قضاء نزل على القضاء:
“لم يجد الجنرالات أي غضاضة في تقويض سلطة القضاء-إن كانت له سلطة ما في الجزائر-والصفح عن مجرمين متورطين في جرائم دم، وفي اختفاءات قسرية لا تزال الأسر الجزائرية تعاني من وقعها إلى اليوم، ولا منصفا؛ وطويت في الوقت نفسه جرائم ارتكبها قادة عسكريون دمويون”.
رغم أن هذه الفقرة مقتبسة من مقال لي بعنوان: “رئاسيات الجزائر: المنفذ إلى حقل الألغام”؛ وهو يعود إلى أبريل 2014 (انظر الأرشيف الرقمي)، فإنها صالحة كمدخل للحديث عن الفضيحة القضائية الحالية، التي يلملم الحراك الشعبي عنفوان بداياته ليرد عليها، بما يوازي وقاحتها واستهتارها بمؤسسات الدولة.
لا يمكن العدول عن أحكام تراوحت بين خمس عشرة وعشرين سنة سجنا نافذا إلى البراءة التامة إلا في القضاء الجزائري، الذي حكم عليه-بقدرة رجل الوقت الجنرال شنقريحة-بكون ملفات سعيد بوتفليقة والجنرالين توفيق وطرطاق وزعيمة حزب العمال لويزة حنون، في ما يعرف بقضية “الاجتماع المشبوه”، فارغة إلا من صك الاتهام العسكري الموقع من طرف الجنرال الراحل قايد صالح.
مات الجنرال عاش الجنرال.. ولا يهم أن يحصل هذا العبث القضائي ورئيس الدولة عبد المجيد تبون خارج البلاد وداخل سكرات “كوفيد-19”.
لم يُشرَّف حتى بعفو، ولو مزعوما فقط، عن المحكومين؛ يخوله له الدستور، حفظا لماء الوجه الرئاسي والقضائي، ربما حتى لا يَحوز سهما يدخره، في مربع جنرالات العُصبة النافذة.
ولا يحصل إلا في الجزائر أن يُستقدم من الخارج هارب محكومٌ، غيابيا، بعشرين سنة سجنا، في طائرة رئاسية، وتؤدى له في المطار التحية العسكرية؛ ثم يخفر معززا مكرما إلى المحكمة، وفي يوم أحد، لتخلي سبيله في ظرف عشرين دقيقة، ويُلقَى بملفه القضائي، الذي يقطر دما ومالا قذرا، في سلة المهملات.
على موسوعة “غينيس” ألا تَغفلَ عن حق الجنرال خالد نزار في ولوجها كأسرع سجين يقضي عشرين سنة، من زمننا الأرضي الثقيل، في عشرين دقيقة “ضوئية”.
طبعا هي خبْطات عشواء، غير مستغربة من جنرالات قلوبهم شتى؛ ينامون على خمر ويصبحون على أمر، ينسجون غزلا بليل وينقضونه في الصباح، وهلم أحلاما وكؤوس “البراندي” وأرصدة المال العام المستباح.
كانت أقدام قايد صالح تثير الرعب في الولايات العسكرية والثكنات، وها هو اليوم لا يأمن حتى على قبره في مربع الشهداء بمقبرة العالية؛ هذا إذا لم تستخرج عظامه وتجلد، على مرأى ومسمع من الرئيس “تبون” الذي ارتضاه -قهرا- للشعب الجزائري.
ولاية “الزومبي” ZOMBIE:
(مصطلح من ثقافة هايتي، متداول في الإنجليزية والفرنسية، ويعني: الشخص الحي الميت، الذي فقد كل شكل من أشكال الشعور الإنساني، وهو بسلوك عنيف ومعدي في مواجهة البشر).
هذه الولاية-على غرار ولاية الفقيه الإيرانية-هي ما يصدق إجمالا على النظام الجزائري، حتى لا نغرق في تفاصيله الغريبة.
إنه نظام قائم على تنفيس أزماته الدولتية العسكرية باستعادة رموزه السابقين، وامتصاصهم كالعظم إلى أن يطويهم الثرى نهائيا.
فعلوها مع المرحوم محمد بوضياف، ولما بدا لهم أن الرجل على عهد رجال الثورة الكبار وصاحب مشروع إصلاحي كبير، من بعض تفاصيله الخارجية، تجديد العلاقة مع المملكة المغربية، قتلوه.
وفعلوها مع عبد العزيز بوتفليقة، وأرخَوا له العنان بقدر ما أرخى لهم زمام التسلط والمال والأعمال، ولما صبَّحهم الحراك الهائل والمزمن والمنذر، انقلبوا عليه، وعلى محيطه السياسي والاقتصادي، وحتى العائلي.
وفي سجل ولاية “الزومبي” هذه، التي ينفردون عالميا بها، الشاذلي بن جديد، وليامين زروال، الذي يشكل مناط الحكم في ملف “الاجتماع المشبوه”.
واليوم، الدور على الجنرال ووزير الدفاع السابق خالد نزار، و”رب الجزائر”، صانع رؤسائها-سابقا-الجنرال مدين “توفيق”.
تجد “الزومبية” الجزائرية-المستعادة أخيرا-تفسيرها في الفراغ الرئاسي؛ فرغم تعافي الرئيس “تبون” وعودته إلى قصر المرادية، فهو لا يشكل أي ثقل في الدولة؛ لأنه في نظر قائد الأركان شنقريحة، وجنرالاته النافذين، مجرد تركة للمرعب قايد صالح، سجان الجنرالات.
ولا يخفى أنه بالنسبة للشعب الجزائري الحراكي مجرد شهادة إثبات لزيف انتخابي كبير مرت به البلاد.
أما شنقريحة فهو بدوره جنرال من الوزن الخفيف، رتبة وتكوينا سياسيا؛ وهذا يعمق الفراغ، خصوصا في ظل الأزمات المترابطة: السياسية، الصحية والاقتصادية.
ورابعتها ناقة الصحراء المغربية:
وهي بالنسبة لهم كناقة طرفة، العوجاء والمرقال، التي “تروح وتغتدي”، وكما يُمضي بها الشاعر همَّه، يركبونها هم إلى كل المحافل الدولية، ولا يملكون غيرها.
(وإني لأُمْضي الهمَّ عند ادِّكاره**بعوجاء مِرقال تروحُ وتغتدي)
إن الوضع الدولي الجديد والمباغت بخصوص قضية الصحراء، التي مغربت الولايات المتحدة مغربيتها الأصيلة، وهي شهادة مجلجلة من أقوى دولة في العالم، ترك دويا في أسماع جنرالات الحكم، تخبَّطهم كما المَسُّ.
شهادة تلتها إجراءات أمريكية قانونية وخرائطية سريعة، خلطت كل الأوراق وجاءت البقية من خريطة حلف الناتو، فكانت الضربة النجلاء القاضية.
إذا استحضرنا كون الجزائر لا توجد في المحافل الدولية إلا حيث تثار قضية الصحراء، ندرك مدى الانهيار العصبي الدولتي الذي أصابها.
ولا رجال بجانب شنقريحة المرتبك، ليعرِكوا هذا القضاء الذي نزل “كجلمود صخر حطه السيل من عل”.
من هنا تحَرُّكُ ولاية “الزومبي” المعهودة، لتستعيد الجنرال خالد نزار من هروبه الأوروبي، ورصيده السجني الذي صُرف له، معززا في طائرة عسكرية رئاسية وببساط أحمر في المطار.
ولتبعثَ صاحِبَي السجنِ، الجنرالين توفيق وطرطاق، من سجنهما، ليعودا إلى سجلهما الحافل بالمخابرات الدموية في العشرية السوداء وبعدها.
وخامستها إسرائيل:
ومن فرط الهلع رآها الوزير الأول الجزائري، عبد العزيز جراد، على حدود بلاده، هكذا قال.
طيب حضرة الوزير، لنسلم جدلا فقط بما تقول، فهي كذلك-على حدودك-لأنك لا تستأهل أن يجاورك المغرب.
بنزق وسفاهةِ كلمة شطبتَ على الجار التاريخي والجغرافي للجزائر، منذ أن استوت دولة حديثة المنشأ، سعيدة بحدودها الموروثة عن الاستعمار، كأي دولة من دول الأدغال الإفريقية.
اطمئن أيها الجار الذي لا تؤمنُ بوائقه، لن يفرط المغرب في حق الجوار، ولن يستقوي بغير قوة شعبه وجيشه وعدالة قضيته.
ولعلك إذا طلبت تأكيدا، مُطَمئِنا، من ملك البلاد، والقائد الأعلى لقواتها المسلحة، فستحصل عليه؛ وإن كان قد أكد مرارا وتكرارا على وحدة التاريخ والمصير المغاربي.
ألم تتعلَّم، أيها الوزير، من سكوتنا على الإرهاب المجاور، وتحرش إيران وحزب الله بوحدتنا الترابية، وضمن خرائطكم؟
أما إسرائيل فهي لا تحتاج إلينا، في حدودنا، لتعرف ما يجري عندكم، لأن أخبار دولة الجنرالات، والشعب المقهور، والدولة المختطفة، شاعت في الآفاق والأمصار، بل حتى في السماء حيث العيون الآلية التي لا تنام.
لا شيء أيها الوزير الأول يدبر ضد الجزائر، لا مغربيا ولا إسرائيليا؛ أتدري لماذا؟
لأن جنرالاتكم برمجوا كل شيء، منذ اختطاف الدولة وقتل شرعية الثوار، لينهار النظام تلقائيا؛ وها هي الساعة قد أزفت.
وهي في الوقت نفسه إشراقة مستحقة للشعب الجزائري الشقيق، ليستعيد وضعه المدني الطبيعي ضمن الشعوب المغاربية.
تحسبا لانهيار النظام:
كل من يعرف دموية الجنرالات نزار وتوفيق وطرطاق، وشبكاتهم الأخطبوطية، خصوصا في عشرية الدم، يدرك أن الجزائر مقبلة على مرحلة عصيبة من تاريخها؛ إذ لا يمكن لهؤلاء المثقلين إجراما أن يجتمعوا-ولهذا استعيدوا-إلا على تحولات مفصلية، تسعى لاستعادة هيبة دولة العسكر التي مرغها الحراك في التراب حد الاضطرار إلى سجن رموزها العسكريين والسياسيين والاقتصاديين، في محاولة التفافية تطفئ غضب شارع انتفض لكي لا يتراجع أبدا، مهما كان الثمن.
وعما قريب سيستعيد كل وهجه، خصوصا وهو يرى ويسمع تحركات وهمهمات أشباح الماضي.
وحتى تتم التغطية على بشاعة القمع الداخلي المقبل، من المتوقع أن تتواصل حرب النجوم في تخوم صحرائنا، بإيهام الشعب الجزائري بأن عدوا مدججا بأمريكا وإسرائيل يتهدده، وايهام الانفصاليين المزعومين، في تندوف، بأنهم يخوضون فعلا حرب تحرير في مواجهة جيوش المملكة.
ولا يُستبعد أن تكون هناك نقاط تماس جزائرية مغربية، تخدم الأهداف نفسها دون أن تصل إلى حد الحرب المعلنة؛ لأنها ممنوعة علينا في هذا الجنوب الأوروبي، المهدد دوما بالإرهاب وجحافل الهجرة.
ولا يستبعد أيضا أن تكون هجمة الاستبداد الداخلي شرسة في الغرب الجزائري، الذي يعرف، بحكم التاريخ والمخالطة، قيمة جيرانه.
وإذا حدث هذا، تبقى مدينة وجدة على عهدها مع الشعب الجزائري المهاجر، هذه المرة هروبا من قمع رجال دولته، وبني جلدته.
أما هجرة مواطنينا المرتقبة من مخيمات لحمادة، فستكون إلى إخوانهم وأخواتهم وتحت راية الوطن الغفور الرحيم. هذا قبل فوات الأوان ونسخ هذه المغفرة.
وفي جميع الحالات، تبقى يقظة المملكة، في ما يخص الاشتغالات الجديدة لولاية الزومبي، مطلوبة.
ويبقى الاحتمال ضعيفا في مراجعة الجنرالات لمواقفهم من وحدتنا الترابية، استجابة للتحولات الدولية المتلاحقة، لأن الديكتاتورية العسكرية تفهم في الهزيمة الحربية فقط، وليس في السياسة السلمية القائمة على المصالح وكل فنون الممكن.