في دراسة جديدة، يدافع المؤرخ إبراهيم القادري بوتشيش عن النكتة عامة، والنكتة السياسية خاصة، بوصفها مصدرا لكتابة تاريخ العالم العربي، مبرزا ما تتيح من “إمكانيات الكشف عن البنية النفسية المخبأة، والمشاعر والمواقف، لمكونات المجتمع وقيمه”، واستيعاب تمثلات “الذاكرة الجماعية”.

جاء هذا في دراسة بعنوان “النكتة مصدرا تاريخيا: هل يساهم النص المضحك في كتابة التاريخ العربي؟”، نشرت في العدد الثالث عشر من مجلة “أسطور”، أعدها الأكاديمي إبراهيم القادري بوتشيش، أستاذ التاريخ والحضارة في جامعة مولاي إسماعيل بمكناس رئيس المجموعة المغاربية للدراسات التاريخية والحضارات المقارنة.

وسجل المؤرخ أن “اختلاف النكتة عن النص التاريخي المألوف، لا يعني عدم إمكانية توظيفها في الكتابة التاريخية”، مضيفا أنها “لا تخرج عن دائرة المصادر اللاإرادية مثل الكرامات الصوفية، والنصوص الروائية، وغيرها من المتون الإبداعية المتخيلة، التي تخالف أيضا بنية النص التاريخي، ولكنها تثري الكتابة التاريخية، وتسدّ الفجوات التي تسودها”.

وقال بوتشيش إنه كلما اتسعت رقعة التحولات المعرفية والطفرات المنهجية، وكلما تكاثفت العلاقات بين التاريخ والعلوم المجاورة التي تمد المؤرخ بآليات جديدة للاشتغال وتدخله في عوالم معرفية لم يكن يألفها، “تتجدد أسئلة المادة المصدرية”، موردا أن “من بين هذه العوالم المعرفية غير المألوفة، عالم الضحك، وما أُنتج من نصوص تقدم نفسها اليوم مادة مصدرية لقراءة التاريخ”.

ومع عدم وجود تاريخ بشري خلو من الضحك، تثير هذه الدراسة أسئلة: “إلى أي حد يمكن اعتبار النص المضحك، من نوادر ونكت ومستملحات وطرائف، مصدرا من المصادر التي يستند إليها المؤرخ لسد بعض ثغرات التاريخ العربي وتفسير التاريخ السياسي والاجتماعي؟ ثم أيمكن اعتبار النص المضحك مكملا للنص “الجاد” أن ناقضا لصحته؟ وهل يعد الهزل في حد ذاته تعبيرا عن واقع تاريخي مسكوت عنه ولو بطريقة مراوغة ومليئة بالشيفرات؟”.

وذكر المؤرخ أنه رغم كون النكتة ضاربة بجذورها في عمق التاريخ، ورغم تشكيلها “تعبيرا رمزيا دفينا يحتل مساحة واسعة في المخزون الثقافي للمجتمع العربي وقيمه وتقاليده وأعرافه”، إلا أنها لم تُتداوَل “في الدراسات التاريخية العربية المعاصرة، أو تم إهمالها بحجة أنها مجرد مصدر هامشي يفتقر إلى الجد والانضباط ويكتنفه غموض المعنى وتورية المقصد”؛ ومن ثَمَّ، لا يرقى إلى دقة “الوثيقة” وقيمتها.

وتبرز الدراسة أهمية النكتة التي “تزيل عن المجتمع القشرة السطحية، وتغوص في ترسباته الذهنية وتاريخه وعمقه الحضاري، بأسلوب هزلي وممتع، عبر كتلة نصية صغيرة، تستطيع بفضل حركة التمويه والتورية، أن تجعله يبوح بما لا يمكن البوح به في ظل الثوابت والتابوهات واحتباسات حرية التعبير، وتبعده عن مقص الرقابة”.

وتسلط الدراسة الضوء على النكتة من حيث هي مادة تؤرخ للذاكرة الجماعية، كما تناقشها بوصفها جنسا أدبيا شفاهيا يسعى إلى توليد إضافات جديدة، وتقديم إجابات عن أسئلة يطرحها البحث التاريخي، لأن ظاهرها “نشاط هزلي يروم إضحاك المتلقي”، ولكنها في العمق “رسالة جدية، وطرحٌ لقضايا مجتمعية وسياسية واقتصادية وذهنية شائكة، وأداة لفهم العقليات وتحليل النظم والقيم الثقافية التي تندرج في قلب اهتمامات المؤرخ”.

هذه النكتة، وفق المصدر نفسه، عادة ما ترد في نص إبداعي لفظي شفهي تواصلي يبثه المرسل للمتلقي، بهدف إحداث أثر سارٍّ في نفسيته، بواسطة حكاية طريفة، تتميز بالقدرة على إضحاكه، والتنفيس عما يختلج ذاته من مشاعر مكبوتة، وقد تكون سياسية، أو اجتماعية، أو جنسية، وقد ترتبط بفئة مهنية، أو قد تكون ذات طابع جهوي أو قبَلي أو عرقي.

وتركز الدراسة على النكتة السياسية، معرِّفة إياها بكونها شكلا “من أشكال التعبير الجماعي عن قضايا المجتمع، بطريقة مجازية ساخرة، فيها نوع من النقد للوضع السياسي والاجتماعي القائم”، وبأنها “رسالة خفية تتضمن الانتقاد الساخر الموجه إلى طرف معين، ومحاولة لتجاوز ظروف القهر والكبت، والتعبير عن موقف الفئات المظلومة، والأقلية ضد الأغلبية، وإبراز المواقف والتطلعات التي تختزنها الشعوب، ولا تقدر على الجهر بها علنا”، قبل أن تضيف أنها “غالبا ما تُنتَج في الأوساط الشعبية وفئات المهمشين”.

وسجل المؤرخ خلو الحوليات التاريخية العربية من أي نص ضاحك يزرع البسمة في شفاه القارئ، قبل أن يستدرك قائلا: رغم “هذا الفراغ والندرة” في روايات النكت والهزل في الحوليات التاريخية، “لا نعدم نوادر ومستملحات وردت في المصادر الدفينة مثل كتب الطبقات والتراجم، وأخبار الحمقى والمغفلين، والموسوعات التاريخية العامة”.

ومن خلال استقراء نصوص النكت، يتلمس الدّارِس خمس مؤشرات دالة على صلة النكتة بالتاريخ والذاكرة الجماعية، واعتبارها مصدرا من مصادره البديلة: فإذا كان التاريخ يجعل من سلوك الإنسان موضوعا للدراسة والتحليل، فإن الضحك الذي تختزنه النكتة هو، كذلك، “تعبير وسلوك مرتبط بالإنسان دون غيره”، يشكل الإنسان فيه نقطة تقاطع بين التاريخ ونص النكتة نظرا لترجمتها “هموم الإنسان ومشكلاته المستعصية”.

كما يشترك التاريخ والنكتة أيضا في اهتمامهما بالخبر، علما أن النكتة “مادة خبرية قصيرة، ترد في شكل حكاية أو لفظ يثير الضحك”، ولها، مثل التاريخ، معنى ظاهري وآخر باطني، ولها نفس دوره الوظيفي الذي يصبو إلى كشف الحقيقة؛ لأن “الحقيقة فيها تختفي وراء الهزل، والهزل هو نقطة عبور نحوها، وتكتيك ذكي، ومسلك مناور، يخفي النيات الحقيقية لبلوغ المقاصد الجادة التي تتوارى خلف الكلمات الهزلية”، في استشهاد أورده.

وزاد بوتشيش قائلا: “الحقيقة في التاريخ ليست دائما هي الحقيقة الظاهرة للعيان”، بل تتجلى ميزتها أحيانا في “تمنّعها وحرصها على التحجّب، وعلى تخزين المكبوتات، من دون البوح بها صراحة”، مبرزا أن “ما يميز الحقيقة في النكتة أيضا هو أنها ليست خبرا مباشرا أو نقدا مباشرا فحسب، بل هي تلميح إلى شيء خفي، وخداع وتلون، وظهور في مشاهد مجازية وتخيلية. ومن ثَمّ، لا تقدم نفسها جاهزة للمتلقي، بل عليه أن يبحث عنها في طيات عباءتها الساخرة”.

ورابع المؤشرات التي سجلها المؤرخ، ارتباط النكتة بالواقع، رغم تلونها بمسحة من الخيال؛ إذ لا يمكن أن تنشأ من فراغ، لأنها انعكاس أمين للواقع، وصدى للنظام السياسي والاجتماعي.

ومن ثَمّ، فهي “نص تاريخي يُجيب عما تعذر الإجابة عنه في الواقع التاريخي، فرغم اختراع بعض شخصياتها ومَشاهدها، إلا أن مؤلف النكتة يسعى إلى مطابقة إبداعه النصي بالواقع، وربطه بمجريات الأحداث التاريخية”، وهو ما يجعل النكتة السياسية، في العمق، “تواصلا وحوارا غير مباشر بين السلطة والمجتمع”.

خامس المؤشرات، ثبوت صلة النكتة بذاكرة المجتمع، لكونها لا تُحقق ذاتها إلا في سياق جماعي، ويشاركُها الفردُ الجماعةَ، وتُستقى مواضيعها من مرجعيات القيم الاجتماعية والثقافية السائدة في مجتمع ما؛ ولذا هي “لا تعكس ثقافة الفرد، بل هي جزء من مخزون الذاكرة الجماعية”، والحس الفكاهي “ليس مجرد مظهر من مظاهر التفاعل فحسب، بل هو صدى لصوت الجماعة، وتجلّ للبنى الاجتماعية والثقافية”.

وتتطرق الدراسة أيضا إلى من الخصائص المميزة لنص النكتة، معرّجة على الهوية المجهولة لمؤلفها، الذي يجعل من الممكن القول إن ملكيتها الفكرية تتجاوز الملكية الفردية لتصبح ملكية جماعية لأنها “من إنتاج الكل، أو هي من إنتاج الضمير الجمعي”. لذا، غالبا ما تُحكى في صيغة الضمير المبني للمجهول، من قبيل: “ذُكِر” أو قيل (“قَالَّك” بالدارجة المغربية)، أو “قال أحدهم” (قالّك هذا واحد)، دون أن يهتم المتلقي عادة بمصدر الحكي، بل بالمضمون الهزلي، والرسالة المراد تمريرها، مع استطاعته تغيير كلمات النص وتعديلها بحسب مهارته، دون أن يفقد نص النكتة أصالته.

وبعد تذكير المؤرخ بأن “عنصر الزمن من المكونات الأساسية في النص التاريخي”، قال إن “الزمن في نص النكتة، على غرار زمن الكرامات الصوفية وبعض النوازل الفقهية غير المؤرخة، يتميز بالافتراضية والتمطط والتعويم”، وهو ما يعسر معه التعرف إلى بداية نكتة، وتتبع ما طرأ عليها من تحولات؛ لأنها تتميز بتداخل الأزمان، دون إمكان تعميم هذا الحكم لأن هناك نكتا ارتبطت بزمن معين، وعجزت بعده عن الإضحاك.

كما تذكر الدراسة أن النكتة نص شفهي يعتمد على تقنية سرد الجمل القصيرة، والتكثيف والإيجاز والتحويل، وغدت مع العصر الرقمي “أكثر قصرا وأكثر ذيوعا وانتشارا”.

ونظرا لبنية نص النكتة، يورد بوتشيش أن تعامل المؤرخ معها “لا يمكن أن يكون يسيرا، نظرا لارتباطها بمنظومة هزلية تنسل من الواقع ظاهريا، لكنها تعود إليه من باب آخر، وتبتعد عن الصراحة المعتادة غير أنها تدخل إلى دوائر الصراحة الضمنية، معتمدة على آليات متعددة، مثل التلميح والإشارة، والكناية والتعريض، وقلب المعاني، وتحويل المحاسن إلى مساوئ، وقلب الجواب إلى سؤال، والتمويه والتضليل بالألفاظ والمصطلحات التي تتداخل فيها المعاني وتتواشج”، ليبقى نصها ملتبسا، ومخاتِلا، وزئبقيا، يصعب الإمساك بناصيته إذا لم يحترز المؤرخ ويحتط خلال تفكيكه.

ويحتاج تدخل المؤرخ في عملية تحليل التركيبة المعقدة لنص النكتة السياسية، وفق المصدر ذاته، إلى “منهج لتحليل الخطاب يروم استقصاء شروط إنتاج المعنى، ودراسة علاقة الضاحك بالمضحك، واستقراء شكل التلفظ، وسياق النص، والسياق خارج النص، وتفكيك اللغة المكتوبة أو الشفهية التي تم بها سرد النكتة، والربط بين بنية الخطاب ووظائفه، لتأويل مرامي الرسالة المشفرة التي يسعى الملفوظ الهزلي إلى تمريرها”.

ونبه المؤرخ إلى حاجة الباحث في النكتة إلى “التركيز على التفاعل الخطابي انطلاقا من البنية الثقافية السائدة في كل مرحلة من مراحل تاريخه؛ لأن النكتة السياسية تتغير مع تغير الأجيال، فهناك النكت التي أفرزتها المرحلة الاستعمارية، وتلك التي أنتجها جيل استقلال الدول العربية، وصولا إلى نكت الزمن الراهن”، علما أن كل نكتة سياسية تحمل “أجوبة عن المرحلة التي أنتجتها”، رغم ما يمكن أن تتضمنه من “إعادة إنتاج المعاني المتداخلة في الأزمان”.

وأبرز المؤرخ ما تشكله النكت السياسية من مصدر لتاريخ الأزمات السياسية والصراع على السلطة، والفضائح التي تكشف تورط مسؤول سياسي، أو الكلام الناشز الذي صدر عنه ويبين إفلاسه السياسي، فضلا عن تعبيرها عن موقف الرأي العام، ومشكلات المجتمع المستعصية؛ لتكون بذلك، إضافة إلى وظيفتها الإضحاكية، “نصا معبرا عن معارضة المجتمع الذي يرى في بعض القرارات التي يتبناها النظام السائد انحرافا سياسيا، أو اختيارا يكرس التناقضات الاجتماعية، ويناقض الاختيارات الشعبية”.

ولا تثير النكتة في المجال السياسي الضحك العادي، بل الضحك الممزوج بالألم، وفق إبراهيم القادري بوتشيش؛ لأنها تضحك من الواقع ومن مآسي المجتمع، وتحاول بهذه الضحكة “التعسة” إشراك المتلقي في الإحساس بمرارة هذا الواقع، والعمل على تغييره أو إصلاحه، وتقدر، بما تملكه من قوة بيانية، اختراق معايير المجتمع وقيمه، وتجاوز حدود اللياقة والمُثُل والثوابت والمقدسات، وإحداث ثقوب في المجال السياسي، ليصل الاختراق إلى أعلى قمة الهرم السياسي والنخب السياسية، وإسقاط هيبتها أمام الرأي العام، وإبرازها في صورة فاضحة تعرّيها، وتنفّر الجمهور منها.

هذه “الحرب غير المعلنة” تعاقِب الخصم، حسب الدراسة، وتنتصر عليه معنويا، دون أن يتحمل مؤلفها مسؤولية كلامه؛ لأن الهزل يمنحه هامشا من الحرية والمناورة لتمرير خطاباته في موضوعات ممنوعة من التداول داخل المجتمع، متحصنا بغموض اللغة الواصفة، وتعدد الدلالات؛ وهذا من بين ما يجعل نص النكتة السياسية “مصدرا مهما للكشف عن موقف الرأي العام من الدولة والقضايا السياسية عبر التاريخ، ومصدرا يكشف عقلية المعارضة التي كثيرا ما همّشتها الكتابات التاريخية المنشدَّة إلى مراكز الحكم والنفوذ.”

ومن بين ما أورده المؤرخ من أمثلة مغربية عن النكت السياسية، نكتة من سبعينات القرن الماضي، تتحدث عن جري كلب محسوب على المغرب في اتجاه الحاجز الفاصل بين البلاد وسبتة المحتلة من إسبانيا، ليصرخ شرطي بعدما تبعه: “أنت كلب محسوب على المغرب، فلماذا أردت المغادرة؟ ليجيبه الكلب: أنا ذاهب لكي أنبح بعض الوقت عندهم لأن النباح ممنوع علي في المغرب”، في دلالة على التضييق على الحرية في المغرب في تلك الفترة.

وتقول نكتة أخرى إن أحد المواطنين المغاربة شاهد رجلا يصلي في مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، ورجله ممتدة خارج باب المسجد، بسبب الاكتظاظ بالمصلين، فقال له: “دخّل رجلك قبل ما يقولوا لينا خاصنا نبنيو جامع آخر”. وشرح المؤرخ سياق هذه النكتة بالقول: “بناء هذا المسجد كلف المغاربة مساهمات واكتتابات مالية كبيرة وصلت إلى حد اقتطاع ثلث رواتب الموظفين، فجاءت هذه النكتة انعكاسا للتذمر الشعبي من القرار القاضي ببناء هذا المسجد من جيوب المواطنين الذين يعانون أصلا ضعف الرواتب، وتعتبر نصا مهما لاستجلاء موقف المغاربة من بناء هذه المعلمة الدينية، وسخطهم على المساهمات المالية التي فرضت عليهم، وهو ما يناقض الرواية الرسمية التي تمجّد هذا الإنجاز”.

وأورد المؤرخ أيضا مثال نكتة أُبدعت دلالة على “استحالة تحرير فلسطين في ظل الأوضاع العربية الراهنة”، مفادها أن شيخ الأزهر أفتى، تجنبا لإقدام أي مسلم على الإفطار في شهر رمضان، بأن تكون كفّارَتُه: “صيام قرن، وإطعام شعب الصين، وتحرير فلسطين”؛ وهو ما يراه بوتشيش نصا مفيدا في “دراسة العقلية العربية الانهزامية، والزمن الرديء الذي يعيشه العالم العربي”.

وفي تاريخ المغرب الراهن، استحضر المتحدث “نكت الغباء التي تتندَّر بالنخب السياسية”، مستدعيا شخصية خاطري ولد سعيد الجُمّاني، بوصفها “شخصية مغفَّلة دارت حولها النكت على نحو لافت، قد يثير شهية المؤرخ في تحليل هذه الظاهرة والسياقات التي انتعش فيها ما بات يعرف بنكت (الجمانيات)، التي هي شبكة من النوادر والطرائف الفكاهية التي صيغت حول هذه الشخصية ذات المكانة المتميزة بين الأعيان الصحراويين”.

ورجّح المؤرخ ارتباط النكت المتعلقة بشخصية الجماني بـ”الظرفية السياسية والاقتصادية العصيبة التي مر منها المغرب في سبعينات القرن الماضي، بعد استرجاع أقاليمه الصحراوية، وما نجم عن ذلك من تقشف اقتصادي لإعادة تأهيل المناطق المسترجعة، واستحداث ضرائب جديدة خصصت لدعم ميزانية المناطق الصحراوية، بهدف تنمية اقتصادها، ودعم الدفاع العسكري والدبلوماسي عنها”، وهي ضرائب “زادت معاناة المغاربة في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات”، إضافة إلى ما حدث من اعتبار القضية الصحراوية من المقدسات التي لا يسمح بالخوض فيها أو مناقشة الميزانية المخصصة لها، بل ودخولها “على امتداد مرحلة طويلة في مجال اختصاص المؤسسة الملكية”.

وأضاف القادري بوتشيش في هذا السياق أن “ذيوع النكت حول هذه الشخصية الصحراوية (الجماني) مثَّل أسلوبا من أساليب تكسير هذا التابو السياسي للتعبير عن معاناة الشعب المغربي الناجمة عن التضحيات البشرية والمالية والاقتصادية التي قدمها في سبيل هذه القضية”، كما تعكس “شعورا بالإحباط بسبب الاهتمام الذي كان يحظى به الأعيان الصحراويون الذين استفادوا من العديد من الامتيازات والمناصب السياسية”.

ومع تصاعد وتيرة العالم الرقمي، ومواقع التواصل الاجتماعي، التي تزامنت مع انتفاضات الربيع العربي، ترصد الدراسة “تعدد النكت السياسية وتناسلها بكثافة، واتخاذها أشكالا جديدة مثل الكاريكاتير، والخربشات على الحائط، والغرافيتي، والفيديوهات القصيرة على يوتيوب، أو اقتباس بعض العبارات الشهيرة من الأفلام أو المسرحيات، وتعديلها للتعليق على الطغاة والأجهزة السياسية الفاسدة”، لتصبح النكتة بالتالي “أسلوبا معبرا عن تطلعات الشعوب العربية نحو الديمقراطية والكرامة والثورة ضد الاستبداد”.

وبعد إبرازه أهمية النكتة بوصفها مصدرا تاريخيا، أوصى المؤرخ المغربي بـ”تأسيس مجموعات بحث ومختبرات بالجامعات ومراكز البحث في الوطن العربي، تتولى مهمة جمع النكت وتدوينها كتابة، وتوثيقها رقميا، ودراستها وتحليلها”، بوصفها “نصوصا سردية فكاهية، وخَزّانا لذاكرة الشعوب”، تعبّر عن “ظواهر ثقافية” لا يستفيد منها المؤرخون فحسب، بل المتخصصون في حقول معرفية أخرى أيضا.

hespress.com