الأحد 28 فبراير 2021 – 02:47
الإسلام رسالة سلام ومحبة إلى العالم، لا يستطيع “دواعش” الشرق والغرب والعرب والعجم إنكار سماحة الإسلام التي اشتملت جميع مناحي الحياة والتصور في مجال الاعتقاد والأخلاق والتعايش السلمي الذي طبقه المسلمون انطلاقا من مبادئ دينهم؛ لكن الغريب في الأفهام هذه الأيام، أن يوصم دين التسامح والسلام والتعايش واليسر بالإرهاب والتعصب والتنطع وعدم احتواء الآخر والتعايش معه بسلام..!! وهذا كله بسبب شرذمة من المتنطعين في الدين من “الدواعش” المغرر بهم من طرف شيوخ الفتنة والكراهية والتكفير في أوطاننا الإسلامية والعربية، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون؛ بحيث يخربون الأوطان والإنسان تحت يافطة الدفاع عن الإسلام وإقامة شرع الله، مع العلم أن بضاعة هؤلاء مزجاة في العلوم الشرعية، فتراهم لا يفرقون بين الناسخ والمنسوخ، والراجح والمرجوح والعام والخاص، والمطلق والمقيد.. يكفرون بفقه الموازنات والأولويات والمصالح المرسلة والعرف والاستحسان وشرع من قبلنا ومقاصد الشريعة الإسلامية الغراء.. جلبوا على أمتنا وأوطاننا الدمار والشتات والخراب والتخلف بشطحاتهم وفهمهم المعوج لدين الإسلام، الذي يغسل بقيمه العظيمة جذور التباغض والشحناء كما يمسح بماء التسامح والتعايش والرحمة والمحبة جميع الشرور والكراهية؛ بغية الوصول بالإنسانية إلى عالم يذخر بالأمن والأمان والسلم والسلام، أما حرية التفكير والرأي والاعتقاد فهي موكولة لكل فرد في أن يعتنق ما يشاء وحساب الخلائق والعباد على رب العباد، وتلك سمة كبرى من سمات هذا الدين في أنه يقيم جسور التواصل بطريقة متفردة ليحقق أسمى معاني التسامح الديني، لذا يزرع الإسلام في عقول أتباعه ركيزة هامة من ركائز الفهم لهذا الدين، وهي أن الأديان السماوية كلها تستقي من معين واحد يقول سبحانه: “شرع لكم من الدين ما وصىّ به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه..” فمصدر الوحي إذن واحد، ولهذا وجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين الذين أنعم الله عليهم بالنبوة والرسالة، فالمسلم الحقيقي -لا المزيف- يحمل الاحترام والحب الذي ليس له حدود لجميع أنبياء الله ورسله، ذلك الإحساس الرائع الذي لم تشاركنا فيه ملة أخرى، وذلك بوحي من مبادئ الإسلام ونبي الإسلام القائل: “أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة” قالوا: كيف يا رسول الله قال “الأنبياء إخوة من علات وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد فليس بيننا نبي”. كما يمنع الإسلام أتباعه من إكراه أحد على عقيدة معينة ويمنح كل إنسان مطلق الحرية في اعتناق ما يشاء بعد أن يمتلئ قلبه بالرضى والقبول لهذه العقيدة قال الله تعالى “لا إكراه في الدين”.. وقال تعالى “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” ولا شكّ أنّ الله تعالى قد أمدّ الإنسان بآلات الإدراك والفهم والتخيير كما قال عز وجل “ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين” فللإنسان أن يفكر وأن يستقصي ثمّ يتخير طريقه بعد هذا، وما على أتباع الإسلام ودعاته إلا البلاغ والإعلام فقط، وفي هذا السياق وضع الإسلام آداب الحوار مع المخالفين من أهل الكتاب أو غيرهم وحث أتباعه؛ بل أمرهم على عدم الاصطدام معهم، وأن يكون الحوار إيجابيا على سبيل التعاون المحمود على الخير بالإقناع غير المغرض بلا تدافع ولا تضاد، هكذا أمرنا الله تعالى حين يقول: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون” فقد جلس النبي الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، في محاورات تدور بين الطول والقصر مع أخلاط المخالفين للإسلام، وكانت مجادلته لهم تفيض بالسماحة والتوادد، ومن تأمل توجيهات القرآن الكريم في شأن التجادل في المسائل الاعتقادية مع غير المسلمين لوجد أنها ترسخ في نفس المسلم أعمق معاني التسامح الديني عامة، وذلك كما ورد في سورة “الكافرون” إذ الحوار فيها يبدأ بمحاولة الإقناع العقلي وبيان وجهة النظر التي لا تتغير، فإذا انتهى الحوار دون قبول من الآخر فلترفع جلسة النقاش على ودّ وسلام وبيان مطلق الحرية في استبقاء كل فريق على اعتقاده “لكم دينكم ولي دين”. وحرصاً على إدامة جوّ التآلف والاحترام المتبادل مع كافة الأطراف المخالفة فقد أمر الإسلام أتباعه باجتناب السبّ والمهاترة والتجريح في مجادلاتهم والسخرية من معتقداتهم، وذلك سدّا لأي منفذ يفتح أبواب الشقاق والصراع وحرصا على دوام العلاقات المتوازنة مع الآخرين؛ بل ويعلمنا الإسلام غض الطرف عن ما يبدو من المخالفين لنا في الاعتقاد حتى وإن أبدوا الإساءة لنا قال الله تعالى: “قل للذين آمنوا أن يغفروا للذين لا يرجون أيام الله”. ولعل الصورة قد بدت عن قرب ووضوح بأن التسامح الإسلامي في مجال الاعتقاد أمر قد حسم أمره في ديننا ولا مجال للمراوغة والتحريف من بعض المتنطعين الذين يحاولون إشعال الحروب الدينية من جديد، بعدما دفناها إلى الأبد.
لهذا قد أصبح اليوم من الضروري ومن الواجب إدراج الحوار الإسلامي المسيحي في المناهج التعليمية والتربوية، وعبر جميع مراحل التعليم من الابتدائي حتى الثانوي مرورا بالتعليم الجامعي وتحويله إلى مادة علمية لها موقعها المميز في مشاريع الدول والمنظمات والأحزاب، وبدل وضع نظرية (صدام الحضارات) والنفخ فيها من قبل الأشرار وتجار الخروب كان من المفروض، وخاصة من المؤمنين والمخلصين والعقلاء من جميع أبناء الديانات السماوية وضع دراسة علمية تؤسس من خلالها نظرية (حوار وتعايش الحضارات والديانات)، وفي هذا السياق وتماشيا مع تعاليم القرآن الكريم الذي أعلن في آيات تتلى إلى قيام الساعة أن أصل العلاقات بين الأمم والشعوب والحضارات التعايش لا التصادم في قوله تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” وقوله تعالى: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. جاءت مبادرة (كلمة سواء بيننا وبينكم) سنة 2006 للحوار بين الأديان السماوية بمشاركة ومباركة عدد هائل من علماء الإسلام في مختلف أرجاء المعمور، واستجاب لهذه المبادرة ما يزيد عن 300 عالم دين مسيحي من مذاهب مختلفة بصياغة خطاب طويل تحت عنوان: (حب الله والآخر)؛ لكن الظاهر هذا الورقة البحثية لعلماء المسيح أقلقت زميلهم في الميدان وهو عالم اللاهوت الأمريكي “ألبرت موللر” رئيس المعهد الجنوبي للاهوت التعميدي معترضا عن هذا الحوار الإسلامي المسيحي، في حديث إذاعي ألقاه بعض انتهاء المؤتمر بشهور، مبينا سبب اعتراضه من منطلق أن هناك خلطا بين المفهومين الإسلامي والمسيحي عن الله، لم يتنبه إليه الطرف المسيحي، إذ بحسبه فإن المبادرة الإسلامية قد أشارت إلى الإيمان بإله واحد مشترك بين الديانتين كأساس للحوار، وهو ما يعارضه “موللر” مبينا أن المسلمين يؤمنون بعيسى كنبي ولا يؤمنون به كإله؛ وهذا ما لم ينتبه إليه الطرف المسيحي، معاتبا إياهم عن عدم توضيحهم للفهم المسيحي للرب وفقا لعقيدة التثليث المسيحية المبنية على (الأب والابن والروح القدس). كما هاجم زملاءه من رجال الدين المسيحي لاعتذارهم للمسلمين عن الحروب الصليبية والعنف الممارس ضدهم خلال الحرب على الإرهاب موضحا بقوله: إنه خلال الحروب الصليبية قد ارتكب الطرفان أخطاء على نفس الدرجة من الفداحة.. وأنه لولا تلك الحروب الصليبية لكانت أوروبا الآن قارة مسلمة ولألقيت عليكم هذا الخطاب بالعربية. أما الحرب على الإرهاب فيعتبرها ليست حربا دينية وإنما أمريكا هي المسؤولة عليها ولا ينبغي للمسيحيين أن يعتذروا للمسلمين بسببها..!!. هذه التصريحات المتشنجة التي ادلى بها “ألبرت مللر” استقبلت بالرفض من طرف الكثير من علماء الدين المسيحي، وفي مقدمتهم عالم اللاهوت الأمريكي البروتستانتي “بول نيتر” في ورقة بحثية قام بعرضها بمؤتمر الإسلام والغرب الذي عقد سنة 2015؛ بحيث يعتبر “نيتر” أن اللاهوت يمكن أن يكون مدخلا مباشرا لحوار الأديان، فيقول: (إنني أريد أن أستكشف كيف أن اللاهوت، والذي كان دائما سببا للتوتر بين الأديان، يمكن أن يكون سببا أعظم للوفاق ومصدرا أرحب للتصالح بينها.. إننا إذا ما واتتنا الشجاعة للتعرف على الكيفية التي صار بها اللاهوت والمعتقدات سببا للإشكال، فسوف تواتينا القدرة على التأكيد مجددا على إمكانية أن تكون هي الحل) ومن أجل تحقيق ذلك يتبع “نيتر” منهجية ومقاربة يحاول أن يثبت من خلالها أن الإسلام والمسيحية هما ديانتان شقيقتان تاريخيا ولاهوتيا، مستشهدا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد) ولهذا يصل “نيتر” إلى أن الإسلام والمسيحية لهما مصدر واحد كما ينتهيان لأب واحد هو إبراهيم عليه السلام، ويعتبر أن اليهودية هي الأب الروحي للإسلام والمسيحية والذي تجسدت فيه نظرية “شعب الله المختار” التي يعتقد اليهود بموجبها أن الله قد اختارهم وفضلهم على العالمين -كما هو مبين في القرآن- للنهوض برسالة محددة، ولما انحسر الدور التاريخي لليهودية كديانة وانكمشت على ذاتها فقد آل إرث “شعب الله المختار” إلى الأخين الشقيقين: الإسلام والمسيحية وأصبح التنافس بينهما سجالا يدور حول من سيؤول إليه إرث اليهودية، أي من سيصبح شعب الله المختار؟ هنا في رأي “نيتر” تكمن المشكله؛ بحيث كلتا الديانتين لا يعتقدون أن الله قد أناط معتنقي كل ديانة برسالة مختلفة عن تلك التي أسندها إلى أصحاب الديانة الأخرى، أما عقيدة التثليث عنده لا تتنافى مع عقيدة التوحيد الإسلامية؛ حيث إنها لا تعني وجود ثلاثة آلهة ولكن تجلي الله في صور ثلاثة، على عكس ما تمسك به “موللر”. وهو يرى أن ذلك يقترب من تعدد صفات الله في الإسلام؛ حيث لله تسعة وتسعون اسما وكلها تشير إلى إله واحد. وهكذا فإن الوحدانية لا تنفي التنوع في كلتا الديانتين. ويرى “نيتر” حسب رأيه الخاص أن الخطاب القرآني أكثر وضوحا في هذا الصدد من العهد الجديد حيث يشير القرآن بوضوح إلى اعتبار التنوع سنة من سنن الله وذلك في مواضع عدة يذكر منها: “.. لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولوشاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ..”.
وخلاصة القول، فالحوار الإسلامي المسيحي يحتاج إلى المزيد من الجهد والاجتهاد لإقناع بعضنا بعضا بأهميته وفوائده وضرورته الدنيوية والدينية على حد سواء، دون التغاضي عن دور الغرب المسيحي في تسهيل مهمة هذا الحوار ودفع عجلته إلى شاطئ الأمان، نظرا لما تكنه النزعة التبشيرية الغربية من عدائية وتعال تجاه كل ما هو إسلامي؛ أدى من وراء هذا غزو معظم البلاد الإسلامية والعربية في العصر الحديث..! فالأمر جد خطير فإذا لم نتحاور ونتعايش ونتعاون في ما بيننا على الخير والصلاح في إعمار أرض الله الواسعة، بما ينفع خلقه وعياله، فسنسقط في مشاريع وفخاخ دواعش الشرق والغرب للعبث بمستقبل البشرية وبالسلم العالمي وبأمننا الروحي والاجتماعي والاقتصادي..