ذكر الأكاديمي المغربي محمد شقير أن حزب العدالة والتنمية تعرض منذ تحوله من جماعة سياسية إلى حزب سياسي لعدة ضربات سياسية، تمثلت بالخصوص في التشكيك الذي لازم نظرة السلطة لهذا الحزب وقيادييه.
واستعرض شقير عددا من الأحداث التي تسببت في رجات داخلية وسط الحزب الذي يقود الحكومة منذ قرابة عشر سنوات، معتبرا أنه “رغم التنظيم المعصرن الذي ظهر به الحزب منذ الموافقة على دخوله المعترك السياسي في منتصف تسعينات القرن الماضي، من نظام أساسي ومؤتمرات سياسية وهرمية تنظيمية، فقد كشفت هذه الرجات السياسية عن عقلية الشيخ والمريد، ونزاع الإخوان وخصوماتهم الشخصية التي قد تصل إلى الإعلان عن قطع العلاقات الشخصية”.
وتطرق شقير، في مقال توصلت به هسبريس، لاستقالات عدد من المنتمين للحزب، مشددا على أن “تقديمها في هذه الظرفية الانتخابية لا يمكن أن يفسر إلا بالانتهازية السياسية والجبن السياسي من خلال التملص من المسؤولية والتهرب من المحاسبة، إلى جانب انعدام النضج السياسي وتغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، سواء كانت مصلحة الحزب أو مصلحة الوطن”.
وهذا نص المقال:
تعرض حزب العدالة والتنمية منذ تحوله من جماعة سياسية إلى حزب سياسي لعدة ضربات سياسية، تمثلت بالخصوص في التشكيك الذي لازم نظرة السلطة لهذا الحزب وقيادييه، التي أدت في بعض الأحيان إلى المطالبة بحله عقب التفجيرات الإرهابية بالدار البيضاء في 2003.
كما تجسدت أيضا في محاصرة الحزب من طرف خصومه السياسيين في كثير من المحطات الانتخابية، لكن بخلاف هذه الضربات التي كان يتلقاها الحزب من الخارج، أصبح يعاني من خلافات داخلية منذ تصدره للتدبير الحكومي، وبعدما تمت إقالة أمينه العام رئيس الحكومة السابق، لتتحول هذه الخلافات إلى صراعات شخصية بين قياديي الحزب انعكست من خلال استقالات وتجميد العضوية، مما سيجعل الحزب يدخل الاستحقاقات القادمة مقسم الصفوف.
مرجعية الحزب والرجة السياسية
واجه حزب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة أزمة داخلية وإن لم تصل بعد إلى الانشطار الداخلي، فقد أدت إلى صراع بين قياداته بسبب تداعيات التدبير الحكومي من جهة، وقرب الاستحقاقات الانتخابية القادمة من جهة ثانية.
فقد تعمقت أزمة هذا التنظيم بسبب خلافات بين أعضائه حول عدد من القضايا السياسية تمس في جوهرها مرجعيته الدينية ومذهبيته السياسية؛ إذ بعد أزمة الحزب، التي انطلقت منذ فشل بنكيران في تشكيل الحكومة خلال الأزمة التي اشتهرت باسم “البلوكاج” الحكومي، وما ترتب عنه من شرخ عقب إقالته من رئاسة الحكومة بشكل مهين، شكل توقيع أمينه العام الحالي سعد الدين العثماني، بصفته رئيس الحكومة، على اتفاق التطبيع مع إسرائيل رجة سياسية كبرى على مستوى قواعد الحزب.
الأصوات الرافضة داخل الحزب لهذه الخطوة التطبيعية والمطالبة باستقالة سعد الدين العثماني، دفعت بنكيران ليخرج لتهدئة الأوضاع ومساندة خطوة غريمه تحت تبرير تصريف مصالح الدولة العليا، حيث طالب أعضاء الحزب بـ”الكف عن مهاجمة العثماني بالانتقادات لتوقيعه الاتفاقية مع الوفد الإسرائيلي الأمريكي”، منبها إياهم إلى أن الحكم عليه يبقى لمؤسسات الحزب.
لكن يبدو أن خرجة بنكيران لم تجنب الحزب احتدام الخلاف بين قيادييه؛ فقد فجرت هذه الواقعة ما تبقى من انسجام داخلي لقيادة الحزب، كان من تداعياتها تقديم وزير الدولة في حقوق الإنسان المكلف بالعلاقات مع البرلمان مصطفى الرميد استقالته من عضوية الحكومة إلى سعد الدين العثماني. وجاء في رسالة الرميد، المؤرخة في يوم الجمعة 26 فبراير 2021، أنه قدم استقالته “نظرا لحالتي الصحية” دون مزيد من التفاصيل، ملتمسا من رئيس الحكومة أن يرفع طلبه إلى الملك محمد السادس.
وقد امتدت تداعيات هذه الرجة إلى رئيس المجلس الوطني إدريس الأزمي، الذي بعث برسالة استقالته من رئاسة المجلس وكذا من عضوية الأمانة العامة إلى أعضاء المجلس الوطني للحزب يوم 25 فبراير 2021، ذكر فيها بعض أسباب هذه الاستقالة، قائلا: “بعد صبر كبير وتحمل ومكابدة وتردد وربما تأخر، قررت هذه الاستقالة لأنني وللأسف لم أعد أتحمل ولا أستوعب ولا أستطيع أن أفسر أو أستسيغ ما يجري داخل الحزب ولا أقدر أن أغيره، وعليه لا يمكنني أن أسايره من هذا الموقع أو أكون شاهدا عليه”.
وأضاف الأزمي أنه يتمنى أن يتم استدراك الأمر “من خلال الاستباقية المطلوبة والتحضير الجيد والنقاش الجدي والتشاركية اللازمة، وبتحمل المسؤولية الكاملة والوضوح اللازم والموقف الشجاع، عوض المباغتة والمفاجأة والهروب إلى الأمام وتبرير كل شيء بكل شيء في تناقض صارخ مع ما يؤسس هوية الحزب ويكون جيناته الصلبة”.
وقد خلفت استقالة الرميد من الحكومة واستقالة الأزمي من رئاسة المجلس الوطني للحزب العديد من ردود الفعل، حيث قالت القيادية أمينة ماء العينين إن “البيجيدي يعيش مخاضا وعليه أن يقاوم حتى لا يتحول إلى رقم صغير”، في إيحاء إلى تجربة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي حوله تصدره للحكومة من حزب معارض كبير إلى حزب بتأثير ضعيف.
وأضافت ماء العينين في تدوينة على فيسبوك أن هذه الأزمة “يجب أن نواجهها وألا نجبن أمامها وألا نستمر في إنكارها كما فعل بعضنا وقد أخطأ في ذلك”، وتابعت “هذا الحزب الكبير يعيش مخاضا يشبه تاريخه ورصيده وإرثه، هذا الحزب يقاوم حتى لا يتحول إلى رقم صغير كباقي الأرقام وفاء لتضحيات مناضلات ومناضلين صادقين من خيرة أبناء هذا الوطن”.
ترسبات الثقافة الإخوانية
يبدو أن الخلافات بين قياديي الحزب لم تقتصر على جوانب سياسية، بل تحولت إلى صراعات شخصية عكست ترسبات ثقافة الجماعة السياسية التي ما زالت تتحكم في دواليب هذا الحزب؛ إذ رغم التنظيم المعصرن الذي ظهر به الحزب منذ الموافقة على دخوله المعترك السياسي في منتصف تسعينات القرن الماضي، من نظام أساسي ومؤتمرات سياسية وهرمية تنظيمية، فقد كشفت هذه الرجات السياسية عن عقلية الشيخ والمريد، ونزاع الإخوان وخصوماتهم الشخصية التي قد تصل إلى الإعلان عن قطع العلاقات الشخصية.
ولعل هذا قد ظهر على الخصوص من خلال خرجات الأمين العام رئيس الحكومة السابق التي كال في بعضها الكثير من التوبيخ لبعض معارضيه وذكرهم بأنه كان السبب الرئيسي في تحسن وضعياتهم المعيشية، بينما شكلت خرجته الأخيرة من خلال الإعلان عن تجميد عضويته في حال المصادقة على تقنين القنب الهندي انعكاسا واضحا لترسبات ثقافة وسلوك إخوان الجماعة فيما بينهم.
وهكذا، فبخلاف الرسالة التي بعثها المقرئ أبو زيد الإدريسي، عضو الفريق النيابي لحزب العدالة والتنمية، إلى الأمين العام للحزب لإخباره بقرار تجميد عضويته داخل الحزب، على خلفية قضية التطبيع الرسمي مع إسرائيل التي قام رئيس الحكومة الأمين العام للحزب بتوقيع اتفاقيتها، خرج الأمين العام رئيس الحكومة السابق بنكيران بتدوينة يعلن فيها عن تجميد عضويته في الحزب مع قطع علاقته ببعض وزراء الحزب داخل حكومة العثماني، احتجاجا عن مصادقة الأخيرة على قانون القنب الهندي بالمغرب، مما يطرح التساؤل عن دوافع هذا السلوك الذي يتنافى مع أي ثقافة سياسية تقوم على احترام الضوابط المؤسساتية، بما فيها الضوابط الحزبية، وتحترم هرمية التراتبيات القيادية التي تنظم أي حزب.
فبالإضافة إلى أن بنكيران لا يشغل أي منصب قياديي أو أي صفة تمثيلية بعدما أبعده الحزب عن الانضمام إلى أي هيئة من هيئاته ومنعه من استغلال أي وسيلة من وسائله الإعلامية والتواصلية، وبعدما أحاله الملك إلى تقاعد سياسي مبكر من خلال منحه معاشا مكافأة على خدماته، فقد هدد بالاستقالة من حزب العدالة والتنمية، بعدما نشر “التزاما” مكتوبا، جاء فيه: “بصفتي عضوا في المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، أعلن أنه في حالة ما إذا وافقت الأمانة العامة للحزب على تبني القانون المتعلق بالقنب الهندي (الكيف)، المعروض على الحكومة، فإنني أجمد عضويتي في الحزب المذكور”.
وأضاف في عبارة لا تخلو من تهديد غير مسبوق للعثماني وأمانته العامة: “وفي حالة ما إذا صادق ممثلو الحزب في البرلمان على القانون المذكور (الكيف) سأنسحب من هذا الحزب نهائيا، وبه وجب الإعلام والسلام”.
وبعدما صادقت الحكومة على هذا القانون، وجد بنكيران نفسه مضطرا إلى تنفيذ تهديده من خلال كتابة تدوينة لا يقتصر فيها على تجميد عضويته في الحزب، بل يعبر عن مقاطعته لبعض وزراء الحزب، وعلى رأسهم سعد الدين العثماني، ومصطفى الرميد، ولحسن الداودي، وعبد العزيز الرباح، ومحمد أمكراز، مستثنيا بشكل غير مفهوم وزير الطاقة عبد القادر عمارة ووزيرة التضامن جميلة المصلي.
هذا السلوك السياسي يذكر إلى حد ما بما كان يقوم به الشيخ عندما يغضب من بعض أتباعه أو من يحس بنزوعهم لتجاوزهم له، حيث يقوم بـ”السخط عليهم” وقطع أي صلة بهم.
غير أن هذا السلوك “الإخواني” سيتكرس بعدما تراجع بنكيران عن مقاطعته الشخصية لإخوانه الخمسة عقب تدخل من رئيس جماعة التوحيد والإصلاح، حيث كتب بنكيران عبر منشور على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، قائلا: “إكراما للأخوين الأستاذ عبد الرحيم الشيخي، والدكتور عز الدين توفيق، واستجابة لطلبهما، أعلن أنا الموقع أسفله، عبد الإله بن كيران، التراجع عن قرار قطع العلاقات مع السادة سعد الدين العثماني، ولحسن الداودي، ومصطفى الرميد، وعبد العزيز رباح، ومحمد أمكراز”.
من هنا، يبدو أن ثقافة الحزب السياسي التي هي جزء من منظومة الحداثة السياسية ما زالت لم تترسخ لدى هذا التنظيم السياسي الذي لا يكتفي بالمزاوجة بين بنيتي الحزب والجماعة، بل يبدو أن ثقافة الجماعة التي تربى عليها معظم قياديي الحزب هي التي ما زالت تتحكم في سلوكياتهم وعلاقاتهم فيما بينهم، مما سيؤثر ليس فقط على تسيير الحزب وتعثره في مواجهة الرجات الداخلية والصراعات الخارجية التي يتعرض لها من طرف خصومه، بل سيؤثر بالأساس على صورة الحزب والنظرة إلى قيادييه الذين لا يكتفون في تصريف خلافاتهم الشخصية على رؤوس الأشهاد، بل يتنافسون في رقصة استقالات وتجميد العضوية في ظرفية سياسية حساسة جدا تخيم عليها تداعيات وباء عالمي، واستفزازات إقليمية، وهشاشة اجتماعية، واستحقاقات قادمة.
فثقافة المؤسسة الحزبية كانت تقتضي أن يتم الاحتكام إلى المؤتمرات العامة للفصل في مثل هذه الخلافات الشخصية، كما أن احترام القواعد الديمقراطية كان يقتضي أن لا يتهرب هؤلاء القياديون من مسؤولياتهم من خلال الاستقالة أو التجميد، بل أن يواجهوا المحاسبة الشعبية من خلال الاستحقاقات القادمة التي لم يتبق على إجرائها إلا بضعة أشهر، وآنذاك يمكن أن يقدموا استقالاتهم أو أن يجمدوا عضويتهم كما يحلو لهم. أما تقديمها في هذه الظرفية الانتخابية فلا يمكن أن يفسر إلا بالانتهازية السياسية والجبن السياسي من خلال التملص من المسؤولية والتهرب من المحاسبة، إلى جانب انعدام النضج السياسي وتغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، سواء كانت مصلحة الحزب أو مصلحة الوطن.