اندفاعة جزائرية إلى “بلاد شنقيط” لمنافسة المغرب على عمقه الإفريقي استدعتها التطورات السياسية الحاصلة في قضية الصحراء، إذ يُسارع “قصر المرادية” لتعزيز التعاون الأمني والطبي والاقتصادي مع نواكشوط بعد أسابيع من الأزمة الحاصلة بمعبر “الكركرات” الحدودي.

وتعمل الجزائر على معَاكسة المغرب في ما يتعلق بالقضايا التي تستأثر باهتمامه الدبلوماسي؛ فبعد نوايا الرباط الرامية إلى تدعيم العلاقات الثنائية مع نواكشوط، وهو ما تجسد من خلال الإعلان عن زيارة ملكية مبرمجة لموريتانيا بعد تحسن الوضعية الوبائية، قام عشرات المسؤولين الجزائريين بزيارات متنوعة إلى الجارة الجنوبية.

وتأتي محاولة الاستقطاب الجزائري لـ”بلاد شنقيط” في سياق الاصطفافات بالمنطقة، على ضوء التحولات الإستراتيجية التي يشهدها الملف عقب الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، ما يُفسّر “الهرولة الجزائرية” لإقامة علاقات دبلوماسية “متميزة” عن الجانب المغربي، الذي يسعى بدوره إلى استمالة موقف العاصمة الموريتانية من نزاع الصحراء.

وبمجرد إحقاق المغرب لبعض التفاهمات العسكرية والأمنية والسياسية مع الطرف الموريتاني، تندفع الجزائر في اتجاه “بلاد شنقيط” لتوقيع اتفاقيات مشتركة في مجالات عدة، ما يُفيد بأن التحركات الجزائرية لا تخرج عن نطاق “رد الفعل” عوض “الفعل” الذي يسِم الدبلوماسية الاستباقية للمغرب.

زعامة إقليمية

تعليقا على ذلك قال عبد الواحد أولاد ملود، الباحث في الشأن الأمني لمنطقة شمال إفريقيا والساحل، إن “الجمهورية الإسلامية الموريتانية تحاول دائما الحفاظ على توازناتها لنسج علاقات تعاون مع الجارتين المغرب والجزائر، نظرا للحدود المشتركة التي تجمعها معهما”.

وأضاف أولاد ملود، في حديث مع هسبريس، أن “الجارة الجنوبية للمغرب تعد أهم طرف في حل معادلة قضية الصحراء وفقا للكرونولوجيا التاريخية للفاعل الموريتاني في المنطقة؛ بدءا من خروج إسبانيا وسن اتفاقية مدريد، وصولا إلى توقيع معاهدة الهدنة بين الجمهورية الإسلامية وجبهة البوليساريو بضغط من الجزائر، وانتهاءً بالتطورات الأخيرة التي يشهدها ملف الصحراء”.

وتابع الباحث ذاته شارحا: “الظاهر أن موريتانيا هي الحلقة الأضعف في المنطقة، لما عانته من ويلات سياسية واقتصادية وأمنية طيلة فترات استقلالها، إلا أن العمق الجيو-سياسي لهذا البلد ضارب في خلق التوازنات الأمنية بالمنطقة؛ فهو من الأوراق التي يمكن الاعتماد عليها في رأب الصدع، وهو ما نلاحظه جليا في قرارات مجلس الأمن حول الصحراء، إذ يقحم دائما موريتانيا للحضور في المفاوضات، لما لها من ثقل جيو-استراتيجي بالمنطقة”.

وأوضح المتحدث ذاته أن “التنافس المغربي على العمق الإفريقي، أو ما يمكن أن نطلق عليه مسألة الزعامة الإقليمية، بدأ يلوح في الأفق منذ بداية القرن الحالي، بعدما كان البلدان منشغلين في العقود الأخيرة بمشاكلهما الداخلية؛ ذلك أن المغرب شهد سنوات الرصاص، وكانت قضية الصحراء الشغل الشاغل على مستوى السياسة الخارجية، فيما عاش الداخل الجزائري على لهيب نيران العشرية السوداء بسبب القمع السياسي، وهذا مع تأثير الحرب الباردة على البلدين”، وفق تعبيره.

صحوة دبلوماسية

يؤكد الباحث عبد الواحد أولاد ملود أن “بداية القرن الحالي عرفت منحى آخر تمثل في تنافس البلدين على المنطقة، إذ يحاول كل طرف استغلال مقوماته للتأثير إقليميا، في حين أن الجارة الموريتانية إحدى الحلقات الأهم في هذا التنافس المغربي الجزائري”، مستدركا: “لكن يجب الوقوف عند نقطة مهمة هي أن كل طرف يتعامل حسب أجندته وواقعه الجيو-استراتيجي”.

واستطرد ولاد ملود بالقول: “إذا كان المغرب يحاول دائما كسب موريتانيا لخلق نوع من التوازن على مستوى قضية الصحراء في ما قبل، فإنه اليوم يتعامل بمنطق البحث في المشترك بين البلدين إقليميا، لما عرفته المنطقة من تهديدات أمنية حديثة، على غرار الإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير النظامية. ثم لا يمكن تجاوز الصحوة الدبلوماسية المغربية في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء”.

وفي الجانب الآخر، تبعا للمصدر عينه، فإن “الجارة الشرقية للمغرب ترى موريتانيا كالعديد من الدول الإفريقية، تقترب منها كلما اشتدت أزمة الصحراء وأحست الجزائر بعزلة إقليمية، وهو ما سجلناه بالملموس في الآونة الأخيرة؛ فبعد أزمة معبر الكركرات والخسائر الاقتصادية بالأسواق الموريتانية بسبب الركود التجاري الذي خلفه غلق المعبر بسبب القلاقل الأمنية لميليشيات البوليساريو، فهمت موريتانيا جيدا أنه لا محال من استيعاب الدرس، فبدأ التنديد من النخب والمثقفين الموريتانيين بما تقوم به البوليساريو والجزائر”.

تصدير الأزمات

وفق الباحث السياسي أولاد ملود فإن “الاتصال الهاتفي بين الملك محمد السادس وولد الغزواني، ودعوة الطرفين لتبادل الزيارات، دفع الجزائر إلى مزيد من التقارب مع موريتانيا لطلب الود؛ وهو ما لحظناه في زيارة رئيس أركان الجيش الموريتاني الفريق “محمد بمبه مكت” للجزائر، حيث التقى بالسعيد شنقريحة للتباحث في ما يتعلق بالتعاون العسكري، فضلا عن زيارة وزير الصحة الجزائري للعاصمة نواكشوط، إلى جانب السعي الجزائري إلى إعطاء معبر “تندوف شوم” طابعا تجاريا ثنائيا”.

وأورد الأكاديمي ذاته أن “المغرب استغل أخطاء الماضي، واتجه بشكل دبلوماسي وفق الذكاء والحكمة نحو القطب الإفريقي، بالقطيعة مع سياسة الكرسي الفارغ والعودة للاتحاد الإفريقي، وطلب الانضمام للإكواس، موازاة مع ديناميته في تجمع الساحل والصحراء، وكذلك دعوته المستمرة لتجاوز النزاعات الثنائية والتركيز على المشترك مغاربيا، خاصة بينه وبين الجزائر، ونجاحه في الاختراق الدبلوماسي الإفريقي؛ اقتصاديا وسياسيا وأمنيا في العمق الإفريقي”.

وفي مقابل ذلك فإن “الجزائر للأسف الشديد لا تكترث بالمشترك في المنطقة بقدر ما يهمها تصدير أزماتها كلما أمكن ذلك”، يضيف المتحدث، الذي خلص إلى أن “السياسة الخارجية الجزائرية أصبحت موسمية تتوافق جرعتها مع الإحساس بالعزلة الإقليمية، وهو ما لمسناه هذه الأيام على وسائل الإعلام المحلية؛ فعوض أن تركز على أزماتها الداخلية أضحت تسوق الوهم والحرب في المنطقة”.

hespress.com