل هذا القصر غارقة في النعيم؛ ولشد ما كانت سعادته في أوجها وهو يرى نفسه محاطا بعناية فائقة من قبل خدم؛ لم يعد يذكر عددهم ولا أسماءهم من فرط تعدد الأوجه التي تمرق أمامه ذهابا وجيئة، سواء في الحديقة أو مأرب السيارات أو المطابخ.. لكن هذا الثراء وهذه البحبوحة لم تكن لتحجب عنه ملاحظة استأثرت بانتباهه بدءا من الليلة الأولى التي أمضياها سويا في القصر وهي توالي المكالمات الهاتفية التي لا تكاد ينقطع لها رنين؛ تردّ عليها دوما في شكل أوامر صارمة وإن كانت تحس بامتعاضه وهو يتأفف متقلبا في فراشه.

عرّفته بوجوه عديدة من علية القوم؛ من خلال حفلات باذخة، كانت تقدمهم على أنهم أصدقاء الدراسة أو رجال أعمال نافذين في سلطة المال.. كم من واحدة استمالته تحت وقع طنين رأسه وهو يتلقى جرعات الكوكا من يد هذه أو تلك… وكم من مرة استيقظ ليلاً ليجد نفسه محشورا بين اثنتين غارقتين في النوم؛ بعيدا عن كاترينا وقصرها.

انكشاف خيوط اللعبة

في أقل من شهر؛ من مكوثهما بباريس؛ دعته لزيارة خاطفة إلى المغرب؛ كانت غشاوة الظلام قد بدأت تتبدد من حوله ليستوعب أنه أصبح عنصرا هاما داخل شبكة لترويج المخدرات، فلم يكن يأبه لوخزات الضمير طالما أنه أصبح مليونيرا؛ جعلته أمينا على شبكة توزيع البضاعة واستلام حقائب الأورو أو الدولار، وكثيرا ما كانت تداعب أسماعه بجملة: “لقد أصبحتَ إمبراطورا… أخشى أن تختطفك مني أفعى أخرى.!”.

وجد في المغرب عملاء يشتغلون لحساب الشبكة التي امتدت فروعها في كل من أكادير وطنجة والناظور؛ يتحركون بحرية كاملة طالما أن لهم وسطاء تمكنوا من اختراق أمن الحدود والمطارات.

كعادته حمل معه كيسا من الساعات ذات الماركة العالمية Rolex كهدايا لرجال الجمارك، وأثناء العودة كان يمنّيهم بوعود مزخرفة للعمل في المهجر، وهكذا استطاعت كاترينا تأمين ممرات عبورها من وإلى المغرب وهي محملة ببضاعة تتجاوز أحيانا حمولة 50 كلغ من الكوكا والشيرا لا تقربها عين الرقيب!

البشير “الگاوري” في مواجهة أمواج البحر

استعذب البشير الگاوري حياة الليالي الملاح وسط عينات مختلفة من رواد الحشيش والكوكا.. والمثليين والسحاقيات… حياة تشرق على عبادة الدولار وتغرب على إحراقه بالكوكا وليالي الأنس، وأصبح هو الآخر مدمنا لها ومقبلا على أوكارها، شعر بوخزات ضمير تؤنبه فجأة، فاختار حياة المجون لينتقم منه ويزيح عنه حمله المضني، وفي آن واحد لم يكن ليأبه بنداءاتها التحذيرية إليه بوجوب الإقلاع عن السهر في أحضان الكوكايين.

استمرت حياة البشير “الگاوري” مترعة على وجه كل الغرباء، ومن فرط خوفها أصبحت تتحاشى الاحتكاك به، لا سيما بعد أن أصبح يتأوه ويطيل المكوث بدورة المياه قرابة النصف ساعة. أحالته على طبيب مختص، فاندهشت وهي تطلع على التحاليل والتقرير الطبي، بأن حالته تتواجد في مرحلة متقدمة من السرطان الرئوي، وأن فرص تدارك وضعه الصحي باتت شبه مستحيلة. اصفرت ملامحه وتعطلت حنجرته عن إصدار أصوات، كما أصبحت قواه تنهار يوما بعد الآخر.

ذات يوم استدعاها إلى جانبه ليسر إليها بوصية نطقها بصعوبة بالغة: “.. أ.. طْلبْ.. منّك… تدفنيني في المغرب؛ “Je te demande de m’enterrer au Maroc” .. وعلى إثره قرّ عزمها على توثيق وصيته وتسجيلها لدى السلطات الفرنسية، فحملت إليه أوراقا رسمية مطالبة إياه بتوقيعها، وأوهمته بأنها وصيته التي ستودِع نسخا منها لدى السلطات الفرنسية والمغربية.

وتحت إلحاحه؛ صممت على السفر إلى المغرب لملاقاة أمه التي كانت تقطن إحدى القرى النائية نواحي أكادير، ثم أوصت به لدى بعض العملاء لينزل قريباً منها في فندق غير مصنف، على أن ترتب لقاء بينه وبين أمه حالما يعثرون على عنوانها، لكن بعد مضي يومين فوجئ الجميع بمن فيهم زوجته كاترينا بوفاة البشير “الگاوري”، فاتشحت بالسواد وأخطرت عملاءها بفرنسا بنبأ الوفاة ودعتهم، على جناح السرعة، إلى شحن تابوت خصيصا لنقله إلى فرنسا كما تنص عليه الوثائق الرسمية الحقيقية.

حضر الطبيب الشرعي بمعية ضابط الشرطة العلمية، عاينوا الجثة قبل إيداعها التابوت والقفل عليها بواسطة الأختام الشمعية، حتى يكون جاهزا لحمله في اليوم التالي إلى المطار. وخلال تلك الليلة أقدم العملاء؛ تحت أعين كاترينا وأوامرها؛ بفتح التابوت من الأسفل وحشر شحنات من الكوكا والشيرا بجنبات الكفن؛ وصلت إلى حد 20 كلغ، ثم أعادوا إقفاله وتشميع رؤوس المسامير بالأبيض تحاشيا لكل شبهة.

التابوت وكاترينا داخل المطار

حضرت إلى المطار في ساعة مبكرة بحوالي أربع ساعات قبل موعد إقلاع الطائرة، أنزلوا التابوت من سيارة إسعاف ليلج الباب الإلكتروني ومن ثم فحص الوثائق المصاحبة له.. قبل إيداعه المستودع الخاص بالطائرة.

كانت نظرات كاترينا خلف نظارتها السوداء تنضح حبورا وارتياحا؛ وهي تعاين إجراءات نقل التابوت وحمله في عربة، وقتها كان أفراد من العملاء يتابعون عملية عبوره مدرج المطار، فترتسم على تقاسيم وجوههم أمارات النصر، لكن ما إن همّت كاترينا بالولوج إلى قاعة الانتظار حتى دوّت أبواق المطار بصوت جهوري؛ تارة بالعربية وأخرى بالفرنسية والإنجليزية:

“… السيدة كاترين.. من فضلك تقدمي إلى مركز الشرطة.. Mme Katrin s ‘il vous plait veuillez vous present au post de police… MsMs Katrin.. please report to the police station..”

نهضت مذعورة وأخذت تقلب أنظارها بين التابوت في طريقه إلى الطائرة، وبين رجال الشرطة الذين احتشدوا بالباب المفضية إلى مدرج المطار، وبخطوات متثاقلة ومترددة شرعت تمشي في البهو، وأعين الكاميرات تقتفي أثرها… لم تستطع مواجهة رئيس ضابط الشرطة لجفاف ريقها، فأمسك بها سعال حاد، أمروا لها بكوب ماء؛ وهي لم تستفق بعد من شدة ذهولها حتى فاجأها الضابط:

* “سيدتى… فقط.. فقط سنأخذ منك إذنا في خمس دقائق..”

* ترد بعصبية مجنونة “.. أي إذن.. عماذا تتحدثون..؟!”

* الضابط محاولا الحد من روعها “أم زوجك المرحوم… جاءت لتلقي عليه نظرة الوداع..”

* كاترينا في استغراب: “كيف.. إجراءات الوداع مضت… ولم يعد بالإمكان…”

* الضابط متحدثا في الهاتف: “.. طيب… سننتظركم.. لن نخطو…. إلا بحضوركم”، يقفل السكة ثم يتوجه إليها:

* “نعم ما تقولينه صحيح لكن إلحاح أمه المسنة يجبرنا قانونيا على إعادة فتح محضر صندقة التابوت… والشركة تعدك بالتعويض عن تأخر سفرك…”

* كاترينا في وجوم: “.. ألم تقنعوا أمه بانتقال التابوت إلى جوف الطائرة؟”

*” هذه وفاة لا حق لنا في افتراء أكاذيب”، نظرت بإمعان إلى أعين الضابط محاولة إرشاءه برزمة مالية، حملق فيها الضابط قبل أن يأمر بإحضار التابوت واستقدام أمه… حينئذ أومأ إلى مساعدين بفتح التابوت تحت كاميرات كانت متصلة مباشرة برئيس الضابطة القضائية.. وكم كان هول المشهد وهم يعاينون أكياسا محملة بالكوكا تؤثث جنبات الكفن وترقد بجوار الجثة!

يسدل الستار على…

إخطار السلطات الفرنسية بالحادث… وذهاب الوالدة رفقة ابنها ليوارى الثرى ببلدة هناك…

أما كاترينا فقد أودعت السجن في انتظار تحقيق طال لبضعة أشهر قبل إلقاء القبض على أكبر شبكة دولية للاتجار في المخدرات؛ كانت تتزعمها كاترينا؛ ممتدة بين باريس وروما وبروكسيل…

hespress.com