التطبيع وأشياء أخرى.. في قراءة مغايرة


فؤاد بوعلي


الإثنين 11 يناير 2021 – 00:15

عندما تغير الدولة بوصلتها تغير وجودها.

كثيرة هي التحليلات السياسية والاستراتيجية التي حاولت تقديم تفسير للإشهار “المفاجئ” لتطبيع العلاقات بين السلطات المغربية والكيان الصهيوني. فبعيدا عن الكتابات التبجيلية التي ربطت بين الخطوة الأمريكية في الصحراء وإشهار العلاقات مع الكيان، أو أدبيات “التبرير” الحزبية التي تعمل جاهدة على إيجاد مسوغات النكوص عن المبادئ المؤسسة، نحت العديد من الأقلام المتناسلة في صفوف الباحثين والأكاديميين والإعلاميين إلى تفسير الخطوة من منظور جيوستراتيجي يربط الأمر بإعادة ترتيب الإقليم وعلاقة ذلك بصراع المحاور الاقتصادية والسياسية بين الغرب والصين، والأدوار الجديدة التي غدا المغرب يلعبها في مختلف المحاور والتي أثمرت الكثير من الإنجازات الخارجية. ولأن الأمر يتعلق بمسار استراتيجي يرهن وجود الدولة ووظيفتها في قابل الأيام، فالأولى التفكير الجماعي في علاقة هذا المسار بثوابت الدولة ومقوماتها الأصلية، دون الوقوف عند حدود الراهن. إذ لا يمكن للقارئ أن يفسر الحدث الأخير بمعزل عن مسار من التحول عن بوصلة الدولة الوطنية كما رسمها المخيال الجماعي للمغاربة أثناء المقاومة وبناء الدولة. فقد قام بناء الدولة المغربية الحديثة بعد الاستقلال على شرعيات سياسية وعقدية وهوياتية بررت وجودها ومزايلتها للمنطق الاستعماري، ووضعت للجماعة الجديدة آنئذ ثوابت مستَلهَمة من مشتركها الجمعي ضمنت الاستمرارية على الرغم من الإشكالات التي طرحتها الجغرافيا في كثير من الأحيان. فهل ما نعيشه الآن هو إعلان رسمي عن إخفاق “الدولة الوطنية” في لبوسها المغربي؟ أم هو رسم لمعالم الوجود الجديد للمغرب بعد عقود من التردد وعدم الحسم؟

لم يكن اختيار المغاربة لطبيعة النظام السياسي، بعد الاستقلال، منفصلا عن اختيارهم العقدي ممثلا في الإسلام، أو عن اختيارهم اللغوي ممثلا في العربية، أو عن اختيارهم القومي ممثلا في فلسطين…. فكلها خيارات مضمنة في عقد واحد. إذ لم تشغل أحداث المقاومة في المغرب زعماء الحركة الوطنية عن التفكير والمساهمة في المقاومة الفلسطينية. حيث ارتبطت في مخيال المغاربة فكرة الوطن الحر والديمقراطي بتحرير القدس من ربقة الاحتلال الصهيوني. ويمكن التمثيل بانتفاضة فاس في 1929، التي قادها علال الفاسي في حمأة الاستعمار، ضد المس بالمقدسات الفلسطينية. وهل هي مصادفة أن توافيه المنية أثناء وجوده في رومانيا، في زيارة لشرح القضيتين المتلازمتين في عقل المغاربة: قضية الصحراء المغربية، والقضية الفلسطينية!؟. يا لمكْر التاريخ!… وهل مصادفة أن يصدح المختار السوسي في بغداد: “كيف يقول المسلمون المستقلون إنهم حقيقة مستقلون ما دامت هناك شعوب إسلامية أخرى لا تزال ترزح تحت الاستعمار الغاشم، مثل فلسطين التي منها في قلب كل مسلم جذوة تتلظى…”.

وهكذا كان الوعي بالوطن وعيا بعمقه الحضاري والاستراتيجي، ووعيا بالتناقض الجوهري والرئيس. حيث ظلت النخبة المغربية تراهن على شروط الدولة الحديثة وأعناقُها مشرئبة نحو عمقها الاستراتيجي والحضاري. وإن كان من فشل يُنسب للدولة الوطنية فهو ليس في منهجية البناء فقط ولكنه أيضا في تمثل الانتماء، لأنه من المستحيل تصور نجاح دولة عربية خارج فضائها الإقليمي، أو مقيدة في حدودها التي ورثتها من الزمن الاستعماري وحاولت التقيد بشروطها الوجودية. لكن الأدهى أن تغير الدولة بوصلتها لتغدو دولة وظيفية تفقد شرعياتها الوجودية. فاختيار الفرنسة في التعليم، والتخارج في الاقتصاد بتعبير فتح الله ولعلو، والمنطق المقاولاتي في التدبير السياسي والثقافي، الذي بشر به تقرير الخمسينية، كلها عناوين كبرى للتحول. فكل المشاريع التي تقدم، والقوانين التي تصدر، تبرز أننا أمام نخبة لا تنظر للمواطن إلا كمستهلك لسلعها المتعددة. فالهوية غدت ورقة للتوظيف السياسي، والثقافة فولكلورا للبهرجة والتنشيط، والتعليم آلية لتخريج خَدَم التقنية… والغائب الأساسي هو إنسية المواطن وانتماؤه إلى التراب والتاريخ والأمة. وكما قال المنجرة: “عندما يصبح الوطن سلعة فلا تتعجب من كثرة التجار”. والكلمة المفتاح هي وظائفية الدولة وانسلاخها من قيمها. وفي هذا المسار لن يكون التطبيع، على الرغم من كل المبررات التي تقدم، إلا عنصرا جديدا في العقد الجديد بعيدا عن شرعيات الوطنية والسيادة.

hespress.com