بمناسبة صُدور الطبعة الثانية من كتاب “أحداث 3 مارس 1973، بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة”، يُقدم قاسم الحادك، أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمدينة الجديدة، قراءةً في هذه المذكرات التي يَعتبرها ليست مجرد مُذكرات بالمعنى الضيق، بل تنطوي على عناصر جديدة غير مألوفة حول مرحلة مازالت مبهمة وغامضة وملتبسة.
الكتاب الذي صدرت الطبعة الثانية منه، يتضمن مُذكرات في شكل حوار مطول مسنود بالوثائق أجراه المؤرخ الطيب بياض مع الفاعل الحقوقي والسياسي امبارك بودرقة (عباس) حول فترة ما يُعرف بسنوات الجمر والرصاص التي عاشها المغرب.
يقول الأستاذ الحادك في هذه القراءة التي توصلت بها جريدة هسبريس الإلكترونية، إن ما يُميز مذكرات بودرقة، إضافة إلى التفاعل الحاصل بين الذاكرة والوثيقة، هو إشراف المؤرخ وحضوره ومواكبته للشاهد، وتفاعله معه في عملية التذكر واسترجاع الأحداث، وهو ما يُقدم نموذجاً متفرداً للدور الذي يمكن أن يقوم به المؤرخ المتسلح بعدته المنهجية والمعرفية والمنتصر لمتطلبات المنهج التاريخي في تأطير ذاكرة الشاهد.
وفي ما يلي قراءة قاسم الحادك في هذه المذكرات:
تقديم:
تندرج مذكرات امبارك بودرقة الموسومة بـ”بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة” في سياق الحضور المتنامي لذاكرة فاعلي وشهود حقبة ما عرف بـ”سنوات الجمر والرصاص”، الذين عاصروا أو شاركوا في خِضم أحداثها، وأقدموا على تدوين تجاربهم، وبذلك أضحى بوسع الباحثين في تاريخ المغرب الراهن الاشتغال على هذه الوفرة من المصادر المستثارة، وإقامة حوار مباشر معها. بيد أن “بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة” ليست مجرد مذكرات بالمعنى الضيق والمتعارف عليه، فهي تنطوي على عناصر جديدة غير مألوفة في المتن الذاكري المغربي، فعلاوة على تفردها بمقاربة وقائع وأحداث مرحلة ملتهبة، مازالت مبهمة وغامضة وملتبسة في سردية الشاهد والمؤرخ، أماطت هذه المذكرات الكثير من الحجب عن أحداث ووقائع تعوزها الوثائق المكتوبة، وقدّمت تفسيرات جديدة لوقائع أخرى ما تزال تداعياتها ترخي بظلالها على مغرب اليوم، وزاوجت بين البوح والاستذكار والوثائق التاريخية، واشتملت على مادة وثائقية غزيرة ومتنوعة، حري بالباحثين المهتمين بتاريخ المغرب الراهن الالتفات إليها.
إن ما ميز مذكرات بودرقة، إضافة إلى التفاعل الحاصل بين الذاكرة والوثيقة، هو إشراف المؤرخ وحضوره ومواكبته للشاهد، وتفاعله معه في عملية التذكر واسترجاع الأحداث، فالمذكرات هي إجابات عن أسئلة طرحها الباحث الطيب بياض على الشاهد والفاعل بودرقة، وجرى توثيقها خلال حوارات ومقابلات، وهي بذلك تقدم نموذجا متفردا للدور الذي يمكن أن يقوم به المؤرخ المتسلح بعدته المنهجية والمعرفية والمنتصر لمتطلبات المنهج التاريخي في تأطير ذاكرة الشاهد، وتحيل على مجموعة من التساؤلات ذات الصبغة المنهجية، ستكون محاولة الإجابة عنها هي المحرك الأساس لقراءتي في هذا المتن الذاكري، سواء تلك ذات الصلة بالإشكالات والصعوبات المنهجية العديدة المرتبطة بالذاكرة، والتي يجب أخذها بعين الاعتبار في التعاطي مع الشهادة والمدلي بشهادته، ولا سيما بصفته فاعلا سياسيا وتاريخيا، أو تلك المتعلقة بدور المؤرخ في توجيه سرد الشاهد والتحكم في أداء ذاكرته، والحد من طغيان ذاتيته وسطوتها، وتحجيم مساحة الالتباس والغموض، وتوسيع هامش الموضوعية والمصداقية ومنسوب الجرأة، أي مدى قدرة المؤرخ على القيام بتأطير منهجي لفعل البوح والتذكر، والمشاركة والإسهام في إنتاجه على نحو دقيق، والارتقاء به إلى مستوى وثائق تحظى بالصدقية.
أولا – التاريخ والذاكرة: ضرورة التمييز النقدي
موازاة مع الحضور الطاغي لخطاب الذاكرة الذي اقترن بفكرة واجب الذاكرة، في سياق السعي إلى فهم الماضي وما عرفه من أحداث صادمة، كان لها تأثير كبير على مختلف المجتمعات، انبرت ثلة من المفكرين من حقول معرفية شتى لمقاربة إشكالية الذاكرة وعلاقتها بالتاريخ، أين يلتقيان؟ وأين يتنافران؟ وهي تساؤلات شائكة تجاذبت بشأنها المواقف، واستدعت معالجتها استحضار مقاربات مختلفة لفك كومة التعقيدات التي تلف الموضوع.
تناول جاك لوغوف (Jacques Le Goff) الإشكال القائم بين الذاكرة والتاريخ، وأكد على ضرورة التمييز النقدي بينهما، فعلى النقيض من الذاكرة التي “تميل نحو الأسطرة ويغلب عليها التحريف والتشويه، وتتسم بخلط الأزمنة وتداخلها، وتعبر عن حالة المعيش للعلاقة غير المنتهية بين الحاضر والماضي”، يضيء التاريخ الذاكرة وينيرها، ويساعدها على تصحيح الانحرافات التي تشوبها والأخطاء التي تعتورها”.
ومقابل هذا الوعي بالتمايز بين الذاكرة والتاريخ، في تمثل الماضي، أكد موريس هالفاكس (Maurice Halbwachs) على التعارض والقطيعة الواضحين القائمين بينهما، ورفض بتاتا كل إمكانية الخلط بينهما، فالتاريخ بالنسبة له “لا يبتدئ سوى في الوقت الذي تنطفئ فيه الذاكرة وتنتهي. وعبارة الذاكرة التاريخية لم يحسَن اختيارها، بحكم تضاد العبارتين وتعارضهما”. والذاكرة حسب موريس هالفاكس لا تحيي الماضي وتستعيده بصورة مطابقة للواقع، ولكن تعمل على إعادة تشكيله، وتتمايز عن التاريخ في مسألتين أساسيتين، “تتمثل الأولى في كون الذاكرة تشكل تيارا مستمرا ومتواصلا من الأفكار، استمرارية لا شيء مصطنع فيها، لأنها لا تحتفظ من الماضي سوى بما لا يزال حيا أو قادرا على البقاء حيا في وعي الجماعة”، ولا يمكنها تجاوز حدود الجماعة. في حين يتموقع التاريخ خارج الجماعات وفوقها، أما السمة المميزة الثانية للذاكرة، فتكمن في وجود عدة ذاكرات جماعية، مقابل تاريخ واحد”. وعلاوة على ذلك، تقابل استمرارية الذاكرة الحية على حد تأكيد هالفاكس دائما “القطيعة التي تدخلها عملية التحقيب الخاصة بالمعرفة التاريخية، وهي القطيعة التي تشير إلى الطابع الذي مرّ وانتهى للماضي… وهكذا فإن التاريخ يهتم قبل كل شيء بالاختلافات والتعارضات”. إن الذاكرة على حد تعبير موريس هالفاكس تقع “في كل ما هو متقلب ومتجرد ومتعدد، فهي تقع في مجال المعيش، والحميمي، والصورة والوجدان والسحري، بينما يقع التاريخ في حدود المفهوم والحس النقدي والتوضيع العلماني والعقلانية”.
خالف بول ريكور (Paul Ricoeur) الرأي القائل بوجود خط فاصل واضح بين التاريخ والذاكرة، ودعا إلى مد جسور الحوار والتواصل بينهما، معتبرا أن التداخل بين التاريخ والذاكرة لا مناص منه، وأنهما “محكومان بتساكن إجباري”. فالذاكرة حسب بول ريكور هي الحاملة الأولى للتاريخ، ولولاها لما كان هناك من علم لكتابة التاريخ، وبذلك فمؤرخ الزمن الراهن مدين للشهود، لأن ذاكرة أولئك الذين حضروا الحدث وشهادتهم هي التي تشكل المسودة الأولى للتاريخ والمصدر الأول لمعلومات المؤرخ، وتتيح التفاعل المستمر والمتواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل.
يعدّ بول ريكور من أبرز من تناولوا إشكاليات العلاقة المركبة والمتداخلة بين التاريخ والذاكرة، مضيفا بُعد النسيان إلى هذه العلاقة الثنائية، ومنبّها جماعة المؤرخين إلى جملة الانحرافات الممكنة والمحتملة للذاكرة. فعلاوة على الاستعصاء المتعلق بتذكر واستحضار وقائع جرت بعد مدة طويلة من حدوثها، تخضع الذاكرة أيضا بحكم هشاشتها لإساءة استعمالها، عبر تلاعب مقصود للذاكرة والنسيان معا، وهو ما عبر عنه بول ريكور بالذاكرة المتلاعب بها، أو بعبارة أخرى الذاكرة الأداتية، أي تلك التي تم توظيفها كأداة. وتتوزع إساءة استعمال الذاكرة أو سوء استعمالها حسب بول ريكور على ثلاث مستويات، المستوى المرضي العلاجي المتعلق باضطرابات الذاكرة المعاقة، والمستوى العملي أي الذاكرة المحرفة التي تعرضت للتلاعب، وهو تلاعب مقصود للذاكرة والنسيان يقوم به من يملكون السلطة، والمستوى الأخير وهو الأخلاقي والسياسي المتعلق بالذاكرة التي يتم استحضارها بشكل تعسفي. إن “هذه الأشكال المتعددة لسوء الاستعمال تظهر الهشاشة الأساسية للذاكرة، التي تأتي من العلاقة بين الغياب الخاص بالشيء المتذكر وبين حضوره على نمط التمثل أو التصور. إن الإشكالية العالية لهذه الصلة الممثلة للماضي، تفضحها تماما كل عمليات إساءة استعمال الذاكرة”.
إن الذاكرة ليست مجرد إرث بيولوجي محض كما كانت تعتقد الأوساط العلمية، أو خزّان يعيد إنتاج ما حصل في الماضي وينقله بشكل آلي، بل هي مفتوحة على جدلية التذكر والنسيان، وعمليات التذكر واسترجاع التجارب والأحداث تصبّ جميعها في حالة النسبية وعدم الدقة، لكونها تتم في الحاضر وتتأثر بشروطه ومتطلباته، وتعيد تشكيل الماضي وتحويره وفق ضرورات الحاضر ورهاناته، والذاكرة بموجب ذلك هي ما تبقى من الماضي في معاش الجماعات أو ما يتمثل بشأنه، فهي لا تعيد إنتاج ما حصل في الماضي بل تعرض لانطباع الناس حول هذا الماضي، وتمثل ما تبقى من الماضي في أذهانهم أو ما يتصورونه بخصوص هذا الماضي.
وتأسيسا على ما سبق، تبقى الذاكرة مجرد صورة ذكرى أو مجموعة ذكريات عن ماض متخيل وقع استحضاره، تطغى عليها القدسية، تشوبها الذاتية والانفعالية، وتجنح نحو تغليب العاطفة، في طابعها الفردي أو الجماعي. وتستثيرها على الدوام أسئلة ورهانات الحاضر، إذ تعمل بكيفية إرادية أو لا إرادية في ظل الظروف والقيود التي يحددها الحاضر على تضخيم الأحداث أو تقزيمها. ومقابل ذلك يرتكز التاريخ على منهجية محددة بقواعد وضوابط في استعادته للماضي، من قبيل التحري والموضوعية والنسبية والتحليل ونقد الشواهد. ويعد بمثابة ترتيب للماضي كما قال لوسيان فيفر، أو بناء إشكالي له، انطلاقا من عملية فكرية ومعالجة منهجية ترتكز على التحليل والنقد حسب جاك لوغوف، فما ينتظره القارئ من المؤرخ يختلف عما ينتظره من راوي الشهادة أو منتج الذاكرة. فالقارئ يترقب من الكتابة التاريخية فك تعقيدات الماضي، سواء كان ماضيا بعيدا أم قريبا، ومُساءلة هذا الماضي والسعي إلى فهمه. إنها صياغة متجددة للذاكرة تقوم على النقد، والاحتمال، والنسبية، لإعادة بناء نسق التطورات والاستمراريات الزمنية وسببية الأشياء، بعيدا عن أشكال الحكم. وهنا مكمن الاختلاف بين الحكم التاريخي المؤقت والحكم القضائي النهائي.
ثانيا: صنعة المؤرخ والتأطير المنهجي لبوح الشاهد
عديدة هي المذكرات والشهادات التي جاءت في صيغة حوارات أو استجوابات تكلف بإنجازها وتدوينها كتاب وأدباء وصحافيون، بدل صاحب الذاكرة. وهذا الأسلوب في استقراء ذاكرة الشاهد واستدعاء ماضيه، يمثل قيودا كبيرة على البوح الصريح وقول الحقيقة، ويجعلنا إزاء عملية كتابة عن الذات أو الشخص وليست كتابة الذات التي تقوم بفعل التذكر رغم ما يتيحه من مواجهة الشاهد وجها لوجه مواجهة شخصية ورصد انفعالاته وإجاباته العفوية، لكون عملية التذكر تتأسس على محادثات مبرمجة وموجهة بين الشاهد والفاعل وبين الشخص الذي تولى تحرير المذكرات وإعدادها بما يواطئ هواجس صاحب الذاكرة وانتظاراته. و”لا عجب والحالة هذه أن يوصم المصدر الشفوي بالذاتية المزدوجة، ذاتية الراوي الذي تلعب ذاكرته بالأحداث، والتي تزدحم فيها أمشاج من الحقائق والتهويمات والخيال، وذاتية الباحث أو الجامع من خلال تقميشه وتركيبه وتبويبه وتصحيحه وإخراجه النهائي للشهادة”، كما نبه إلى ذلك فتحي ليسير. بيد أن بوح امبارك بودرقة وإن كان ينتمي إلى هذا الصنف من السرديات، فإنه يقدم نموذجا متفردا في الدور الذي يمكن أن يقوم به المؤرخ المتملك للأدوات المنهجية والمعرفية، في تأطير ذاكرة الشاهد، فمبارك بودرقة لم يسطّر مذكراته بنفسه، ولم يكتبها بانسيابية وفق تصور ورؤية ذاتيتين، بل جاء بوحه في إطار علاقة تفاعلية بين الشاهد والمؤرخ، على شاكلة إجابات عن أسئلة طرحها المؤرخ الطيب بياض على صاحب الذاكرة، وجرى توثيقها وصوغها خلال حوارات ومقابلات.
1- المؤرخ والشاهد: بين الهاجس النقدي وسلطة الذاكرة
إن الاستعانة بالمؤرخ المتسلح بعدته المنهجية والمعرفية والمنتصر لمتطلبات المنهج التاريخي في عملية تسجيل الشهادة يخدم الذاكرة، ويتيح إمكانية الحصول على شهادة متكاملة ومتوازنة تخدم المعرفة التاريخية، لم لا وهو العارف بالطابع المعقد للشهادة، وبالضوابط المنهجية التي تؤطر التعامل معها، والواعي بكون فعل التذكر هو جزء من تجربة فردية للشاهد، قد تلتبس في مواطن عدة بمنازع ذاتية ناجمة عن التجاء الشاهد مهما كان صادقا ومؤتمنا إلى التحيز والانتقائية والنسيان وتضخيم للذات أو التحامل على الخصوم، بحكم طبيعة فعل البوح وظروف إنتاجه، وترتبط هذه السمات بطبيعة الذاكرة وآليات اشتغالها وطرق استدعائها للوقائع والأحداث في ظل التجاذب بين الماضي والحاضر، وتصب جميعها في إضفاء حالة من النسبية وعدم الدقة على فعل التذكر. تنبه هذه العيوب والنقائص التي تخترق الذاكرة المؤرخين إلى ضرورة معالجة إنتاج الذاكرة على نحو دقيق، وتوخي الحذر في مساءلتهم لذاكرة الشاهد، والتزام التثبت والفحص المنهجي، قصد الارتقاء بها إلى شهادات أكثر توازنا وعمقا، في أفق استثمارها بشكل أفضل، لكنها في الوقت ذاته لا تنقص من أهميتها وقيمتها، بل تعد من مقوماتها الأصيلة، تمنحها فرادة وتميزا وجاذبية، فالفحص الدقيق للذاكرة – حسب تريفور لوميس (T. Lummis)، أحد رواد التاريخ الشفوي في بريطانيا، “كفيل بتزويد المؤرخ بقرينة ربما تكون أكثر صدقا من قرينة مكتوبة، لا قدرة للمؤرخ على مناقشة كاتبها الغائب”. كما أن بوح الشاهد وسرده لا يصير “وثائق إلا من خلال عمل المؤرخ وتفكيره أي من خلال اشتغاله عليها”، إذ عليه أولا ألا يثق بذاكرة الشهود، وأن لا يستسلم ببساطة لأقوالهم، وأن يضعها في سياقها التاريخي ويراعي ظروف وحيثيات إنتاجها، ويمررها في منطقة النقد عن طريق مقابلة ومقارنة شهادته مع شهادات مماثلة ومنافسة، فالشاهد يروي من ذاكرته، والذاكرة لا تستطيع حسب بول ريكور أن تستوعب كل تجربة الشاهد، وتستحضر ماضيه، فسرده يمر كذلك عبر النسيان. لذا سيكون من السخف أن يتطابق زمن إنتاج الذاكرة واستحضار الماضي مع الزمن الواقعي.
إن دور المؤرخ برأي بول ريكور هو العمل على توضيب الشهادات ومساءلتها واستجلاء مواطن قوتها وضعفها، وبالتالي توسيع وتصحيح ونقد الذاكرة، أي القيام بعملية تنقيح الذاكرة من أجل تعويض نقاط ضعفها على الصعيد المعرفي والبرغماتي، ولا سيما الاستعصاء المتعلق بتمثيل شيء غائب كان قد وقع سابقا، واستعصاء استعمالات الذاكرة وإساءة استعمالها.
لقد كان الباحث الطيب بياض في تفاعله مع ذاكرة امبارك بودرقة واعيا بوطأة هذه القيود وغيرها، وتأثيرها السلبي في صدقية وموضوعية الذات الساردة للشهادة، إذ تشكل سلطة رقابة ذاتية قد تتحكم في بوحها، وتوجه استنطاق ذاكرتها واستدعاءها لشريط الماضي القريب وقراءة أحداثه ووقائعه، لذلك حرص على جعلها تحت المراقبة من خلال آلية من الضوابط المنهجية، بغية الارتقاء بها إلى مستوى وثيقة محكية تحظى بالصدقية وتحصّن ذاتها من الاختراقات السلبية التي تنقص من قيمتها، والانتقال بها من المستوى الشفهي إلى الحيز التداولي.
ورغم إغراء التفاعل مع الذاكرة الحية وسحر الحكي وجاذبيته، فقد كان الطيب بياض مدركا للظروف الحافة بإنتاج الشهادة، وأنه “من الخطأ اختزال المصدر الشفوي في عودة شاهد أو فاعل ما إلى ماضيه قصد استدعاء فترات حياته أو استحضار أحداث طبعت مسيرته وشكلت لحظات فارقة فيها وظلت بالتالي حية في ذاكرته”، كما كان واعيا بكون بوح الشاهد السارد، وإن كان يحيل بالضرورة إلى استدعاء الذاكرة واسترجاع الماضي، فإن تذكره ليس سردا آليا للأحداث الماضية واستدعاء عفويا لها باعتبارها حقائق فعلية وقعت، وإنما مجرد بناء ذهني، وتمثل محيّن للماضي تختلط فيه عناصر الماضي واهتمامات الحاضر، لذلك تسلح بجملة احتياطات واحتراسات منهجية ونقدية أطرت عملية مراوضته لذاكرة الشاهد وسبره لأغوارها، وعيا منه بأن ذاكرة الشاهد لا يمكنها أن تقدم الكثير إلا إذا عرف المؤرخ كيف يسائلها، ويخضعها للفحص والنقد وفق منهجية صارمة، فألزم نفسه قبل دخول غمار تنشيط بوح الشاهد وتأطيره، بمهمة الإعداد الجيد للحوار والمقابلات، وتحديد خط سيرها، وعدم التوقف عند صدقية ما سيستقيه من شهادات عفوية، من خلال مواجهتها مع شهادات غير متفقة أو متنافسة في أفق إقامة قصة محتملة ومقبولة بتعبير بول ريكور، فانكب على الاطلاع على ما كتب حول المرحلة موضوع الشهادة عموماـ وعلى دور الشاهد في أحداث هذا التاريخ، وتأثيره في الأحداث المتعاقبة، إما في شكل مذكرات وشهادات أو وثائق وكتابات، لا سيما أن هذا المتن الذاكري تزامن مع صدور مذكرات وشهادات وكتابات عن نفس الوقائع من قبل شهود آخرين مجايلين للشاهد، كانوا بدورهم فاعلين أساسيين في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ المغرب، “فراح يقرأ رصيدا وثائقيا دسما… وصار لزاما عليه أن يوسع مداركه في الموضوع، بالاطلاع على ما دونه شهود آخرون عن نفس الأحداث لولوج عالم المقارنات والمواجهات التي نبه إليها بول ريكور”.
وحتى يأخذ المؤرخ المستجوب مسافة نقدية بينه وبين ذاكرة الشاهد، ولا يخضع لسلطة بوحه ومزاجه وتداعيه، أو يتماهى مع فعل التذكر الذي قد ينطوي على انتقاء الأحداث، والتعتيم على كثير من الوقائع الهامة بشكل واع أو غير واع، فيطنب الشاهد في وصف تفاصيل محطات تاريخية معينة يعتبرها مضيئة في مسيرته السياسية، ويطيل الوقوف عندها والاحتفاء بها، ولا يتوسع بالقدر ذاته في الحديث عن تفاصيل أحداث أخرى عاشها وكان فاعلا رئيسا في صنعها وعارفا بخباياها، حدد المؤرخ قبل شروعه في استنطاق ذاكرة الشاهد “بوصلة الحوار مسبقا بإعداد محاوره الكبرى تفاديا للتيه والانسياق مع سرديات الذاكرة”.
2- أسئلة المؤرخ واستنطاق الشاهد: المؤرخ محامي القارئ
غير خاف ما تنطوي عليه إنتاجات الذاكرة القائمة على رواية الشهود من عيوب ومطبات منهجية، تحول دون الوصول إلى ذاكرة تاريخية يمكن الاطمئنان إليها تحظى بقسط وافر من الموضوعية والمصداقية، بالنظر إلى ما تتضمنه بطبيعتها من رؤية شخصية وحقائق سردية ذاتية، ومن المهم أن ينضبط المؤرخ المستجوِب لعدد من القواعد المنهجية والمعرفية في مساءلته للشاهد واستقصاء ذاكرته، وبدون الالتزام بهذه الضوابط سيعجز عن النفاذ إلى عمق الذاكرة وسبر أغوارها، وسنكون بالتأكيد أمام شهادة غير متوازنة، فاقدة لجزء من مكوناتها التاريخية، تتجمل بمساحيق المستقبل الواعد اكثر مما تنهل من وقائع الماضي كما حدثت فعليا.
يشتغل المؤرخ على الذاكرة، يستفيد منها، باعتبارها مسودته الأولى، لكنه لا يحبس نفسه في حدودها الضيقة، بل يخضعها للمساءلة وفق المنهج التاريخي، أي إلى نفس ما يخضع له المصدر المكتوب من تمحيص ونقد وتحر، يجمعها، يقارن بينها، يضعها على المحك، ويواجهها بالوثائق الأخرى، بمعنى يخضعها لشروط صناعته. وتأسيسا على ذلك لم يكتف السارد الوسيط الطيب بياض بتجميع إفادات وشهادات الشاهد صاحب الذاكرة، بل جنح إلى أسلوب المقابلة والحوار أثناء استدعائه لذاكرة الشاهد، وفق ترتيبات وتقنيات مضبوطة، بما ينسجم ومنهجية التاريخ وقواعد حرفته، وشارك في بناء ذاكرة متيقظة وتنشيطها واستنطاقها بأسئلة محفزة، ذات هاجس نقدي، وأسهم في إنتاج وتحصيل الشهادة، من خلال عملية تبادل مخصبة بحكم وجود مباشر بين بناء الذاكرة وبين المؤرخ الذي يستثيرها. لقد كان إزاء ذاكرة الشاهد في وضع “أشبه بقاضي التحقيق الذي يجتهد في إعادة رسم ملامح جريمة لم يشاهدها بنفسه أبدا”، على حد تعبير مارك بلوك.
إن الاعتراف بأهمية الشهادة التي يستقيها المؤرخ وقيمتها في الكتابة التاريخية، مرهون بأسلوب ونمط استنطاق واستجواب الشاهد، فلحظة تسجيل الشهادة، أو بتعبير بول ريكور اللحظة التي تنقلب فيها الأشياء المقولة من حقل الشفاهة إلى حقل الكتابة، تتطلب الاحتراس والحذر المنهجيين، فالمستجوِب قد يقع في إحدى فخاخ الذاكرة ذات الصلة بإشكالات البوح وقول الحقيقة، إذا لم يعرف كيف يسائلها، ودرجات صدح ذاكرة الشاهد ومنسوب جرأتها تتمايز تبعا لأساليب الاستجواب، وقدرة المؤرخ المستجوِب على التطرق إلى كثير من التفاصيل والجزئيات والأسرار مع الشاهد، لسبر أغوار ذاكرته، لأن هذا الأخير يصبح تحت سلطة وتوجيه المؤرخ المستجوِب الذي يتولى تحديد الموضوعات التي يتم التطرق إليها، والمعلومات التي يريد استدعاءها من ذاكرة الشاهد، ويستطيع بأسلوبه الاستقصائي وأسئلته المستفزة النفاذ بذكاء إلى صميم الاشياء وعدم التوقف عند العموميات وعند الكلام المجتر، مما يجعلنا أمام ذاكرة يقظة جرى تنشيطها وتحفيزها بأسئلة المؤرخ المتمكن من الضوابط المنهجية التي تؤطر التعامل مع الشاهد، الذي يعتمد على ذاكرته الذاتية في فعل التذكر، ويخضع بذلك لكل ما ينتقص من الذاكرة من نسيان وانتقائية، ويعتريها من غموض واضطراب في السرد، فمساوئ الشهادات ونقاط ضعفها حسب مارك بلوك تختفي بصورة عادية أمام صنعة المؤرخ وأدواته.
يبقى على المؤرخ أن ينتقي الأسئلة الموجهة إلى الشاهد بدقة، ويخضعها لدراسة دقيقة، أسئلة لا تستسلم ببساطة لأقوال الشاهد، وتجعل ذاكرته تنطق رغما عنها على حد قول مارك بلوك، “إن النصوص أو الوثائق التي تبدو في الظاهر الأكثر وضوحا، والأكثر إرضاء، لا تتحدث إلا عندما نعرف كيف نسائلها”، وتحمله على مقاومة كل شكل من أشكال الرقابة الرسمية أو الذاتية، وتجاوز ما يعتور بوحه من اختلال ونقص، وتدفعه نحو توسيع مساحة الموضوعية وتقزيم هامش الذاتية وتقليص مساحة النسيان، والحد من طغيان ذاكرته وسطوتها واتجاهها نحو الهيمنة على تمثل الماضي. واستفزازه بأسئلة تشغل بال القارئ بغية استجلاء الحقائق واستدعاء الأحداث والوقائع الخفية التي ربما يحاول الشاهد عدم التطرق إليها والتعتيم على بعضها، دون مقاطعته ووقف دفق أفكاره. فالمستجوِب المحترف حسب آلان نيفينز (A.Nevins)، أحد مؤسسي برامج التاريخ الشفوي في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1948، “يستطيع أن يحض ويوقظ الذاكرة كي يصل إلى قرائن “صادقة” يمكن أن تستعمل في منتج تاريخي”.
لقد زاوج الطيب بياض بنجاح بين سعيه بلا كلل إلى استفزاز ذاكرة الشاهد السارد بأسئلة معدة سلفا، وأخرى عفوية إضافية أتت بحسب تفاعله مع بوح الشاهد، وتبعا لمزاج اللحظة وتداعي الذاكرة وتدفقاتها، وبين الإصغاء باهتمام لما يقوله، وجعل البوح ينساب بشكل دافق ومتناغم، بحيث لم يعمد المؤرخ المحاور تأسيسا على سلطته العلمية إلى توجيه الشاهد والتحكم في استدعائه للأحداث. أسئلة دقيقة منتقاة بعناية رام من خلالها الباحث المستجوِب النفاذ قدر المستطاع “إلى مختلف سراديب الذاكرة لاستخراج مكنوناتها بشكل سلس مريح”، ولم يأل جهدا في مراوضة ذاكرة الشاهد وإثارة شهيتها للإفضاء، ودفعها إلى التعمق أكثر في الإجابات والخوض في تفاصيل كثير من المواقف والأحداث المهمة التي عاصرها وشارك فيها، والمرتبطة بما سمي بالثورة المجهضة أو أحداث مولاي بوعزة 3 مارس 1973، وما رافقها من ملابسات، باعتباره أحد الشهود الرئيسيين على ذلك الصراع وظروفه.
وكما يتبدى واضحا من تصفحنا متن المذكرات، فإن الشاهد وهو يستنطق الماضي القريب، مارس في بوحه أقصى درجات الصراحة، وأسهم في إنارة بعض جوانب العتمة فيه، فكشف عن ما تختزنه ذاكرته بخصوص محطات مهمة وأحداث بارزة كان قد عاشها أو أسهم في صنعها، ولم يتحدث عن ماضيه بشكل انتقائي، ولم يسكت عن ما تختزنه ذاكرته بخصوص هذه المرحلة المهمة من مواقف ومحطات، فتطرق بتفصيل إلى دوره في التنظيم السري وتفاصيل الإعداد للثورة المسلحة التي كان هذا الأخير ينشد القيام بها وما رافقها من أحداث وملابسات، بالنظر إلى كونه أحد الشهود الرئيسيين على ذلك الصراع وظروفه. وقدّم في مذكراته قراءة تحليلية نقدية حيال ما حصل، ولم يتورع عن الجهر بدوره فيها وموقفه منها وإبداء رأيه فيها وتقييمه لها، وتصحيح ما يعتبره مجانبا للحقيقة، مستحضرا خلاصة تجربته السياسية بما لها وعليها. والقارئ لهذا المتن الذاكري يلفي نفسه أمام مواقف نقدية عديدة للشاهد لم يتردد في الصدع بها، حيث يقول: “لم نكن نتوفر بعد على تنظيم محكم البناء والهيكلة، واسع الانتشار في المدن، بل كنا في مرحلة جنينية، جرى إجهاضها للأسف سريعا بفعل رجات القيادة المتسرعة… لذلك إذا أردت أن أكون دقيقا أكثر بالنسبة لتجربة 3 مارس 1973، يجوز لي أن نقول أننا انتهينا قبل أن نبدأ… سعيتُ من جهة إلى الانضباط في الفعل مع عمر دهكون، ومصارحة الفقيه البصري وتحذير الميد بلغة واضحة لا لبس فيها: الثورة عمل هادئ وتخطيط محكم وفعل منظم وليس مجرد حماس مفعم. المسألة أعقد بكثير من أن تكون مجرد هواية تحكمها الأهواء والنزوات، يصير فيها الرجال مثل فئران في حقل تجارب… كانت تجربة كوبا هي المرجع والنموذج المحتذى به، لكن ما فات القيادة أن تدركه أن هذه التجربة كانت فلتة لها سياقاتها وظروفها المختلفة كليا عن النموذج المغربي، لذلك تحولت فكرة استنساخها في المغرب إلى كابوس ومأساة. ما يؤسف له، وأكررها أكثر من مرة، أن الذين آمنوا بهذا العمل وانخرطوا فيه كانوا صادقين مندفعين بإيمان قوي. لكن عوض أن يكونوا محاربين ثوريين، حولتهم رعونة القيادة وتهورها إلى مجرد انتحاريين تائهين مشتتين”.
ويضيف في موضع آخر من مذكراته: “لم يكن التنظيم مهيكلا بشكل جدي، ولا منغرسا بشكل كبير في أوساط الجماهير كانتماء واع وليس كمجرد تعاطف. ربما هنا الخلل، إذ جرى الاطمئنان إلى التعاطف الذي يوفره الجو العام والاكتفاء به، والاندفاع بحماس لإنجاز الثورة المسلحة بشكل متسرع ومتهافت. تم التعامل مع الأمر، كما لو أن الثوري يكفيه أن يشعل الفتيل فتصطف الجماهير خلفه مثل قطيع، وليس من مهمته تعبئة الناس والتغلغل داخلهم تنظيميا والرفع من وعيهم، بتحويل الحس الثوري إلى وعي ثوري، لذلك، أعتبر ما قمت به، أو ما قمنا به داخل التنظيم السري، جد محدود، على مستوى الفعل والإنجاز والتراكم”. وعلاوة على ذلك، سجل المؤرخ المستجوِب لصاحب الذاكرة “تجاوبه وتفاعله بشكل منتج، دون أدنى تملص أو اعتراض على أي سؤال، أو تشنج إزاء حرصه على النبش في ما قد يدرج في خانة الخصوصيات”. مما جعل مذكراته حاملة لقدر كاف من الموضوعية ومنحها قيمة وثائقيّة لا تُنكر.
3- جمالية لغة المؤرخ لا تسيء إلى جوهر الكتابة التاريخية
لم ينحصر دور السارد الوسيط الطيب بياض في تفاعله المنتج مع بوح امبارك بودرقة في استقصاء ذاكرة هذا الأخير ومساءلتها، وفق منهجية صارمة تنضبط لقواعد صنعة المؤرخ في تعامله مع الشهادة، بل شمل أيضا لغة وأسلوب الكتابة، إذ لم يخضع هذا المتن الذاكري لأسلوب جاف وكتابة رتيبة، بل كان ذا نزعة أدبية بينة، حرص على صوغه بلغة رفيعة أنيقة، جميلة السبك، متقنة الحبك، ألبسته ثوبا جديدا، أضفى عليه لونا من الجمالية، وقدّمه في قالب أدبي سلس ضمن له استقبالا رائقا وحسنا لدى جمهور القراء والمتابعين.
وبذلك يكون الطيب بياض قد أثار الانتباه إلى قضية مهمة تتمثل في ضرورة انفتاح المؤرخ على الجانب الأدبي، ومحاولة ردم الهوة القائمة بين المعرفة التاريخية والأدب، والحاجة إلى بنية سردية جديدة تتساوق مع التطور الذي شهدته الكتابة التاريخية، التي أضحت تروم التفسير والفهم، ومجبرة على الانفتاح على جمهور واسع من القراء، فصار المؤرخ بموجب ذلك يكتب للجميع، وأصبح الجميع يقرأ للمؤرخ. صيغة جديدة للكتابة التاريخية، تتسم برقي وسلاسة أسلوبها، تمتلك القدرة على اجتذاب القارئ إليها والتفاعل معها، تتمايز كليا عن صيغة الحوليات التي ارتكزت على سرد أحداث ووقائع بلغة عارية جافة، تجعل القارئ أمام نصوص تنزع بشكل مفرط نحو الطابع التقريري في تعاطيها مع معطيات تاريخية.
إن جمالية لغة الكتابة التاريخية وسلاسة أسلوبها باعتبارها رداء للفكر، حسب الباحث بياض، لا تنقص في شيء من علمية المعرفة التاريخية، ولا تسيء إلى المعالجة الأكاديمية في البحث التاريخي، ولا يمكنها أيضا أن تسهم في فقدانها لخصوصيتها التاريخية، ورصيدها من الموضوعية والدقة. كما كان شائعا لدى المؤرخين الوضعانيين الذين رفضوا اعتماد المؤرخ في لغته على المحسنات والاستعارات، وألزموه كتابة التاريخ بأسلوب ولغة سليمين لا غير، متدثرين بلباس المدافع المنافح عن “علم” التاريخ وضوابطه المنهجية.
وبعدما ظل هذا النمط في الكتابة التاريخية المشار اليه آنفا قائما مدة طويلة، أضحى المؤرخ مطالبا اليوم حسب الطيب بياض بإيلاء أهمية بالغة لصنعته التي تقتضي حرفية عالية في بعديها العلمي والفني، عبر إعادة بناء الماضي في قالب سردي يجمع بين عمق ورصانة البحث التاريخي والنفس الأدبي الإبداعي، أي الكتابة الآسرة المتسمة بـ”أسلوب أدبي جذاب، مشبع بالخيال والتخييل دون التفريط في الصرامة المنهجية”، تثير اهتمام القارئ وتشده، وتقسره على قراءة باقي النص.
وكان عبد الله العروي قد تساءل في كتابه مفهوم التاريخ عن أوجه التعالق القائم بين التاريخ والأدب، فالمؤرخ برأيه لا يجعل من أخباره عملا مؤثّرا إلا في إطار قالب شعري، من خلال انتقاء الكلمة المؤثرة والجملة البليغة، والصياغة الأدبية الجمالية لمضمونه، إذ “يستعمل كل الأساليب البلاغية من تقديم وتأخير من إجمال وتفريغ، من إيجاز وإطناب، بل يدعو المقام إلى محاذاة الواقع بالمحتمل، القطعي بالظني. أثناء مرحلة التألفة، وهي مرحلة من مراحل عمل المؤرخ، يقترب هذا الأخير من الأديب، لأنه يضطر إلى استعمال وسائله البلاغية بهدف الاستمالة والتأثير”.
كما أثار محمد حبيدة بدوره الانتباه في كتابه “بؤس التاريخ” إلى الأهمية البالغة التي تكتسيها لغة وأسلوب الكتابة التاريخية، فالتاريخ في نظره يبقى “مادة أدبية بالدرجة الأولى، مهما دافعنا عن مكانته ضمن العلوم الاجتماعية والإنسانية…لارتباطه بإقناع القارئ وما يتطلب من تأويل…وارتباطه بالسرد الحلقة الرئيسية في كل العملية الإسطوغرافية”. إن تصنيف التاريخ أدبا لا ينقص من أهميته باعتباره فرعا من فروع المعرفة، وعلى الرغم من “محاولات كثيرين من المؤرخين الصادقة جعل أعمالهم التاريخية ترقى إلى مرتبة العلم، فإنهم يكتبون نوعا من الأدب، ومهما استعملوا من مناهج التفسير العلمي، يبقى تأويل أوصاف الأحداث مركزيا في عملهم. هم يستخدمون من حيث يدرون أو لا يدرون رطانة لغوية تعتمد على أساليب البلاغة الأدبية، تجعل التاريخ نوعا من أنواع الأدب… مع أن المؤرخ يعتمد على الذاكرة في سرده التاريخي، إلا أن شواهده وتأويله ووصفه… تظل حبيسة أساليبه الأدبية”.
ويعلي المؤرخ الأمريكي هايدن وايت من شأن السرد بوصفه جوهر الكتابة التاريخية في كتابه “تاريخ التاريخ: الخيال التاريخي في أوربا في القرن التاسع عشر”، فالكتابة التاريخية برأيه تجمع “مقدارا معينا من المعطيات ومفاهيم نظرية في التفسير التاريخي، يعرضها المؤرخون على شكل بناء سردي، مزود بأحداث مفترض أنها حصلت في الماضي… تحمل في طياتها محتوى بنيويا عميقا هو، بشكله العام جمالي شعري في طبيعته، وهو لغوي بشكله الخاص”.
ورفض وايت الاتهامات التي وجهها له منتقدوه باختزال المعرفة التاريخية في مجرد حقل لغوي، معتبرا أن “البحث والكتابة التاريخيين هما عمليتا خلق معنى تاريخي لماض بلا معنى. لا يستطيع المؤرخ الولوج إلى الماضي الحقيقي الذي لا يوجد فيه إيقاع ومنطق ملازمان لأحداثه ومساراته ليستطيع رصدهما أو كشفهما، وكل ما يستطيع المؤرخ أن يقوم به هو تخيل ماض عبر صياغة لغوية تقوم على سردية، تغلب عليها عناصر ميتا تاريخية وجمالية. كل محاولة لتحويل التاريخ إلى علم مصيرها الفشل، بسبب عدم توافر الأسس المعرفية لذلك، فالتاريخ يبقى خطابا نثريا مضمونه مختلق ومتخيل”.
ودون الدخول في هذا الجدل المحتدم بخصوص العلاقة بين المعرفة التاريخية والأدب، أو بين التاريخ والسرد على وجه التحديد، وبعيدا عن ما ذهب إليه البعض في تأكيدهم على الطابع السردي للتاريخ، على غرار جماعة المنعطف اللغوي الذين ركزوا على أهمية اللغة في كتابة التاريخ، واعتبروا التاريخ نوعا أدبيا، ونفوا صفة مؤرخ عن كل باحث لا يهتم باللغة، فإن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن كتابة التاريخ صنعة تتطلب حرفية عالية وصرامة منهجية، دون أن تنأى بنفسها عن صوغ أدبي جمالي لمضمونها، أو بتعبير ابن خلدون “حذق وملكة وسعة اطلاع”. فالحفاظ على الخصوصية التاريخية لحقل التاريخ وصبغته العلمية والموضوعية لا تتعارض مع اعتناء المؤرخ بجمالية لغة النص التاريخي، وتوظيفه أسلوبا أدبيا يضفي على كتابته التاريخية جمالا فنيا ويمنحها أبعادا دلالية أوسع.
على سبيل الختم:
اتسمت العديد من إنتاجات الذاكرة في المغرب بطابع الانتقائية والاختزال في استحضار الماضي القريب، تفادت البوح الصريح وافتقدت للعفوية والحس النقدي في تناول كثير من محطاته ومنعطفاته، والتبست في مواطن كثيرة بمنازع ذاتية، ولم تخرج عن دائرة الحذر في السرد والاقتصاد في كشف المستور والتكتم على كثير من الأسرار. ومقابل ذلك، جاءت مذكرات الشاهد والفاعل السياسي والحقوقي امبارك بودرقة يقظة مفعمة بفيض من التفاصيل والمعلومات الثمينة همت محطات عصيبة من تاريخ المغرب الراهن، وحاملة لقدر كاف من الموضوعيّة والمصداقية. ويعزى الفضل في ذلك على وجه الخصوص إلى إشراف وتأطير المؤرخ الذي حاور ذاكرة الشاهد مسنودا بعتاد نظري ومعرفي، واستطاع تطويع بوحه واستنطاقه بهاجس نقدي، واستخراج عصارة ذاكرته من خلال أسئلة دقيقة منتقاة بعناية. وهي ضوابط وقواعد منهجية تحكمت في نظام بناء المتن الذاكري سواء على مستوى طبيعة السرد وانسيابيته، وجرأة البوح ومنسوب صدقيته في استجلاء الحقائق، أو على مستوى بناء سرد ممتع بلغة عذبة محبكة الصوغ دون التنازل عن الصرامة العلمية والمنهجية.
وعلاوة على هذه العوامل التي شكلت نقطة قوة هذا المنتوج الذاكري وميزته منهجا ومضمونا عن سائر المذكرات والشهادات، جاء بوح امبارك بودرقة مسنودا برصيد وثائقي ثري، فقد حضرت إلى جانب الشهادة وثائق نادرة على قدر بالغ من الأهميّة، أحاطت بأبرز أحداث هذه المرحلة الدقيقة، وأماطت اللثام عن الكثير من أسرارها المخبوءة والقصيّة، مما منح هذا المنتوج الذاكري قيمة وثائقيّة لا تُنكر وجعله جديرا بأن يكون أبعد من ذاكرة انفعالية وكتابة ذاتية.