الخميس الماضي انتظم في دار “الندوة” ببيروت، لقاء تكريمي لأحد أعمدة الصحافة اللبنانية والعربية الأستاذ طلال سلمان مؤسس ومدير صحيفة “السفير”، القومية واليسارية، المميزة. تتبعت اللقاء، عبر تقنية الزوم، والذي شارك فيه نخبة من المفكرين والكتاب المرموقين في لبنان. المشاركون، وضمنهم طلال سلمان، أطلقوا في مناقشاتهم عواصف حزن وبكاء على الوضع العربي عامة، بلغت عند بعضهم حد اليأس من جبر انكساراته والبرء من أعضاله . وضمن ذلك التوصيف “الذي يبعث على ما هو أشد من البكاء” كما قال متدخل، كان لا بد وأن تعبر تكل المداخلات، ذهابا وإيابا، من الوضع في لبنان.

الأستاذ سلمان تحدث “عن تكشف عجز النظام في لبنان بدولته التي يتقاسم مغانمها الكبار… مع تمدد الأزمة السياسية، الاقتصادية والاجتماعية التي يعيش لنبان في إسارها منذ عام على الأقل (انفجار ميناء بيروت وما كشفه وتبعه من انهيارات ضرب العملة الوطنية وتناقص فرص العمل) والتي هزت يقين اللبنانيين واطمئنانهم…”. كما توقف عند تبدد رصيد الثقة الخليجية في لبنان، وهي التي كانت الرافعة الاقتصادية والسياسية للبلد، قبل الحرب الأهلية وبعدها. بعض المداخلات ستضيف أن لبنان لم يعد مغريا لا سياسيا ولا سياحيا ولا مصرفيا، لا للعرب ولا لغيرهم. وقد فاقم من الأزمة ومأساويتها، آثار الوباء الذي يجتاح لبنان والعالم، فضلا عن الشلل الحكومي الذي ليس في الأفق ما يؤشر على معالجته.

بعد يوم واحد، من ذلك اللقاء الحزين، سيسمع في لبنان صوت طالع من المغرب. كما لو أنه يقول “مهلا، لكم من يهتم بلبنان، من منطلق تضامني، أخوي وقومي”… إنه مضمون ما وراء سطور بلاغ الديوان الملكي المغربي الذي أعلن أن الملك محمد السادس، أمر بتقديم هبة ملكية شخصية عبارة عن مساعدات غذائية أسياسية لفائدة القوات المسلحة اللبنانية والشعب اللبناني الشقيق”… وأوضح البلاغ “… أن هذا القرار الملكي يأتي استجابة للطلب الذي تقدم به الجانب اللبناني في إطار التضامن مع هذا البلد الشقيق لتمكينه من مواجهة التحديات الاقتصادية وتداعيات جائحة كوفيد 19”. ومنذ صباح السبت بدأت الطائرات العسكرية المغربية في الوصول إلى مطار بيروت محملة بتلك المساعدات، المقدرة بحوالي 90 طن من المواد الغذائية الأساسية.

مبادرة تضامنية مع لبنان من ملك المغرب، بعد المستشفى الميداني العسكري المغربي، الذي كان الملك نفسه قد أمر بإقامته في بيروت، بعد الانفجار المريع في الميناء. هو دعم موجه للجيش اللبناني، الذي يحوز ثقة اللبنانيين، ذائدا عن وحدة لبنان وسيادته وسط التجاذبات الطائفية، وامتداداتها الخارجية. مبادرة هي شعاع أمل تضامني تخترق عتمة اليأس المستشري لدى الشعب اللبناني، من انعدام التضامن العربي معه. إنها تجاوب تضامني، فعلي واقعي وإرادي مع شعب عربي شقيق… لا مطامع للمغرب من خلالها، في لبنان، وليس يناصر بها فريقا سياسيا ضد فرقاء ولا طائفة ضد طوائف… عساها أن تكون قدوة لدول عربية، خاصة تلك الغنية بالطاقة الأحفورية، وهي قادرة على دعم الشعب اللبناني.

ملك المغرب، جعل من التضامن إحدى روافع تدبيره للحكم، نسج مشروعه المجتمعي الإصلاحي والتحديثي على نول قيمة التضامن… التضامن في بعده الوطني، بين طبقات وفئات المجتمع المغربي، بين نسائه ورجاله، وبين جهاته وبين مدنه وقراه… والتضامن في بعده الخارجي في محيطه العربي ومع امتداداته الإفريقية… التضامن في المشروع الملكي –مغربيا- هو الصفة التدبيرية لمواجهة الفقر والهشاشة، وهو مروحة التدوير أو التوزيع العادل، المنصف والاجتماعي للثروة الوطنية، وأداة الدفع بتقليص الفوارق الاجتماعية. لأن ذلك التضامن يروم أن يكون بآليات اجتماعية، مادية، عملية ودائمة، وليس مجرد فعل عاطفي إنساني رحيم، ولكنه متقطع، جزئي ومؤقت.

قبل يوم من المبادرة التضامنية مع الجيش اللبناني، كان ملك المغرب قد أطلق، ما وصف من قبل المعنيين والمهتمين، ثورة اجتماعية. صدرت عن “عقيدة” التضامن التي تسكن السياسات الملكية. لقد أضحى واقعا تمكين حوالي 22 مليون مغربي من الحماية الاجتماعية الاجبارية، بخطوات عملية على مدى الأربع سنوات القادمة. ما تحقق لم يكن حلما ولم يكن في وارد التحقق… حتى أعلنه جلالة الملك قبل أقل من سنتين… وفي أقل من شهرين، أجاز مجلس الوزراء مشاريع القوانين التنفيذية للمشروع. صادق عليها البرلمان، وبدأ من الحفل الرسمي الذي رأسه جلالة الملك، حاز المشروع “قوة الشيء الموجه للانجاز”. ومنذ اليوم، سيبدأ العمل من أجل أن يستفيد 22 مليون مغربي، من أجراء عمال وفلاحين ومياومين ومقاولين ذاتيين وأجراء ومستخدمي القطاع غير المهيكل، سيستفيدون، وإجباريا، من الحماية الاجتماعية، التي تشمل التأمين عن المرض، التعويضات العائلية، التقاعد والتعويض عن فقدان الشغل. إنها ثورة اجتماعية تبني وتقعد التضامن في أساسات تدبير الشأن العام المغربي… بما يعلي الحقوق الاجتماعية للمواطنة، يتيح منفعة للمواطن من وطنه، وبالتالي يحفزه على إفادة وطنه، بوعيه وبعمله.

لقد كان ملك المغرب هو أول المتجاوبين مع ملتمس الجيش اللبناني… لأن لديه جاهزية مفاهيمية وسياسية ولوجستيكية للتضامن… وحتى قبل أيام أمر الملك بإطلاق الحملة السنوية الرمضانية، المعتادة، بتقديم مساعدات غذائية لحوالي 3 ملايين من المغاربة من ذوي الهشاشة الاجتماعية… وهي ممارسة لسنوات عديدة خلال رمضان من كل سنة.

يستحق المغرب أن ينظر إليه عربيا، وخاصة من نخبة السياسة والفكر، بغير موجهات الشعارات ومؤثرات المركزية الشرق أوسطية، وبغير تلك المفاهيم التي هي جزأ من الواقع العربي الذي بكت لحاله مداخلات “دار الندوة” في بيروت الخميس الماضي. إنه بلد عربي تجتهد قيادته لتليين الأزمات. ومحاولة التقدم. نقطة ضوء في هذا الوضع العربي المأزوم. محالة تستحق تفحصها والانفتاح عليها… ولولا هذه المعضلات العربية، لكان المغرب مساهما فعالا في التضامن العربي المأمول… ولكن الفعال، المجدي والواقعي.

سنة 1986 وأثناء واحد من المؤتمرات القومية والثورية التي كان يستمتع بعقدها العقيد معمر القذافي، في طرابلس… دعانا الشهيد جورج حاوي، الأمين العام، أيامها، للحزب الشيوعي اللبناني. دعانا أنا ورفيقي العربي مفضال عضو الكتابة الوطنية لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي آنذاك، الكاتب والصحفي المقتدر، إلى الغذاء على مائدته، في فندق “باب البحر”. وكان مرفوقا برفيقه جورج بطل عضو المكتب السياسي للحزب وشخصيات لبنانية… بعد حديث عام حول الأوضاع العربية أيامها، عرجنا على أوضاع المغرب… وخلال الحديث التفت إلي الشهيد قائلا “رفيقي الأطلسي، رجاءا أن تحافطوا على مميزات الوضع في المغرب. واحدة من تلك المميزات هي الملكية… حافظوا عليها، الحسن الثاني مختلف تماما عن طغاتنا الذين يسمون أنفسهم رؤساء جمهوريات ثورية. لا تقلدونا ولا تخطئوا مثلنا في المشرق العربي… حافظوا على الملكية التي تقي المغرب من عدة مخاطر وويلات نواجهها اليوم.”.

لو كان الشهيد جورج حاوي بيننا اليوم، ماذا كان سيقول؟

المغاربة حافظوا على الملكية. والملكية، معهم، وبهم، تحافظ على الوطن… بل تحفز على تطويره. الملك اليوم هو من يقود المغرب، بتبصر تاريخي نحو التفوق على مشكلاته ومغالبة كوابحه السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية… بفكر، روح، سياسية وآليات التضامن الاجتماعي.

hespress.com