أعطى جلالة الملك محمد السادس الخميس 28 يناير 2021، بالقصر الملكي بفاس، الانطلاقة الفعلية للحملة الوطنية للتلقيح، إذ تلقى الحقنة الأولى من اللقاح المضاد لكوفيد 19، وذلك بعد أن تأتى للمملكة المغربية التوصل بمجموعة من الدفعات من اللقاح المضاد للفيروس التاجي “كوفيد 19″، كافية لإطلاق “حملة الأمل”، التي نعول عليها أفرادا وجماعات لكسب رهان “المناعة الجماعية” بالشكل الذي يضمن التحصين الجماعي والحماية اللازمة لجميع المواطنين المغاربة والأجانب المقيمين بالمغرب من الجائحة.
ويرتقب أن تستهدف الحملة بشكل تدريجي الذين تتراوح أعمارهم ما بين 17 سنة وأزيد من 75 سنة، وفي طليعتهم المتواجدون في الجبهات الأمامية في الحرب ضد كورونا من العاملين في قطاع الصحة، من أطباء وممرضين، والقوات الأمنية ونساء ورجال التعليم، فضلا عن الأشخاص فوق 75 سنة.
“حملة أمل” واسعة النطاق وغير مسبوقة في تاريخ المغرب كما العالم، تأتي في سياق سباق حاد بين بلدان العالم من أجل الظفر باللقاح سعيا وراء التحصين الجماعي لساكنتها، في مناخ عالمي لم يسلم من مشاهد الأنانية المفرطة والمصلحة والجشـع والمضاربات، وهي مشاهد تذكرنا بما حدث في بداية الجائحة التي فرضت على الدول اللجوء إلى خيار الإغلاق الشامل، خاصة حول “الكمامات” و”مواد التعقيم” و”الأجهزة والمعدات الطبية”، بعيدا كل البعد عما تقتضيه الجائحة الكاسحة العابرة للدول والقارات من تملك لقيم التضامن والتعاون والتعاضد والتلاحم، ومن التفاتة إنسانية نحو البلدان الفقيرة والأشد فقـرا، مادام العدو المشترك للبشرية جمعاء واحد (كوفيد 19).
وفي ظل هذا المناخ العالمي الذي تطبعه الأنانية المفرطة، استطاع المغرب أن يتموقع بشكل جيد في ما يتعلق بالتزود باللقاح، بفضل الرؤية المتبصرة والاستباقية للملك محمد السادس الذي دبر الأزمة الوبائية ومتغيراتها وتداعياتها وفق إستراتيجية واضحة المعالم، راعت في شموليتها “حماية الصحة العامة” للمغاربة التي شكلت أولوية الأولويات بالنسبة للملك، وهي أولوية حضرت في عدد من المحطات، منها “المباحثات الهاتفية التي سبق أن أجراها الملك مع الرئيس الصيني في إطار علاقات الصداقة القائمة بين البلدين، والتي تطرقت إلى سبل التعاون بين الطرفين بخصوص تلقيح كورونا، ما مكن المملكة من احتلال مرتبة متقدمة في التزود باللقاح ضد كوفيد-19، بفضل المبادرة والانخراط الشخصي لصاحب الجلالة اللذين مكنا من المشاركة الناجحة لبلدنا في هذا الإطار، في التجارب السريرية”، والتدبير المتبصر لملف “الكمامات” و”المواد المعقمة” والذي مكن المغرب من تحقيق الاكتفاء الذاتي بل وتصدير جزء من الإنتاج نحو الخارج، في وقت اشتدت حرب الكمامات بين الدول الكبـرى.
أولوية “الصحة أولا” حضرت أيضا في ما صدر عن الملك محمد السادس من تدابير وقرارات توحدت في دعم المنظومة الصحية الوطنية والرفع من قدراتها، في ظل جائحة وبائية عالمية أرهقت منظومات الكثير من الدول المتقدمة. ونشير في هذا الصدد إلى إعطاء جلالته تعليماته السامية – بصفته القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية – بتكليف الطب العسكري – بشكل مشترك مع نظيره المدني – بمهام مكافحة جائحة كورونا، وبإقامة مستشفيات ميدانية في جميع جهات المملكة تحت إشراف المؤسسة العسكرية. وهذه “التوليفة” بين الطب المدني والطب العسكري وحدت الطاقات والكفاءات والقدرات، وأذابت جليد المخاوف حول واقع المنظومة الصحية المدنية ومدى قدرتها على التصدي لجائحة عالمية أربكت وأحرجت الكثير من المنظومات الصحية في عدد من الدول المتقدمة؛ وهي إبداع مغربي خالص يمكن استثماره في دعم المنظومة الطبية الوطنية والرفع من قدراتها.
وعليه فالإشراف الفعلي للملك محمد السادس على الانطلاقة الرسمية للحملة الوطنية للتلقيح، وتلقيه بذات المناسبة للجرعة الأولى من اللقاح المضاد لكوفيد 19، هو- أولا- تتويج لجميع المبادرات التي اتخذها طيلة الأزمة الوبائية القائمة، التي وإن اختلفت مستوياتها وتدخلاتها فقد تقاطعت حول رهان المحافظة على الصحة العامة لجميع المغاربة وكل الأجانب المقيمين بالمغرب، بشكل مجاني تحكمت فيه الرغبة في الوصول إلى التحصين الجماعي الذي من شأنه الدفع في اتجاه العودة التدريجية للحياة الطبيعيـة بعد أشهر صعبـة من الارتباك والقلق والترقب والانتظـار، وهو – ثانيا – طمأنة لكل المغاربة والأجانب المقيمين بالمغرب، تقطع مع أي محاولة للشك أو التردد أو التبخيس، ورسالة واضحة المضامين، مفادها أن القضاء على الجائحة هو مسؤولية دولة ومجتمع وأفراد وجماعات، لا بد أن ينخرط فيها الجميع بحس مواطن وبكل مسؤولية، في أفق كسب الرهان الحقيقي من هذه الحملة غير المسبوقة (المناعة الجماعية)، وإدراك أمل العودة المشروعة إلى الحياة الطبيعية التي سلبتها منا جائحة “كورونا” منذ ما يزيد عن السنة.
وكلها، تدابيـر وتدخلات عاكسة لمؤسسة ملكية “مواطنة” و”مسؤولة” و”متضامنة” قادرة ليس فقط على حماية الصحة العامة وتحمل مسؤولياتها كاملة في زمن الجوائح والأزمات، بل أيضا على حماية الوحدة الترابية وصيانة اللحمة الوطنية وكسب رهانات التنمية الشاملة، في إطار من الوحدة والتلاحم القوي بين العرش والشعب.
وبهذه المعادلة تم كسب المعركة ضد الاستعمار، وأمكن ربح رهان الاستقلال وبناء أسس الدولة المغربية الحديثة وتحقيق ملحمة المسيرة الخضراء وصيانة الوحدة الترابية، والانخراط في سيرورات البناء والإصلاح والتنمية والنماء والعيش المشترك في إطار من الأمن والاستقرار والطمأنينة…
وقبل الختم، وبقدر ما ننوه بالتدبير المحكم لهذه الأزمة الصحية العالمية للمغرب تحت القيادة الرشيدة للملك محمد الســادس، ونثمن عمل كل الأطر والكفاءات المغربية في جميع المجالات التي أبلت البــلاء الحسن في الحرب ضد كورونا، وعلى رأسها الأطباء والممرضون والقوات العمومية والإدارة الترابية ونساء ورجال التعليم والإعلام بكل تعبيراته، بقـدر ما نرى أن المغرب مطالب بالتقاط ما جادت به الجائحة العالمية من دروس وعبر وإشارات، والانتباه إلى ما كشفت عنه هذه الجائحة غير المسبوقة من مظاهر الضعف وتجليات المحدودية في عدد من القطاعات (الصحة، التعليم، البحث العلمي، الاقتصاد، الرعاية الاجتماعية …).
وبما أن الأزمة هي “أزمة صحية” بامتياز، فلا مناص من الالتفاتة التي لا محيد عنها نحو “المنظومة الصحية” في أفق النهوض بأوضاعها والرفع من قدراتها، تحسبا لأي جائحة وبائية محتملة في المدى القريب أو المتوسط أو البعيد، عبر الرهان على البحث العلمي في المجال الصحي والمخبري، من أجل التأسيس لقاعدة صناعية دوائية تضمن للمغرب الاستقلال الذاتي والتخفيف من حدة الارتبــاط بالخارج على مستوى الأدويـة، واستثمار كل الخبرات والتجارب التي تمت مراكمتها خلال الجائحة من أجل تحقيق الإقلاع الطبي المنشود، في ظل ما يزخر به المغرب من أطر وكفاءات طبية برزت بقوة خلال الجائحة، والتي لا ينقصها سـوى الدعم والتحفيز، بشكل يتيح للمغرب التموقع الرصين والمتبصر في العمق الإفريقي على المستوى الطبي والصناعة الدوائية أساسا.
والرهان على الطب والتعليم والبحث العلمي لا بد أن يوازيــه رهان على “الاقتصاد الوطني” الذي آن الأوان لتطويره والرفع من قدراته وتنويع اختياراته (السيارات، الطائرات، الطاقات المتجددة، تكنولوجيا الإعلام والاتصال، الاقتصاد الأخضر، الصيد البحري…) وتدعيمه ببنيات تحتية ولوجستية كبرى (موانئ، مطارات، طرق سيارة، نقل سككي …)، وإطلاق العنان لما يزخر به المغرب من طاقات وكفاءات قادرة على الخلق والإبداع والابتكار، دون إغفال رهان “الأمن الاجتماعي” عبر النهوض بمستوى التنمية الاجتماعية وتمكين كل المغاربة من الحماية الصحية والاجتماعية.
ونختم بأن نتمنى أن تكون “الحملة الوطنية للتلقيح” فرصتنا الفردية والجماعية للتعبير عن حس المواطنة والالتزام والانضباط، لنكسب جميعا رهان الحرب الشرسة ضد كورونا التي مازالت مصرة على إرباك العالم وبعثرة أوراقــه…على أمل أن يخرج المغرب من “نفق كورونا” أكثر قوة وأكثر التزاما وأكثر انسجاما وتبصـرا، خاصة ونحن على أبواب “نموذج تنموي جديد” كسب رهاناته الآنية والمستقبلية يمر قطعا عبر الاستثمار في صناعة الإنسان/المواطن، وهي صناعة تقتضي استعجال إصلاح حقيقي لمنظومة التربية والتكوين، يطلق العنان لثقافة الخلق والإبداع والابتكار، ويقطع مع كل مشاهد اليأس والقلق وانسداد الأفق وسط الشغيلة التعليمية التي تعد أساس الإصلاح وصمام أمانه.